سبق أن تكلمنا عن فضل سورة البقرة وعظيم شأنها، وانتهينا إلى ذكر الآيتين الدالتين على البعث والنشور، وهما قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] الآيتين، وتكلمنا إجمالاً عن آية التحدي، وهي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وكان الحديث في آخر اللقاء الماضي مجملاً، وفي هذا اللقاء بإذن الله تعالى سنفصل مبتدئين بقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]: هذا من أعظم المطالب الشرعية في القرآن؛ لأن عبادة الله جل وعلا هي الغاية من خلق الثقلين، والرب جل وعلا ينادي عباده أجمعين هنا بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ثم استدل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، فلما أراد الله أن يثبت أنه وحده المستحق للعبادة ذكر جل وعلا أولاً أنه وحده هو الخالق، فمن أعظم الأدلة على توحيد الألوهية أنه لا خالق غيره.
وقد مر معنا في أمور كثيرة أن الله جل وعلا حكم بين خلقه وقرر بين عباده أن من له الخلق هو الذي يستحق العبادة، وقد استقر عقلاً ونقلاً لكل ذي فطرة أن الله جل وعلا وحده هو الخالق فقال سبحانه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17] ، وقال تبارك وتعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان:3] ، وقال: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11] .
فذكر الله جل وعلا أن إيمانهم بتوحيد الربوبية ينبغي أن يكون طريقاً إلى توحيد الألوهية، وأن الإيمان بتوحيد الربوبية وحده دون أن يستدل به على توحيد الألوهية وتطبيقه وإفراد الله جل وعلا بالعبادة لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، ولا ينفع صاحبه البتة.
قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، ولفظ الألوهية يطلق إذا أريد به الإخبار عن حق الله على عبده، ولفظ الربوبية يطلق إذا أريد به حق العبد على ربه، فالله جل وعلا لما أراد أن يؤوي موسى ويذهب عنه الهم والحزن والخوف قال له: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12] فلما أراد أن يكلفه قال له: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، فلما أراد الله أن يبين ما أفاءه على خلقه قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، فذكر جل وعلا هنا فضله ونعمه ومنته على خلقه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فذكرهم جل وعلا بأنه وحده هو خالقهم وخالق آبائهم من قبل.
ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22] تطئونها وتسيرون فيها، وتغدون وتروحون في فجاجها، وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22] .
ثم قال: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [البقرة:22] والمطر لا ينزل من السماء، وإنما ينزل من السحاب، لكن باعتبار أن السحاب قريب من السماء في العلو -والسماء في اللغة: كل ما علا وارتفع- نسبه إليه.
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة:22] لماذا؟ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] وهذا من تعاهد الله جل وعلا لخلقه، فلما أثبت الرب جل وعلا أنه وحده الخالق، وأنه وحده الرازق، كان حرياً بهم أن يفقهوا أنه ينبغي أن يكون وحده هو المعبود.
وقال جل وعلا بعد ذلك ناهياً عباده أن يشركوا به: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]؛ لأن الند لا بد أن يكون فيه وصف للمندود، فبما أنه قد تقرر عقلاً ونقلاً أنه لا خالق إلا هو، ولا رازق إلا هو، ولا محيي ولا مميت إلا هو، فكيف يكون له ند؟! ولهذا قال: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن مفعول تعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه، والمعنى: وأنتم تعلمون أنه لا ند له سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] .
وقلنا: إن هاتين الآيتين تضمنتا أدلة البعث والنشور إجمالاً، ومشركو العرب جملة ما أنكروا شيئاً مثل إنكارهم للبعث والنشور كما قال الله: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]، وقد قامت الأدلة في القرآن على إثبات البعث والنشور، وهي مجملة في ثلاث:
الأمر الأول: الخلق الأول، وعبر عنه هنا بقوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] وشرحه وأظهره وفصله في سور أخر: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104] .. أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15].
الأمر الثاني: خلق ما هو أكبر منهم، وأشار إليه هنا بالسماء، وفصله في سورة غافر: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] .
الأمر الثالث: النظر في المتشابهات، قال هنا: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، وهذا إحياء للأرض الميتة، وفصله في سور أخرى: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39]، وهذا كله من أجل إقامة الحجة وإظهار المحجة حتى لا يكون للناس عذر، ويكون المهتدي على بينة من أمره.
والذين تحداهم الله ليسوا قوماً عيّين، وإنما هم أرباب فصاحة وأئمة بلاغة عرفوا بذلك، ومع ذلك قال الله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88]، فالعرب كان لا يقوم لهم سوق يفتخرون به كسوق البلاغة والفصاحة ومع ذلك تحداهم الله في الشيء الذي يحسنونه ويتقنونه ويجيدونه، لكن أنى لهم أن يأتوا بمثله، وأنى لمخلوق أن يأتي بكتاب يماثل كتاباً أنزله الخالق؟! محال أن يأتي مخلوق بقول أو كتاب يماثل قول أو كتاب الخالق تبارك وتعالى.
وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] وعبدنا المقصود به النبي صلى الله عليه وسلم فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23].
وهنا جيء بـ: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) إطناباً حتى يكون إمعاناً في التحدي وبياناً لعجزهم، وقد قلنا من قبل: إن هذا الأمر أو هذا القول أو هذا الحكم لا يمكن أن يقوله أحد غير الله، ومثله قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] كما حررنا الكلام عنها في موضعه.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] فالله جل وعلا خلق ناراً أرادها نكالاً ووبالاً لمن عصاه، وسيأتي الحديث عنها عند ذكر الآيات المختصة بتفصيل النار.
وهنا قال: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ [البقرة:25] الآمر بالبشارة هو الله، والمكلف بالتبشير محمد صلى الله عليه وسلم، والمبشَّر المؤمنون، والمبشَّر به: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [البقرة:25] .
قطاف الجنة دانية، يرون الثمرة ويقطفونها ويأكلونها فتنبت غيرها، فإذا نبت غيرها نظروا إليها، فهذه التي نبتت هي في هيئتها مثل التي قطفت تماماً، لكنها غيرها في الطعم، هذا أصح ما قيل في هذه المسألة.
وقيل: إنها مقارنة بين ثمار الدنيا وثمار الآخرة، وقيل غير ذلك، لكن أظهر ما قيل هو ما حررناه: أنهم يرون الثمرة ويقطفونها ويأكلونها وتنبت غيرها، فإذا نبت مكانها غيرها تكون شبيهة بالأول، فإذا استطعموها مرةً أخرى وجدوها مخالفة للأولى، وهذا معنى قول الله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا)، ولم يقل: متماثلاً، والفرق أن خيار الدنيا حسن وأحسن، أما خيار الجنة لا رذل فيه، وعبارة: خيار الجنة لا رذل فيه منسوبة لـقتادة بن دعامة السدوسي أحد المفسرين المشاهير، وقد كان أكمه -أعمى- رحمه الله رحمة واسعة.
وقوله: (كُلَّمَا) لغوياً تفيد الاستمرار، ومن الأخطاء الشائعة في الاستعمال أن الناس يكررونها يقولون: كلما ذهبت إلى زيد كلما وجدت عمراً عنده، هذا خطأ، إنما تذكر كلما في الأول فقط ولا تكررها كما قال ربنا: (كُلَّمَا رُزِقُوا) أي: المؤمنون مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، وضمت اللام في (قبل) لأنها مبنية على الضم لانقطاعها عن الإضافة، فإذا أضيفت أصبحت اسماً معرباً تجري عليه الأحكام، كقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النور:58] ووَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ [النور:58]، فقبل وبعد هنا جرت وعوملت معاملة الاسم المعرب لأنها أضيفت، فإذا انقطعت عن الإضافة انتقلت من كونها اسماً معرباً تجري عليه الحركات إلى كونها اسماً مبنياً.
قال الله تعالى: قَالُوا [البقرة:25] أي: المؤمنون هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ [البقرة:25] أي: المؤمنون فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25] مطهرة من كل سوء، خذها بعمومها أفضل، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] لأنه لا ينغص في الدنيا إلا الموت؛ ولهذا ينادى أهل الجنة: (أن حياة بلا موت) .
إيجاز اللفظ، ودقة التشبيه، وإصابة المعنى، وهذا مر معنا في شرحنا لقول الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور:35] .
هنا الله جل وعلا يخبر أن الغاية من ضرب الأمثال: إظهار الحق وإقامة الحجج، والأمثال لا بد أن تكون قريبة من الناس واضحة، فلا يستنكر أن الله قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا [الحج:73] فعبر بالذباب؛ لأن الذباب أمر معروف لا يختلف الناس فيه، وكذلك البعوض، والمقصود إقامة الحجة وإيضاح المحجة، وهذا لا يكون إلا بالشيء المتعارف عليه.
والناس في تلقيهم لخطاب القرآن فريقان:
فريق يؤمنون كما قال الله في العظماء من أهل الإيمان: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] وأما غيرهم فيصيبهم الشك: فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26] فيأتي الجواب، قال الله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26] إذا نزلت الأمثال القرآنية والحجج الإلهية اختلف الناس فيها، وأهل الفسق يضلون عنها.
ثم ذكر الله جل وعلا جملة من صفاتهم: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27] وأعظم ما أمر الله به أن يوصل الرحم وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:27].
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا) أي: في العدم، (فَأَحْيَاكُمْ) الحياة التي تعيشونها، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بانفصال الروح عن الجسد (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي: بالبعث والنشور (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وهذا أصوب ما قيل فيها.
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29] أقرب السماء إلينا تسمى السماء الدنيا؛ لأنها دانية إلينا، وأعلاها السماء السابعة، وهي معمورة بالملائكة.
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] .
هذه الآية يمكن تناولها من عدة وجوه:
هذا الأمر كان قبل أن يخلق الله جل وعلا آدم، أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض خليفة، قال بعض العلماء: إن آدم خليفة بمعنى: خليفة الله في الأرض في إعمارها، وهذا لا يستقيم شرعاً، ولا أرى أنه ينبغي أن يقال به؛ لأن الخليفة عن الشيء يكون من جنسه، وآدم مخلوق والله خالق، فنستبعد أن يكون المقصود بخليفة أي: خليفة عن الله.
ننتقل إلى مسألة أخرى: هل خليفة هنا بمعنى خليفة عمن سبق فيكون المعنى آدم خليفة عن غيره، أو خليفة اسم جنس أفرد أريد به الجمع، فيصبح الكلام ليس عن آدم بل عن ذريته التي من بعده.
على القول بأنه خليفة عمن كان يعمر الأرض، فقد ذكر المؤرخون أن الجن كانت تعمر الأرض، وهذا يستقيم نوعاً ما باعتبار أن الجن وآدم كلاهما مخلوق، وهذا القول عندي بعيد وإن كان قال به كثير من العلماء.
والظاهر أن خليفة هنا اسم جنس مفرد يراد به الجمع كقوله تعالى: خَلائِفَ فِي الأَرْضِ [يونس:14] ويقال: خلفاء الأرض، يعني: سأجعل من آدم ذرية يخلف بعضهم بعضاً، هذا معنى كلام الله لملائكته، فأين الدليل على أن اسم الجنس المفرد في اللغة أو في القرآن من باب أولى يأتي والمقصود به الجمع؟
قال الله في خاتمة سورة القمر: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر:54] فأفرد نهر وقصد أنهاراً؛ لأن جنات جمع وأنهار جمع لكنه أفردها؛ لأنها اسم جنس، والدليل على أنه أراد أنهاراً أنه قال في آيات أخر: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الأعراف:43]، وهذا القول اختاره ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو أن خليفة هنا: اسم جنس أريد به الجمع، والمقصود به ذرية آدم، هذا تفصيل معنى خليفة.
قال القرطبي رحمه الله وغيره من العلماء: إن هذه الآية أصل في أن يتخذ الناس إماماً وخليفة.
ويتفرع عن هذا مسألة: هل اتخاذ الخليفة واجب بالشرع، أو واجب بالشرع والعقل، أو واجب بالعقل؟
قالت الشيعة الإمامية الإثنا عشرية: إنها واجبة بالعقل، وقال بعض العلماء: إنها واجبة بالشرع، والصواب: أنها واجبة بالشرع والعقل، هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية: ما هي طرائق أو صور تنصيب الإمام والخليفة شرعاً؟
لها عدة صور:
الصورة الأولى: إجماع أهل الحل والعقد، أو اتفاق أكثرهم عليه، مثاله: خلافة الصديق ، فإن الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار أجمعوا على خلافة أبي بكر ، هذا على القول بأن أبا بكر لم ينصبه النبي صلى الله عليه وسلم.
الصورة الثانية في تنصيب الخليفة المسلم: أن يوصي له من قبله، مثاله: خلافة عمر ، فقد أوصى له أبو بكر بأن يكون خليفةً من بعده، كما وصى عمر للستة من بعده.
فإذا اتفقنا على إمام له بيعة شرعية وأوصى لواحد من بعده فأنت مطالب بما قاله الإمام الأول؛ لأن الأمام الأول له بيعة، فقوله نافذ، فإذا وصى لمن بعده فلا حاجة لأن تأتي بأهل الحل والعقد على الثاني، واضح؟ فلما وصى أبو بكر لـعمر لم يجتمع الناس ليقرروا هل يوافقون على عمر أو لا يوافقون؛ لأن الأول كان له بيعة شرعية، وبدهي جداً أن يكون مما أمرنا بطاعته فيه اختياره لمن بعده.
الصورة الثالثة: أن يتغلب على الناس بسيفه وقوته، يأتي إنسان ويمكن له في الأرض بسيفه وقوته، ومثلوا بخلافة عبد الملك بن مروان ، فإن عبد الملك بن مروان لم يوصي له من قبله، ولم يجتمع عليه أهل الحل والعقد، وإنما غلب الناس بيد الحجاج ، فلما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير دانت الأرض الإسلامية لـعبد الملك بن مروان .
هذه الحالات الثلاث التي يكون بها تنصيب الإمام المسلم، وقلنا: إن هذه الآية أصل في قضية الخلافة.
وآدم هو أبو البشر عليه السلام، وهو نبي مكلم كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ [البقرة:31] أي: الأسماء عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ [البقرة:31] قال الشنقيطي رحمه الله في التفسير: المقصود: المسميات.
إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ [البقرة:31-32] وهذا من أدب الملائكة عند ربها قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32] فالإنسان إذا سئل عما لا يعلم لا يضره أن يقول: لا أعلم، فقد قالت الملائكة بين يدي ربها: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33] هذا حوار كان في الملأ الأعلى بين الرب جل جلاله وبين ملائكته، ويظهر فيه علم الله جل وعلا الذي يحيط بكل شيء، وعجز علم المخلوقين ولو كانوا ملائكة مقربين، وهذه أشياء ظاهرة لا تحتاج إلى تعليق أكثر من هذا.
الله جل وعلا يمن على من يشاء بفضله، أمر ملكاً من الملائكة أن يقبض قبضة من الأرض، وهذه القبضة مزجت بطين، ثم خلق منها آدم، ثم نفخ الله جل وعلا في آدم فدبت فيه الروح، ثم أمر الله جل وعلا الملائكة بالسجود له.
والأمر بالسجود له أمر رباني، والملائكة كلهم سجدوا طاعة لله وتحية لآدم، وليس السجود لآدم عبادة له، فنحن مثلاً في الصلاة نسجد تجاه القبلة فنحن لا نعبد الكعبة وإنما نتعبد الله بالسجود إلى جهة الكعبة، ونرفع أيدينا إلى السماء ونحن لا نعبد السماء لكن نتعبد الله برفع أيدينا إلى السماء؛ لأن ربنا في السماء، فسجدت الملائكة إجلالاً لله وإكراماً لآدم.
وكان إبليس وقتها يغدو ويروح مع الملائكة، هذا الذي يدل عليه ظاهر القرآن ولم يكن من الملائكة، يعني: لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين، وقد بينا في سورة الكهف القرائن والأدلة على أنه ليس من الملائكة، فقد عصى والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، وهو مخلوق من نار، والله جل وعلا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مخلوقون من نور، وقد قال الله في القرآن: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف:50].
ولما أمر الله الملائكة بالسجود امتنع إبليس، والسبب في المنع القياس: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، فجعل إبليس المخلوق من عنصر النار أفضل من المخلوق من عنصر الطين، فأدخل القياس مقابل النص، ومن هنا أخذ الأصوليون: أن القياس إذا عارض النص يسمى قياساً فاسد الاعتبار، فلو سلمنا جدلياً أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين فلا سبيل إلى أن نرد نصاً وهو قوله: (اسْجُدُوا) بهذا القياس.
والخلف في النص والإجماع دعا فاسد الاعتبار كل من وعى
يعني: كل من وعى من العلماء، دعا يعني: سمى مخالفة النص والإجماع قياساً فاسد الاعتبار، وأول من اتخذه طريقاً إبليس.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] أبى: امتنع، واستكبر: دخله الكبر، والكبر أول ذنب عصي الله جل وعلا به، تلبس به إبليس فاستكبر، كما تلبس آدم بالحرص فأكل من الشجرة، وكما تلبس قابيل بالحسد فقتل أخاه، مع الفوارق في الذنوب، فكل ذنب عصي الله به مرده إلى أحد هذه الثلاث: إما الكبر، وإما الحرص، وإما الحسد، قال ابن القيم رحمه الله: أصول الخطايا ثلاثة: الكبر والحرص والحسد.
بعد أن خلق الله جل وعلا آدم خلق منه زوجه حواء، واختلف العلماء: هل كان خلق حواء بعد دخول آدم الجنة أو قبل دخولها وهذا حررناه في سورة طه.
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا [البقرة:35] بألف التثنية الخطاب للاثنين.
مِنْهَا [البقرة:35] أي: من الجنة.
رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا [البقرة:35] ثم جاء الابتلاء القرآني: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35] والله لم يذكر ما هي الشجرة.
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35] لأنفسكما بأكلكما لها.
فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [البقرة:36] أي: من نعيم الجنة.
وَقُلْنَا اهْبِطُوا [البقرة:36] بواو الجمع، وحررنا مسألة هل الجنة التي كان فيها آدم هي الجنة التي في السماء السابعة أو جنة في السماء الدنيا أو جنة في الأرض؟ هذا كله مر معنا.
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36] قال بعض العلماء: إن مما أهبط الحية، واحتجوا بأن الله قال: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) بقرينة أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الحيات قال: (ما سالمناهن منذ حاربناهن) فإبليس عدو بالاتفاق، والحيات دلت السنة على عداوتها، فلا يستبعد أن تكون الحية أهبطت معهم؛ لأن المشهور عند المؤرخين أن إبليس عندما وسوس لآدم دخل الجنة في خياشيم الحية، وهذا من مليح القول لا من متين العلم، ولا يتعلق به أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب، فلا تعنف إذ لم تقبله ولا حرج عليك إن قبلته.
وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة:36] أي: ما كتبه الله جل وعلا للناس أن يبقوا.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37] أي: ربه، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37] وقد جعل الله جل وعلا باب التوبة مفتوحاً حتى لا يأخذ أحد صورة كاملة عن نفسه قبل أن يموت، يعني: لا توجد نهاية لك تصل إليها، فالإنسان معرض للطاعة، ومعرض للمعصية (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
وهذه لها نظائر كثيرة في القرآن، مجملها يدل على أن الله جل وعلا أنزل آدم، فلما اجتالت الناس الشياطين بعد عشرة قرون من نزوله أرسل الله الرسل بدءً بنوح وختاماً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل مع هؤلاء الرسل الهدى والنور والبيان، ثم أخبر عباده من قبل ولاحقاً أنه من آمن منهم واتبع ذلك الهدى الذي أنزله فلا خوف يعتريه عند الموت، ولا حزن ينتابه بعده، وأما من غلبت عليه شقوته وكذب ما أنزله الله واتبع هواه وأفرط على نفسه فأولئك أصحاب النار، هي مستقرهم وهم فيها خالدون، أما أهل الجنة فلهم فيها: أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] والله جل وعلا حكم عدل، ورب ذو فضل، وهذه أمور أخبر الله جل وعلا بها لتقوم بها الحجة على عباده.
والله جل وعلا جعل الراية في قيادة البشرية راية روحية، فكل أمة حملت الدين صدرها الله جل وعلا، فصدر الله بني إسرائيل في حقبة من الدهر: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32] فلما زاغوا، وقتلوا الأنبياء، وانحرفوا عن طريق الله جل وعلا؛ سلب الله منهم هذه الراية وقيادة الناس وزمام البشرية وأعطاه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فحتى تكون هذه الأمة على بينة من أمرها وفي سيرها على طريق الله أكثر الله جل وعلا في القرآن من خبر بني إسرائيل.
وقول الله جل وعلا هنا: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40] هي أول آية وفق ترتيب المصحف الذي بين أيدينا تتحدث عن بني إسرائيل، وستأتي بعد ذلك آيات كثيرة في أحوالهم وأخبارهم مع أنبيائهم على وجه الخصوص حتى تعرف أمة محمد التي أعطاها الله قيادة البشر ما أخطأ فيه السابقون فيجتنبوه، وما ساد به السابقون فيأخذوا بزمامه، وهذا كله من دلائل قول الله في أول السورة ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، فمن هداه ما ضرب الله فيه من أمثال، وما أخبر الله فيه من أخبار، وما قص الله فيه من قصص، وما بين الله فيه من شرائع، حتى يتعظ به الحاضر والباد إلى يوم يقوم فيه الأشهاد ويحشر فيه العباد.
جعلنا لله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وجعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بهذا القرآن ويعمل به، وأسأل الله لي ولكم التوفيق.
هذا ما تهيأ إيراده، وأعان الله على قوله، وهو وحده الموفق والمسدد، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر