إسلام ويب

من آداب النبوة (1)للشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأدب والتحلي بالأخلاق الحميدة من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم, بشهادة الناس والتاريخ, بل بشهادة الله سبحانه, ولأنه القدوة والأسوة صلى الله عليه وسلم, كان لزاماً على كل مسلم أن يتبعه ويسير على خطاه .

    وقد سلك الشيخ للوصول إلى تلك الأخلاق والآداب أعظم طريق موصل إلى ذلك, وهو كتاب الإمام البخاري: الجامع الصحيح الذي يعد المصدر الأول لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    وبعد أن تكلم الشيخ عن الأدب واستخدام لفظه, اقتبس من كتاب الأدب أبواباً مهمة وتكلم عنها، وهي كالتالي: باب البر والصلة, باب من أحق الناس بحسن الصحبة, باب لا يجاهد إلا بإذن الوالدين, باب لا يسب الرجل والديه, باب عقوق الوالدين من الكبائر.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعـد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    كتاب الأدب في صحيح البخاري

    معنا في هذه الليلة أول الأحاديث من كتاب الأدب من صحيح الإمام البخاري حياه الله وبياه، وأنزله أحسن المثوى في دار النعيم، ورفع درجته بما رفع للأمة من سلامة في هذا الكتاب الصحيح.

    يقول رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الأدب، باب البر والصلة، وقول الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت:8] ثم قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، قال الوليد بن عيزار أخبرني، قال: سمعت أبا عمرو الشيباني، يقول: أخبرنا صاحب هذه الدار وأومأ بيده إلى دار عبد الله، قال: {سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني}.

    أولاً: للبخاري رحمه الله تعالى كتابٌ منفصل اسمه الأدب المفرد، فيه الحديث الصحيح والحسن، وربما كان فيه الضعيف، وفيه الموقوفات على الصحابة وعلى بعض التابعين، والأدب أتى به في صحيحه غير كتابه المستقل؛ لأنه جعل كتابه الصحيح يضرب في كل غنيمة بسهم، فهو كلما انتهى من باب فتح جبهةً أخرى، ليكون كتابه -إن شاء الله- من أكبر المصادر في الإسلام.

    وقد تكرر معنا في بعض الدروس، أن شيخ الإسلام ابن تيمية سئل في المجلد العاشر من الفتاوى: أي كتاب يكون أنفع في طلب علم الحديث؟ قال: لا أعلم كتاباً أنفع ولا أكثر إفادة بعد كتاب الله وصحيح البخاري.

    فهذا الكتاب ثروة عظيمة عند من يعرف الثروات.

    تعريف الأدب

    الأدب اختلف في تعريفه، ونحن نحاول أن نقترب من التعريف المسدد بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي التعريف سعة، وليس فيه مشاحة بين أهل العلم، قيل: الأدب استعمال ما يجمل من الأقوال والأعمال والأحوال.

    وقيل هو: أن تكون رضي الخلق سهل الطبيعة.

    وقيل: هو أن تكون متأدباً بأدب الله الذي أنزله على رسوله وهذا تعريف لأهل الإسلام.

    وقيل: هو أن تكون على تعاليم الكتاب والسنة، وعلى ما أتى به المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو مثل الذي قبله.

    وقيل الأدب: هو ألا تخرج من الدين بفسق -نعوذ بالله- ولا من المروءة بخارمٍ، ويستحق هذا التعريف أن يكون عند أهل الجرح والتعديل.

    الأدب فيه الواجب وفيه المستحب، والأدب -بارك الله فيكم- صبغة يجعلها الله ويحليها من يشاء سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    فالأدب ليس هو الشعر الذي تسمعونه، لا الحر ولا الحداثي، فهذا أمر آخر، لكن أهل الإسلام والحديث والتفسير والسير والفقه إذا تحدثوا عن الأدب فمعناه ما يجمل أو يحسن من الأقوال والأعمال الظاهرة والخفية، وأحسن ما يروض المسلم عليه في الأدب كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أشار القرآن إلى كثير من الآيات في الأدب، قال لقمان لابنه وهو يعظه عليه السلام: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] وهذا أدب.

    لأن العجيب أن وصية لقمان عليه السلام لابنه، بدأت بالعقائد، ثم العبادات، ثم الأخلاق والأدب والسلوك، فقال: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] عقيدة، وقال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] عبادات، ثم قال: واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19] أدب، وهذا هو الأدب الذي يريده الله عز وجل من الناس.

    نموذج لأهل الأدب الشرعي

    قال ابن المبارك رحمه الله: طلبنا الأدب حيث لا مؤدبين، فهو يشكو حاله على عصره، يقول: طلبنا الأدب حيث لا مؤدبين، يقول: ما وجدنا من يؤدبنا، ونحن في الكبر أصبحنا شيوخاً، وقد اشتعلت رءوسنا شيباً، فأصبحنا نطلب الأدب، فكيف لو رآنا عبد الله بن المبارك في هذا العصر! فهو في عصر تابعي التابعين، وكان معه مؤدبون وأخيار، وعلماء وفقهاء ومحدثون وزهاد وعباد ويشكو من حاله، يقول: طلبنا الأدب حيث لا مؤدبين.

    وكان عبد الله بن المبارك هذا من آدب الناس، ولا بأس أن نسرح قليلاً مع عبد الله بن المبارك وللذهبي كتاب اسمه قضِّ نهارك بأخبار ابن المبارك، يقول الذهبي في تذكرة الحفاظ: والله! إني لأحبه لما جعل الله فيه من العبادة والزهد والعلم، أو كما قال.

    عبد الله بن المبارك كان من أحسن الناس أدباً، وكان يضع كلمات أدبية نثرية وشعرية في منهج الأدب، يقول من ضمن أبياته:

    وإذا صاحبت فاصحب ماجداً     ذا عفاف وحياء وكرم

    قوله للشيء لا إن قلت لا     وإذا قلت نعم قال نعم

    وهذا يسمى أدب الموافقة، أن يوافقك الشخص في غير معصية؛ لأن بعض الناس من قلة أدبه يحب الخلاف فيما لا فائدة فيه، إن قلت: نجلس تحت هذه الشجرة، قال: هذه أحسن، وإن قلت: ننطلق الساعة السابعة، قال: لو تأخرنا للثامنة كان أحسن، وإن قلت: ما رأيك نتكلم ربع ساعة، قال: لو كان ثلث ساعة كان أحسن، لا لشيء؛ لأن المسألة متقاربة ولكن حب الخلاف، وهو الذي ينعاه ابن المبارك على أهل عصره في القرن الثالث، فكيف لو رآنا في القرن الخامس عشر.

    ابن المبارك رحمه الله رحمة واسعة، كان يترنم بأبيات في الأدب كثيراً، وكان في أكثر أبياته، يعلم الناس الزهد والسيرة والأخلاق، وهو بمجمله يسمى الأدب، خرج من مكة وترك الفتيا، وأخذ بغلته، فقال له الناس: أتترك الحرم وتخرج للجهاد؟ قال:

    بغض الحياة وخوف الله أخرجني     وبيع نفسي بما ليست له ثمنا

    إني وزنت الذي يبقى ليعدله     ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا

    أمثلة أخرى لأهل الأدب

    وكان من أفضل الناس قولاً في الأدب الإمام الشافعي، ولذلك سجل له الإمام الذهبي أكثر من عشر نقاط تكلماً على الأدب، يقول: والله الذي لا إله إلا هو لو أنقص الماء البارد من مروءتي ما شربته -لو كان الماء البارد ينقص من المروءة ما شربته-.

    وكان من أدبه أنه ما بصق عن يمينه ولا عن يساره أبداً، فكان يخفي بصاقه، قال: وما مد رجله مع الجليس من أدبه أبداً، قال: وما قاطع أحداً في كلامه حتى ينتهي.

    وهذا أدب الكتاب والسنة، وإنما تعلموا الأدب من المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي نحن بحاجته أحوج إلينا من كثير من العلم.

    يقول أحد أهل العلم: ينبغي أن يكون أدبك كالدقيق وعلمك كالملح، قال بعض المتأخرين: فما أصبح عندنا لا دقيق ولا ملح.

    وقال عامر الشعبي: لا يطلب العلم إلا رجلان عاقلٌ وناسك، فإن طلبه عاقل بلا نسك -بلا دين- قالوا: هذا أمرٌ لا يتحصل عليه أبداً، وإن طلبه ناسكٌ بلا عقل، قالوا: هذا أحمق لا يحصل على شيء أبداً، وإنما يطلب الفهم العاقل والأديب الذي يتقي الله عز وجل، ورأس الحكمة مخافة الله، ومن لا يخاف من الله فلا أدب له أبداً.

    ولذلك أخطأ كثيرٌ من أهل الأدب، كـ ابن عبد ربه وابن قتيبة في عيون الأخبار وفي العقد الفريد، يوم ذكروا أدب كسرى، وقالوا في وصف بعض الأئمة: كأن هذا الإمام أدَّبه كسرى، سبحان الله! أكسرى أصبح مؤدباً؟! أصبح الدجال مؤدباً ومسيراً للأمة ومعلماً وفقيهاً؟! لا والله، لكنه أدبه محمد عليه الصلاة والسلام، فهذه مسألة الأدب.

    وممن نقل عنه الأدب معاذ رضي الله عنه وأرضاه، ذكروا عن أدبه الجم الكثير.

    فقد كان من حيائه لا يعمد بصره لجليسه حياءً وأدباً وتقوى ورعاية للجليس، وهذا نحن بحاجة إليه جد الحاجة، وأحوج ما نكون إليه أن نربي أطفالنا على الأدب الذي أتى به محمدٌ عليه الصلاة والسلام، وهناك ما يقارب مائة حديث في الأدب، سوف يسوق منها البخاري ما لذ وطاب، من الثمر المستطاب، في كل فن في الطعام، والشراب، والمنام، والإياب، والذهاب، كأنها أخذت من أم الكتاب، فجزاه الله خيراً وأسبل على قبره شآبيب السحاب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088522820

    عدد مرات الحفظ

    777113440