إسلام ويب

مبشرون لا منفرونللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أعظم أوصاف الدين الإسلامي أنه جاء بالتبشير لأتباعه.

    ومن رحمة الله بعباده أن أرسل إليهم رسولاً عزيز عليه ما فيه عنت لأتباعه، حريص عليهم وعلى هدايتهم، وهو بهم رءوف رحيم.

    وفي هذه المادة عرض لكثير من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم التي يظهر فيها بجلاء يسره في التعليم والتوجيه حتى مع العصاة.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    نعم، " مبشرون لا منفرون " عنوان هذه المحاضرة.

    بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا     من العناية ركناً غير منهدم

    لما دعا الله داعينا لطاعته     بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم

    لماذا هذا العنوان؟ لأن الله ابتعثنا مبشرين ميسرين، لا معسرين ولا منفرين، فإن زعم زاعم، أو ظن ظان أن الدعاة ينفرون الناس ويشددون ويكلفون، فقد أخطأ سبيله وضل سعيه، فأتباعه عليه الصلاة والسلام يحملون البشارة، وقبل أن أبدأ بالموضوع أخبركم أني أحبكم في الله حباً عظيماً، وهو الحبل المتين الذي أتى به عليه الصلاة والسلام، والمعجزة الكبرى التي بثها في الناس، أن يجمع بين الأبيض والأسود، وبين الأبيض والأحمر، وبين الأشعث الأغبر والمرفه تحت مظلة: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63] ولسان حالي هذه الليلة يقول:

    أنا الحجاز أنا نجد أنا يمنٌ أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني

    بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا     بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني

    وفي ربى مكة تاريخ ملحمةٍ     على ثراها بنينا العالم الفاني

    في طيبة المصطفى عمري وواولهي     في روضة المصطفى عمري ورضواني

    النيل معي ومن عمان تذكرتي     وفي الجزائر آمالي وتطوان

    دمي تصبب في كابول منسكباً     ودمعتي سفحت في سفح لبنان

    فأينما ذكر اسم الله في بلد     عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني

    إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] تلكم هي الكلمة التي بثها محمد عليه الصلاة والسلام في الكون، ولكن أيضاً لماذا اخترت هذا العنوان؟، لأقول للمتسرع وللمتعجل: إننا مبشرون لا منفرون، وأقول للمتهجم المجرح: إننا مبشرون لا منفرون، وأقول للمكفر المفسق إننا مبشرون لا منفرون، وأقول لمن يسيء الظن بالناس ولا يقبل ما فيهم من حسن، ولا يمد الجسور معهم، ولا يمهد لهم حبال الود إننا مبشرون لا منفرون.

    إخوتي في الله! الأصل في الإسلام التبشير وآيات التبشير في القرآن أكثر من آيات التخويف والتحذير، وقد ذكر ذلكم الإمام النووي، ولما كتب كتابه رياض الصالحين جعل للرجاء بابين، وللخوف باباً واحداً فقط.

    إن العصاة والبعيدين عن الإسلام، أو الفجرة، أو المنافقين لا يمكن أن يعودوا إلا بتبشير، ولا يمكن أن يجروا إلى حلبة الإسلام إلا بتبشير، ولا يمكن أن تعالج التعاسة فيهم والندامة والخزي والقلق إلا بتبشير.

    الرسول عليه الصلاة والسلام مبشر قبل أن يكون نذيراً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب:45] وهو يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والقرآن مبشر كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف:2] وذكر الله كتابه، فقال: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء:9].

    المستقبل المشرق إنما يأتي بالتبشير، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه آيات البشرى وعلامات التبشير والعاقبة للمتقين، وأخبر رسوله بأنه سوف يفتح العالم، وبشر الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه.

    الأصل في الإسلام التبشير

    إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] تلكم هي الكلمة التي بثها محمد عليه الصلاة والسلام في الكون، ولكن أيضاً اخترت هذا العنوان لأقول للمتسرع وللمتعجل: إننا مبشرون لا منفرون، وأقول للمتهجم المجرح: إننا مبشرون لا منفرون، وأقول للمكفر المفسق إننا مبشرون لا منفرون، وأقول لمن يسيء الظن بالناس ولا يقبل ما فيهم من حسن، ولا يمد الجسور معهم، ولا يمد لهم حبال الود: إننا مبشرون لا منفرون.

    إخوتي في الله! الأصل في الإسلام التبشير، وآيات التبشير في القرآن أكثر من آيات التخويف والتحذير، وقد ذكر ذلكم الإمام النووي، ولما كتب كتابه رياض الصالحين جعل للرجاء بابين، وللخوف باباً واحداً فقط.

    إن العصاة والبعيدين عن الإسلام، أو الفجرة أو المنافقين لا يمكن أن يعودوا إلا بتبشير، ولا يمكن أن يجروا إلى حلبة الإسلام إلا بتبشير، ولا يمكن أن تعالج التعاسة فيهم والندامة والخزي والقلق إلا بتبشير.

    الرسول عليه الصلاة والسلام مبشر قبل أن يكون نذيراً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب:45] وهو يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والقرآن مبشر كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف:2] وذكر الله كتابه فقال: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء:9].

    المستقبل المشرق إنما يأتي بالتبشير، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه آيات البشرى وعلامات التبشير والعاقبة للمتقين، وأخبر رسوله بأنه سوف يفتح العالم، وبشر الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه.

    صور من التبشير

    يا أخي! يا تلميذ محمد عليه الصلاة والسلام، يا جنديه في معترك الحياة! صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نزل في الخندق في جوع ومجاعة، وربط على بطنه حجرين فأخذ المعول ليضرب الصخرة في وقت الأزمة الذي وصفه الله- عز وجل- بأنه: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10-11].

    نزل عليه الصلاة والسلام ليحفر والأحزاب تتجمع لغزو المدينة والكفر طغى والظالم اعتدى، فيضرب عليه الصلاة والسلام بالمعول، فيبرق بارق فيبتسم عليه الصلاة والسلام ويقول: {أريت قصور كسرى وقيصر وسوف يفتحها الله علي} فيتغامز المنافقون ويضحك اللاعبون، ويقولون: الواحد منا ما يجترئ من الخوف أن يبول، وهذا يريد أن يفتح قصور كسرى وقيصر، فقال الله عنهم: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب:12] وبعد خمس وعشرين سنة يفتح أصحابه الدنيا، ويحكمون الدهر، وتنصت لهم المعمورة، ويصفق لهم التاريخ.

    أيضاً: يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام وهو في مكة: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45] وهذه بشرى النصر، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ [فصلت:53] وأراهم الله آياته في الآفاق، وعلم رسوله عليه الصلاة والسلام تلكم الآيات.

    أيضاً وقف عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه في مكة والحديث في الصحيحين من حديث صهيب: {والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه} وحدث هذا.

    وفي السيرة لابن إسحاق يقول عليه الصلاة والسلام وهو يطرد من مكة ويطرد من الطائف وتسيل أعقابه بالدماء ويتلفت إلى الناصر المعين إلى الله، ثم يقول: {يا زيد إن الله جاعل لهذا الأمر فرجاً ومخرجاً} ويحدث هذا الفرج والمخرج وينتصر عليه الصلاة والسلام، ويحكم الجزيرة العربية بمنهج رباني، بل ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.

    وفي القرآن نهي مطلق عن التنفير، ونهي مطلق عن الحزن، ونهي مطلق عن اليأس والقنوط، قال أهل التربية: وهو اليأس قتل للإرادة.

    ولما ذكر أبو إسماعيل الهروي في منازل السائرين قال: ومن منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] منزلة الحزن، قال ابن القيم: هذا خطأ ليس من منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] منـزلة الحزن، ولم يأمر به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولم يرضه، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يستعيذ الله من الحزن، فيقول: {اللهم إني أعوذ بك من الهم والغم، وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من البخل والجبن} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6] والبخع عند العرب هو قطع النخاع بشيء حاد، فيقول: لعلك تمزق دماغك حزناً عليهم، أنت منهي أن تحزن، لست عليهم بمصيطر، لست عليهم بوكيل، بلغ دعوتك ولا تكن فظاً، لا تجرح الهيئات، ولا الأشخاص، ولا الأجناس، ولا تكن عدواً للأمة، ولكن كن حبيباً للقلوب.

    أيضاً: نهى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأمة نهياً مطلقاً، فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] قال سيد رحمه الله في الظلال: نحن الأعلون سنداً، والأعلون متناً، والأعلون منهجاً، والأعلون إرادة... إلى آخر تلك الأعلون التي هي كالدرر جمعها أثابه الله.

    التيسير في الدين

    والتبشير روح يسري في القلب والعروق، ويصل إلى الإرادة فيحركها، بعث عليه الصلاة والسلام من أصحابه مبشرين في العالم، وصح من حديث أنس عند البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: {يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا}.

    وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ولـمعاذ:{بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا}.

    إذاً: هو منهج، فأين كثير من الدعاة من أمثالي من المقصرين عن هذا المنهج الرباني الرائد؟ إننا قبل أن نكون مؤدبين للناس، معزرين بالكلمات مجرحين، لا بد أن نكون محببين نقودهم إلى رضوان الله وإلى الجنة، وهذه هي مهمة الداعية، وهي مهمته عليه الصلاة والسلام وهديه.

    وصح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة: { أنه قال: إن الدين يسر} قال بعض العلماء -وهذه قاعدة- مقدمة من الرسول عليه الصلاة والسلام {إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه} وضبطت {ولن يشاد الدين أحداً إلا غلبه}.

    أي: إن الذي يريد أن يتعمق ويستولي على جزئيات الدين، وألا ينقص في أي مرحلة من مراحل الدين، أو أن يعبد ربه على أكمل وجه دون أن يثلم ثلمة، أو أن ينقص نقصاً، فلن يستطيع، أو أراد أن يأتي بجميع الطاعات والقربات والنوافل فلا يستطيع.

    ومن حديث بريدة عند أحمد -قال ابن حجر والحديث حسن- قال عليه الصلاة والسلام: {عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه}.

    أيضاً: من يشاد الدين في الدعوة ويريد أن يحول المجتمع إلى مجتمع رباني، وصنف من الملائكة، فليعلم أن مجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام ما تحول كله إلى مجتمع (100%) من الاستقامة والالتزام، فكان في عصره صلى الله عليه وسلم الزناة وشربة الخمر والسارقون والخونة والمنافقون، ومع ذلك أصلح عليه الصلاة والسلام ووجه، ولمح ولم يصرح وكان يقول: {ما بال أقوام...}.

    أيضاً: من حديث محجن بن الأدرع، وهو حديث حسن أيضاً، عند أحمد في المسند: {إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخير دينكم اليسرة} وهذا منهج أيضاً للدعاة، فإن من يريد مغالبة المجتمع بأن يفرض سيطرته وكلمته يخطئ قال تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22] أي: أنت لا تحمل كرباجاً ولا عصاً ولا سيفاً لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام:66] وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

    قدم نصحك، وقدم كلمتك، فإن اهتدت القلوب فهذا هو المطلوب، وإن تولت، فأجرك كامل على الله ولَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22] أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99].

    أيضاً من حديث جابر عند البزار وفي سنده لين، لأن في سنده رجلاً عابداً لكن يهم في الحديث، يقول فيما يروى عنه عليه الصلاة والسلام: {إن هذا الدين متين، فأوغلوا برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى} والمعنى: أنه شديد، والدخول فيه عميق، وهو طاقة تفجر، والذي يملك الدين بلا عقل يتفجر هو، ولذلك لا يحمل الدين إلا العقلاء، ويوم يحمله الحمقى يتفجرون ويتفجر بهم الدين.

    منهج الخوارج في التيسير

    الخوارج كانوا عباداً مسبحين مهللين، قراء صوام أهل صلاة، لكن كانوا حمقى بمعنى الكلمة.

    قال ابن تيمية: والسبب أن الخوارج أخذوا بظاهر القرآن وأبطلوا حقائق النصوص - لله درك! وهل هذا إلا الإبداع؟ صدقت! أخذوا بظاهر القرآن يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عنهم: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية}.

    عبد الرحمن بن ملجم هذا الفاجر العنيد، كان يقوم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، أُتي به بعد أن قتل علي بن أبي طالب - تلكم القتلة التي لا تزال جراحها في قلوب المؤمنين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتبكي عجوز العراق مع السحر لما قتل علي وتقول:

    يا ليتها إذ فدت عمراً بـخارجةٍ      فدت علياً بمن شاءت من البشر

    يؤتى بـعبد الرحمن هذا وفي جبهته كركبة العنز من كثرة العبادة، يسأله ودمه يسيل في الأرض- فيسبح الفاجر لئلا يضيع وقته في الحديث. عجباً لك يا فاجر! تقتل أكرم الناس، وأزهد الناس، وأخشى الناس في عهده وتسبح، حتى يقول عمران بن حطان -كلبهم-:

    يا ضربة من تقي ما أراد بها     إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

    هكذا معتقده

    إني لأذكره يوماً فأحسبه     من أفضل الناس عند الله ميزانا

    قال شاعر أهل السنة:

    يا ضربة من شقي ما أراد بها     إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا

    إني لأذكره يوماً فألعنه     وألعن الكلب عمران بن حطانا

    هذه عقيدتهم، وهذا تصورهم، ماذا يفعلون؟ خُطَب الجمعة تكفير في علي، وتكفير في معاوية، وتكفير في عمرو بن العاص والصحابة كفار عندهم، العلماء مارقون ومنهزمون، هذا منهج ضال لا يرضاه رسولنا عليه الصلاة والسلام.

    منهج القرآن في الوسطية والبشرى

    لكن تعال بنا إلى منهج القرآن في الوسطية والبشرى قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] أن تتكلم للناس وأنت تعرف أن لهم طاقات محددة، فلا تكلفهم فوق الطاقة قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] فطبيعة الدين أنه ميسر يناسب الفطر رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] وفي الحديث الصحيح: {قد فعلت قد فعلت} وابن تيمية يرويه في الفتاوى أنه قال: {نعم، نعم، نعم} وهذه رواية مسلم، ومن طبيعة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] أي: أن الأغلال التي كانت على الأمم السابقة قد وضعها عليه الصلاة والسلام عن أمته.

    أتى بهذه الآية ابن تيمية رحمه الله وهو يتكلم عن مسح الخفين، والحقيقة انظر إلى العقل إذا تدخل في الشريعة فوق حدوده، أتى بعض الفقهاء، وقالوا: يشترط في الخفين تسعة شروط: أن يكون (جلداً- مخروزاً - قائماً بنفسه - لا ينفذ الماء - يمشى فيه-...) إلى آخر تلك الشروط التي كأنها شروط المجتهد المطلق. من أين نأتي لكم بخف تنطبق عليه هذه الشروط؟ أنأتي به من السماء.

    قال ابن تيمية: شروط باطلة، الرسول صلى الله عليه وسلم يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] هذا مثل من الأمثلة.

    أيضاً يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن المتنطعين: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27] من هذا المبتدع الذي يبتدع أحكاماً ويسير الأمة على مزاجه؟ فمن حاد عن مزاجه وعن منهجه وعن موقفه هو، فهو فاسق كافر يميت القضايا، منهزم يميع المنهج الرباني، هكذا يحكم على الناس، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27] أنا أعرف أن من يتسرع ويتعجل يريد رضوان الله، ولكن ليس كل من ابتغى رضوان الله أصاب، والله عز وجل ذكر المبتدعة، فقال: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر:8] قال سفيان بن عيينة: نزلت هذه الآية في المبتدعة، زين الله لهم سوء أعمالهم، أتظن عمران بن حطان كان يظن أنه فاجر أو مخطئ، أو الجعد بن درهم، أو الجهم بن صفوان؟ لا، يقول ابن المبارك في الجهم -لأنه كان داعية، وكان يضحي عن مبادئه أكثر من تضحيتي أنا وأنت عن مبادئنا- يقول:

    عجبت لدجال دعا الناس جهرةً إلى النار     واشتق اسمه من جهنم

    الجعد بن درهم ماذا فعل؟ مخطئ فاجر ضال؛ رفض أن يتنازل عن خطئه ويظن أنه صائب، قال له خالد بن عبد الله القسري: أتعود عن رأيك، قال: لا، فقال في خطبة العيد: يا أيها الناس! إن الجعد بن درهم زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ألا إني مضحٍ بـالجعد بن درهم ضحوا تقبل الله منكم أضحياتكم، ثم نزل فأخذه بالخنجر قتله حتى يقول ابن القيم:

    من أجل ذا ضحى بـجعد خالد      القسري يوم ذبائح القربان

    إذ قال إبراهيم ليس خليله     كلا ولا موسى الكليم الداني

    شكر الضحية كل صاحب سنةٍ     لله درك من أخي قربان

    يقول: من أراد أن يضحي فليضح مثله، البدنة عن سبعة.

    أيضاً يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2] يقول بعض المفسرين: مفهوم المخالفة في الآية أن تسعد، نزل القرآن للسعادة، فالتلاوة فيها سعادة، والحكم به في الناس سعادة، تبيينه للناس سعادة، لا أن تشقي الناس، لماذا نشقي الناس بالقرآن؟ لماذا نشقي الناس بالسنة؟ وسوف أصل -إن شاء الله- في هذه المحاضرة إلى مواقف محمد عليه الصلاة والسلام، وليست من كلامي ولا من كلام آخر من المجاهيل النكرات، لكن من كلام من يجب علينا على رغم أنوفنا أن نستمع له، وأن نتحاكم إليه، كما قال مالك: ما من إنسان إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.

    قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8] فاليسر من طبيعته في العبادة، وفي الدعوة، وفي التربية، والأخلاق، والسلوك، تقول عائشة كما في صحيح مسلم: {ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما} إذا كان الناس يستجيبون لك بالكلمة اللينة، فلماذا الغضب؟! ولماذا التشنج في العبارة؟! ولماذا الجرح؟! ولماذا الوصم بالكفر والفسق؟! لماذا؟!

    يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] فلا تطلب من الضعيف في العبادة ما تطلبه من القوي؛ لأنه قد علم كل أناس مشربهم.

    ومن صفاته عليه الصلاة والسلام: أنه رحمة للعالمين، فهل سأل كل واحد منا نفسه؟ هل سأل الإمام والخطيب والعالم والقاضي ورجل الهيئة نفسه: هل هو رحمة للعالمين أم هو شقاء للعالمين؟ رحمة للعالمين، فلم يقل رحمة للناس فيخرج الحيوانات، ولم يقل للمؤمنين فيخرج الكافرين، ولم يقل للرجال فيخرج النساء أما الرازي فقد مد نَفَسَه في هذه الآية وتكلم كثيراً، والعجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رحمة للعجماوات، رحمة للطيور، رحمة للزواحف ورحمة للوحوش.

    في سنن أبي داود بسند صحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس تحت الشجر مع أناس من الصحابة، فأتت حمامة -طائر أنثى- كان أحد الصحابة، قد أخذ أفراخها، فأتت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن بلا كلام، ولا نطق حامت على رأسه عليه الصلاة والسلام ففهم أنها تشكو، قال: من فجع هذه بأفراخها، قال رجل: أنا يا رسول الله! قال: رد عليها فراخها} فلما رد أفراخها، فرفرت فرحة جذلانة وعادت إلى عشها.

    يقول أحد الشعراء في هذه:

    جاءت إليك حمامةٌ مشتاقةٌ     تشكو إليك بقلب صب واجف

    من أخبر الورقاء أن مكانكم     حرم وأنك ملجأ للخائف

    هذه رحمته عليه الصلاة والسلام، وسوف أصل إلى وقفة مع رحمته عليه الصلاة والسلام فيما يأتي.

    أيضاً وصفه ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه (عزيز عليه ما عنتم) أي: أي شيء يعنت الأمة يعز عليه عليه الصلاة والسلام ويكلف عليه ويشق عليه قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة:128] وقرأ ابن مسعود: من أنفَسِكم، يعني: من أغلاكم، ومن أحسنكم، ومن أرفعكم نسباً وذكراً لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088533176

    عدد مرات الحفظ

    777174014