إسلام ويب

سهام الليلللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأمة اليوم تعيش في ذل وهوان، ولا يمكن أن تنتصر إلا بقربها من الله، وبدعائها إياه.

    والدعاء له آداب، وله أوقات هو فيها أرجى من غيرها، وقد أتقن السلف رحمهم الله استخدام هذا السلاح لينصروا به دين الله عز وجل، وما ذلك إلا لأنهم أخذوا بأسبابه، وعرفوا أوقات إجابته، وتجنبوا موانع الاستجابة.

    إن الحمد لله، نحمده ونستيعنه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    عنوان هذا الدرس: (سهام الليل)

    ولليل سهام لا يجيد إطلاقها إلا الموحدون، تطْلَق بأوتار العبادة، وبقسيِّ الدموع في السحر إلى الله الواحد الأحد، فيجيب من شاء متى شاء إذا شاء، تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

    هذه هي ليلة الأحد مساء السبت: 14/رجب/1412هجرية.

    وحديثنا من كلام الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنني أسأل الله عز وجل في هذه الساعة المباركة أن يبلغ رسوله منا أزكى السلام وأشرف التحية.

    بلغ السهى بكمالهِ

    زان الورى بجمالهِ

    صلُّوا عليه وآلهِ

    اللهم صلِّ وسلم عليه صلاةً وسلاماً دائمَين كريْمَين مباركَين ما دام الليل والنهار، وما فاحت الأزهار، وما تدفقت الأنهار، وما صاحت على الأيك الأطيار.

    صلوا على المصطفى ما اهتز تيارُ     وما تلألأ في الآفاق أنوارُ

    صلوا عليه وزيدوا في صلاتكم     فنحن في شرعه الميمون أنصارُ

    والصلاة عليه - عليه الصلاة والسلام - حق له جزاء ما قدم للأمة، وما أنقذنا به من متاهة الجهل، وما أخرجنا به من الظلمات إلى النور؛ فإن من حقوقه الثابتة علينا - عليه الصلاة والسلام - أن نكثر من الصلاة والسلام عليه دائماً وأبداً.

    صلاةٌُ والدموع بها تُهَلُّ     وتسليم أرتله أجلُّ

    فيا أخيار صاحبكم عظيمٌ     ومعصوم عليه اليوم صلُّوا

    لكنها صلاة وسلام على منهج أهل السنة والجماعة، لا على منهج أهل البدع الذين جعلوا الصلاة والسلام عليه رقصاً وغناءً وتطبيلاً، بل صلاة بوقار واتباع، وتسليم بحب وميل إليه عليه الصلاة والسلام.

    لفتة مع دعاء أبي بن كعب

    جاء عند الترمذي من حديث أبي بن كعب قال: قلت: {يا رسول الله! كم أجعل لك من صلاتي؟ -أي: من دعائي- قال: ما شئتَ، قال: أجعل لك الثلث؟ قال: ما شئتَ وإن زدتَ فأحسن، قال: النصفَ؟ قال: ما شئتَ وإن زدتَ فأحسن، قال: الثلثين؟ قال: ما شئتَ وإن زدتَ فأحسن، قال: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذاً يُغْفَر ذنبُك، وتُكْفَى همك}. حديث صحيح.

    ولسيرة أبي بن كعب طعم في قلوب الموحدين، وهو سيد القراء، وكان عمر يهابه كثيراً، وكان إذا تنازع القراء في عهد عمر عادوا إلى أبي، بل ذكر أهل الحديث والفقه أن الرسول عليه الصلاة والسلام تجاوز آية وهو يصلي بالناس، فالتفت إلى الناس بعد الصلاة فقالوا: يا رسول الله! نُسِخَت الآية، أم نسيتَ؟ قال: {يا أبا المنذر! أكما يقولون؟}؛ لأنه مرجعية ثابتة في علم القراءة، فهو رئيس قسم القراء في عهده عليه الصلاة والسلام.

    وقد مرض بالحُمَّى ثلاثين سنة، حتى كُفِّرَت سيئاته -إن شاء الله- وخطاياه.

    استقبله عليه الصلاة والسلام فقال له: {أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ... [البقرة:255] فضم -صلى الله عليه وسلم- كفه وضرب في صدره وقال: لِيَهْنَكَ العلم أبا المنذر} أي: افرح واغتبط بهذا العلم الصافي، النَّمِير الثابت، العميق الأصيل.

    وجاء عند مسلم: {أن سورة البينة لما نزلت على المعصوم عليه الصلاة والسلام أمر الله جبريل أن يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقرأها على أبي بن كعب، فقام عليه الصلاة والسلام وذهب إلى أبي في بيته، وقال: إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة. قال: أوسَمَّاني في الملأ الأعلى؟ -أي: هل ذكرني عند الملائكة باسمي أبي بن كعب؟- قال: نعم سَمَّاك} فأجْهشَ بالبكاء.

    سلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن أبي بن كعب، وإنما هي لفتة في الطريق، والمقصود: سهام الليل.

    وأنتم حملة الأسهم، وأنتم المستضعفون، ولذلك أحببناكم في درس المستضعفين.

    اللهم إن بني إسرائيل عصوك يوم السبت وليلة السبت فمسختهم قردة وخنازير، وقد أطعناك واجتمعنا في مساء السبت فاجعلنا مرحومين بررة مقبولين.

    الدعاء في جوف الليل

    ينادي الله عز وجل المتحابين يوم العرض الأكبر كما في صحيح مسلم فيقول: {أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي} نسبي بيني وبينكم هذا الحب وهذا المسجد، وقصة الحب معكم انطلقت من قبل خمس سنوات، وابتدأت من مسجد أبي بكر الصديق، فلنا من الصديق نسب، ولنا من مساء هذا اليوم نسب، ولنا مما يتلى هنا -قال الله وقال رسوله- نسب.

    ولو أنه نور فريد عذرته     ولكنه نور وثانٍ وثالثُ

    فعسى الله أن يجمع بيننا وبينكم بالنسب الخالد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].

    قال ابن القيم مخاطباً أمثالَكم؛ لأنه كان عنده بررة في القرن السابع من أمثالكم، وكل قرن يفخر ببررته، وأنتم من بررة وصفوة هذا القرن، قال في أحبابه:

    وكنت إذا ما اشتد بي الشوق والجوى     وكادت عُرى الصبر الجميل تَفَصَّمُ

    أعلِّل نفسي بالتلاقي وقربِه     وأوهِمُها لكنها تتوهمُ

    إلى آخر ما قال.

    فيا أيها الأحباب: أسأل الله أن يزيد هذا الحب، وأن ينميه ويعمقه وأن يبارك فيه، وأن ينفعنا به وإياكم، فإنني ما اخترتُ هذا إلا لأنكم أنتم الذين تملكون هذا السلاح، وهو سلاح فتاك لكنه معطل، وهو قوة كبرى -دعاء الليل- وهو يوجد عندكم ولا يوجد عند غيركم؛ فإن الكيانات قد تملك صواريخ أسكود، والكيماوي، والطائرات، والمدمرات، والزواحف؛ ولكنها لا تملك هذا السلاح المعطل الذي لا يوجد إلا عندكم، لأنكم أنتم صفوة المجتمعات، وإذا صفَّى المجتمع أصحابه وأخياره ومفكريه وطلبة العلم كنتم أنتم الصفوة المثمرة النافعة التي تملك سهام الليل.

    لماذا الليل؟

    لأن الليل له طعم خاص، وله أثر في العبادة، فهو:

    أولاً: أبعد عن الرياء والسمعة.

    ثانياً: أهدأ للنفس.

    ثالثاً: يكون الإنسان به أقرب من رب العالمين.

    ولقد صور الشعراء الليل مع الله عز وجل بصور، ومنهم: ابن القيم، يمدح أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام فيقول فيهم:

    بالليل رهبان وعند لقائهم     لعدوهم من أشجع الأبطال

    وقال آخر في أصحاب الرسول - عليه الصلاة والسلام -:

    عباد ليل إذا جن الظلام بهم     كم عابد دمعه في الخد أجراهُ

    وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم     هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ

    يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً     يشيدون لنا مجداً أضعناهُ

    ولن تعود لنا أفغانستان سليمة ولا الأندلس ولا فلسطين إلا إذا قمنا الثلث الأخير، ولن ينتشر هذا الخير، ولن تعود الأمة إلى التوحيد، إلا إذا جلسنا جلسة راضية في الثلث الأخير مع الله.

    قلتُ لليل هل بجوفك سرٌ     عامرٌ بالحديث والأسرارِ

    قال لم ألقَ في حياتي حديثاً     كحديث الأحباب في الأسحارِ

    الوزير ابن بقية يقطع الله يده بدعوة

    دخل أحد الصالحين على الوزير ابن بقية -وقيل: غيره من الوزراء- فمَدَّ ابنُ بقية يدَه فضرب بها هذا الرجل الصالح.. والأيادي قد ترسل على الخلق لتبطشهم إن لم تقيد بتقوى من الله.. فقال له الصالح: لأرُدَّنَّ عليك بسهام الليل، قال: اذهب أنت وسهامك.

    فاشتكى إلى الله، وجلس بعدها بِلَيْلة في السحر يرفع شكواه إلى الواحد الأحد.

    قيل لـعلي بن أبي طالب: كم بين التراب والعرش؟ وظن السائل أن علياً سوف يعد له بالكيلومترات أو بالأميال، قال: [[بينهما دعوة مستجابة]].

    ويقول صلى الله عليه وسلم: {ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}.

    أما هذا الرجل الصالح الذي لطمه الوزير العباسي، الذي جعل لطمته لأحد المستضعفين والفقراء وليس وراءه هيئة تطالب بحقوقه؛ لكن معه الله.. جلس في السحر يدعو ويشكو ويبكي ويقول: يا رب! لطمني.. والله يعرف أنه لطمه، والله سوف يقتص له، لكن أراد هذا الرجل الصالح أن يكون النصف والعدل في الدنيا.

    قال: اللهم كما لطمني بيده، اللهم اقطعها في الدنيا.

    فاستولى الخليفة القاهر على الخلافة، وأتى بالوزير فقطع يده، وعلقها بباب الطاق عند مدخل بغداد، ومرَّ هذا الفقير ورأى اليد مقطوعة؛ لأنه اشتكى في الثلث الأخير من الليل.

    جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال: {ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر لـه؟ هل من داعٍ فأجيبه؟}.

    قال المفسرون -وقد ذكره ابن كثير وغيره- في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن يعقوب حين قال لأبنائه: قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف:98] قالوا: لماذا لا يستغفر لهم وهم جلوس عنده؟ فقالوا: يريد أن يتحرى بهم السحر، أي: أراد أن يلتقي مع ربه في السحر، فقال: أنظروني قليلاً حتى يأتي السحر، فسوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم.

    ومدرسة المساكين والفقراء لا يعشقها إلا رواد الحق، ولا يحبها إلا أحفاد محمد عليه الصلاة والسلام، فهم يأتون من كل حدب وصوب لهذا الدرس ولأمثاله، ولهذه المحاضرة ولأمثالها، ويحشدون ويؤيدون السواد المؤمن، ويأتون ويباركون المسيرة الخالدة الموجهة التي بنيت على تقوى من الله ورضوان، فهم أهل الثلث الأخير من الليل، وهم أهل السلاح الفتاك الذي هو سهام الليل.

    وبيننا وبينكم وصية نجعلها سراً ولا تخبروا بها أحداً من الناس، وكلما ذكرت لكم سراً من الأسرار في درس السبت ذهبت إلى الناس فوجدت هذا السر قد انتشر.

    هذا السر: أن ندعوَ لكم وتدعو لنا، لا نريد منكم شيئاً ولا تريدون منا شيئاً، فليس بيننا شركة ولا مؤسسة، ولا مقاولات ولا بنايات ولا عمارات ولا فِلَل، بيننا أننا جمعية كبرى إمامها محمد عليه الصلاة والسلام، وأعضاؤها كل خيِّر في الأرض، وأنتم من روادها؛ ولكن بيننا حبل متين، وهو الدعاء في ظهر الغيب.

    لا يأتي النصر إلا بالدعاء

    تصوروا لو أن هذا الجمع وأمثاله وأضعافه وآلاف أضعافه في العالم الإسلامي يقومون قبل السحر بدقائق وبلحظات، فيرفعون الأكف، وفي أدبار الصلوات وفي السجود، ثم يدعون بالنصر لأهل الإسلام وعلمائه ودعاته، ويدعون بالمحق والسحق والهزيمة والخذلان لأعداء الله. فما النتيجة؟!!

    قدِّر أن واحداً قُبِلَتْ دعوتُه! أليس فينا رجل رشيد؟! أما في هذا الجمع والوجوه المكرمة الموقرة رجل يعلم الله أنه صادق؟! لماذا؟ لأن الولاية لا زالت لله، ولله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أولياء من عباده، والولاية ليست حكراً على قسم السنة في أصول الدين، ولا قسم العقيدة في الشريعة، ولا القضاء، ولا العلم، ولا الفُتيا، وإنما هي منثورة مبذولة من الواحد الأحد.. فهناك الولي في بقالةٍ، أو بنشرٍ، أو مؤسسةٍ، أو عيادةٍ، أو مستشفىً، أو وزارةٍ، أو دائرةٍ، أو مدرسة؛ لأن الله ينثر المناقب كما ينثر المثالب.

    أيضاً مما يُجَمِّل هذا المجلس: أنه مجلس لا يرتاده إلا من يريد الإسلام لذاته، والله يأمر رسوله عليه الصلاة والسلام في لفتة من لفتات القرآن أن يأتي إلى الفقراء، وأن يجلس مع المساكين، وأنا أعلم أن بعض من يأتي هم من الأغنياء والأثرياء، ولكن هكذا مسيرة المساكين؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو إمام المستضعفين؛ لأنه حررهم؛ ولذلك أحبوه، وعشقوا سيرته، وقدموا جماجمهم في نصرة مبادئهم في أحد وفي بدر والقادسية واليرموك.. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].

    إن مجالسَ المستضعفين هي: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36].

    ولباسَهم: التقوى وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].

    وهوايتَهم: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52].

    وشغلَهم الشاغل: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].

    وسَمَرَهم في نادٍ ليلِيٍّ كُتِبَ عليه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16].

    فيا خيمتَي ليلى بعيني سُراكُما     ولا ليلَ يُعطينا الودادَ وأنجما

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088538246

    عدد مرات الحفظ

    777201125