إسلام ويب

الفرج بعد الشدةللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في غزوة تبوك دروس وعبر عظيمة، أظهرت بجلاء صدق الصحابة وبلائهم وكذب المنافقين وخورهم، وفيها من الفوائد الشيء الكبير.

    والشيخ تطرق إلى هذا الموضوع مستخرجاً الكثير من الفوائد والأحكام.

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم.

    وبعد: تجهز صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك - وغزوة تبوك كانت في حرارة الصيف، وفي شدة الحر وفي وهج الشمس- فخرج إليها صلى الله عليه وسلم، ونادى في الناس، فخرج معه ما يقارب الثلاثين ألفاً من أصحابه رضوان الله عليهم، وقبل المعركة أراد صلى الله عليه وسلم أن يجهز الجيش، فما وجد عليه الصلاة والسلام مالاً، فصعد المنبر ودعا إلى التبرع ورغب في البذل والعطاء: (من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ فوقف عثمان بن عفان وقال: أنا يا رسول الله، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم اغفر لـعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راضٍ، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وخرج صلى الله عليه وسلم، ولكن لما خرج في حرارة الصيف نظر بعض الصحابة فرأوا أن الثمار قد دنت في المدينة ورأوا أن الراحة في البيوت أحسن من الحر فجلسوا.

    والذين تخلفوا عن الغزوة ثلاثة وثمانون رجلاً، لم يسجلهم صلى الله عليه وسلم في كتاب، ولم يكتبهم في ديوان، أما ثمانون فكذبوا على الله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49] والرسول عليه الصلاة والسلام كان يمشي مع أصحابه مشياً على الأقدام، في حرارة الصيف، وفي ظمأ ونصب وجوع، ومشقة لا يعلمها إلا الله. ثم جاء الجد بن قيس أحد المنافقين، فقال: (يا رسول الله! ائذن لي ألا أخرج معك إلى تبوك، قال: ولماذا؟ قال: أنا رجلٌ مفتون، فإذا رأيت بنات بني الأصفر افتتنتُ) أي: بنات الروم، وهو كذب على الله، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49] وقال المنافقون يوصي بعضهم بعضاً: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81] اطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتأخر، لا تنفروا في الحر، فرد الله عليهم: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً [التوبة:81].

    فخرج عليه الصلاة والسلام، وكان كعب بن مالك صادق الإيمان لكنه تخلف.

    يقول عن نفسه: قلت: أتهيأ غداً وألحق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه خطيئة مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120] كيف يخرج رسول الهدى عليه الصلاة والسلام ويتخلف هؤلاء؟! هذا خطأ لا يقر.

    فتخلف رضي الله عنه، يقول: أتهيأ غداً، وذهب صلى الله عليه وسلم فلما أصبح في الصحراء، يقول: فقمت غداً لأتهيأ فثبَّطني الشيطان فجلست، ومشى عليه الصلاة والسلام حتى اقترب من تبوك فنـزل في الجيش وهو ما يقارب الثلاثين ألفاً، ولما نزل قبل تبوك نزل عند شجر بجيشه العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي أثناء الجلوس قال للصحابة: أين كعب بن مالك؟ -لم يذكره صلى الله عليه وسلم إلا عند تبوك - فقال رجلٌ من بني سلمة -من قرابة كعب بن مالك؛ يا رسول الله! حبسه برداه ونظره في عطفيه، فانبرى له معاذ رضي الله عنه وأرضاه سيد العلماء الذي يأتي أمامهم يوم القيامة برتوة- فقال: لا والله ما قلت خيراً، والله ما علمنا فيه إلا خيراً، والله ما علمناه إلا صادقاً مجاهداً، فسكت عليه الصلاة والسلام ولم يعلق على الحادث.

    وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم جالس تحت الشجر.. وإذا برجلٍ أقبل كالصقر على ناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، فاقترب الرجل فإذا هو أبو خيثمة -وهو أحد المجاهدين الكبار في الإسلام- وسأل صلى الله عليه وسلم فقال: أين أبو ذر؟ قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يلحق بنا).

    وأبو ذر مسكين فقير، يحشر يوم القيامة مع عيسى بن مريم، زاهد ليس عنده إلا جمل قحل هزيل، أتى بهذا الجمل فركبه فرفض الجمل أن يقوم وبرك على الأرض، فأخذ أبو ذر متاعه على كتفه ومشى في الأرض ليلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبينما هم جلوس وإذا بـأبي ذر يطل عليهم ويمشي في آخر الصحراء فقال عليه الصلاة والسلام: كن أبا ذر، فاقترب فإذا هو أبو ذر، قال: رحمك الله يا أبا ذر! تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك.

    وانتهى صلى الله عليه وسلم من الغزوة، لكن كعب بن مالك واثنان معه: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وهؤلاء الثلاثة صدقوا لكن تخلفوا بلا عذر، أخذتهم من الهموم والغموم ما لا يعلمه إلا الله، قال كعب:(فكنت في غياب الرسول عليه الصلاة والسلام أخرج في الأسواق فلا أرى إلا منافقاً، أو شيخاً كبيراً عذره الله أو طفلاً أو امرأة، فأزداد هماً إلى همي، قال: وسمعت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقبل من تبوك إلى المدينة) الآن يتهيأ بحجج، وبراهين، ماذا يقول للرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يتكلم معه؟ وما هو عذره؟ إن كذب فسوف يكذبه الله من السماء بالوحي، وإن صدق فسوف يهلك، في الأخير قال: لما أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم حضرني بَثِّي -ما معنى بَثِّي؟ البث: أشد الحزن، قال تعالى: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] - قال: حضرني بَثِّي وغمي وعلمت أني لا أخرج من غضب الله ولا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالصدق، قال: فلما نزل صلى الله عليه وسلم المدينة بالجيش توضأ وبدأ بالمسجد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، فصلى ركعتين، ثم جلس للناس يفتيهم ويأخذ أخبارهم ويستقبلهم ويسلمون عليه ويرحبون به لأنه غاب عليه الصلاة والسلام ما يقارب شهراً أو أكثر، فصلى عليه الصلاة والسلام ركعتين ثم جلس.

    صدق كعب بن مالك وصاحبه، والأمر بمقاطعتهم

    قال كعب بن مالك: {فتقدمت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فلم أدْرِ هل رَدَّ عليَّ أم لا! ووضع يده في يده}

    حتى وضعت يميني ما أنازعها      في كف ذي نقماتٍ قوله القيل

    {فقال لي: يا كعب بن مالك! ما تخلف بك؟ أما كنت ابتعت ظهرك؟ فقال كعب: والله يا رسول الله! لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من غضبه بكلام، إني رجل شاعر، وإني قد أوتيت جدلاً -أي: رجلٌ فصيح يستطيع أن يتكلم- لكن يا رسول الله، لئن غضبت عليَّ اليوم في صدقٍ أقوله أرجو من الله عز وجل أن ترضى عني غداً، قال: قم حتى يقضي الله فيك وفي صاحبيك، فقام رضي الله عنه وأرضاه لا يكاد يرى الطريق من الهم والغم، فلحقه قرابته من بني سلمة، قالوا: كلنا اعتذر إلا أنت ما أحسنت تعتذر، فعد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأحسن واعتذر بعذر، فقال رضي الله عنه وأرضاه: والله ما زالوا بي حتى أردت أن أعود فأكذب نفسي عند الرسول صلى الله عليه وسلم -لكن عصمه الله- قال: فسألتهم هل معي أحدٌ وقع في مثل ما وقعت فيه من التخلف؟ قالوا: معك رجلان: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قال: فذكرا لي رجلين من أهل بدر صالحَين، قلت: لي بهم أسوة قال: فخرجت من المسجد، وقام عليه الصلاة والسلام في أهل المدينة رجالاً ونساءً وأطفالاً وقال: لا تكلموا الثلاثة: كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع}

    فمنع صلى الله عليه وسلم الناس من كلامهم، قال كعب بن مالك: {فتغيرت لي الأرض التي كنت أعهد، فوالله ما هي التي كنت أعرف، وضاقت عليَّ الدنيا بما رحبت، كما وصف الله ذلك، وأظلم في عينيَّ كل شيء}

    لعل عتبك محمود عواقبه      وربما صحت الأجساد بالعلل

    واستمر الصحابة لا يتكلمون مع كعب، تأتي امرأته فتصنع له الطعام وتعطيه إياه، ولا تلتفت إليه، إذا أتى يأكل أعطته ظهرها؛ لأنها تريد أن تقاطعه، فالولاء والحب والبغض والعطاء والمنع لله، يقول لامرأته: اسقيني، فتأخذ الماء في الإناء وتعطيه إياه وهي لا تلتفت إليه؛ لأنه رجل تخلف وعصى الله ورسوله، ينـزل إلى السوق فيسلم على الصحابة لا يكلمه أحد، يذهب إلى أقاربه فلا يفتحون له الباب، لا يزوره أحد، هذا هو مستوى المجتمع الذي رباه صلى الله عليه وسلم، قال: [[ فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، فتسورت حائط ابن عمي أبي قتادةأبو قتادة هذا فارس الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ممنوعٌ أن يدخل من الباب فأتى من الجدار، فهو ابن عمه ويريد أن يكلمه- قال: فتسورتُ الجدار واقتحمت عليه البيت فدخلت، قلت: يا أبا قتادة! أسألك بالله! هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يكلمني، قلت: يا أبا قتادة! أسألك بالله! هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يجبني، فسألته في الثالثة ودمعت عيناي، فقال: الله ورسوله أعلم، قال: فعدت من الجدار]].

    وبعد أن تمت لهؤلاء الثلاثة أربعون ليلة أرسل صلى الله عليه وسلم إليهم أن اعتزلوا نساءكم.

    انظر إلى الشدة، وانظر إلى الكرب الشديد، وانظر إلى الزلزلة التي لا يعلمها إلا الله، إنسان يرى أن الله من السماء قد غضب عليه بسبب معصية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قاطعه، وأن الصحابة لا يكلمونه، أين شعوره؟ وأين أشواقه؟ وأين حياته؟ وأين صبره؟

    قال: {فرفض الناس تكليمنا ولما تمت لنا أربعون يوماً أمر صلى الله عليه وسلم أن نعتزل النساء، فأتت امرأة هلال بن أمية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! ماذا أفعل؟ قال: اعتزلي هلالاً، قالت: يا رسول الله! هلال شيخٌ كبير، والله ما زال يبكي منذ تخلف عنك إلى اليوم، والله ما يأكل من الطعام إلا قليلاً}.

    رسالة ملك غسان لكعب بن مالك

    قال كعب بن مالك: كنت أنا أشب القوم -كان أصغر الثلاثة- فكنت أنزل إلى الأسواق فلا يكلمني أحد، أسلم فلا يردون، قال: بينما أنا بالسوق إذا بنبطي -النبطي هذا يبيع ملابس، وقد أتى من الشام، وهو أعجمي أرسله ملك غسان برسالة إلى كعب بن مالك يريد أن يغرق بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: ففتحت الرسالة -وكان كعب يقرأ- فإذا هي من ذاك الملك يقول: لم يجعلك الله بدار مضيعة، وإنا سمعنا أن صاحبك قد جفاك، فالحق بنا نواسِك -يقول: الحق بنا واترك الدين؛ فإن صاحبك محمداً صلى الله عليه وسلم جفاك- قال كعب: فقلت: هذا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها -التنور هو الكانون، سحرتها أي: أحرقتها.

    ثم لبث في بيته حتى تمت خمسون ليلة.

    وقد يقال الثمانون؟ أما تخلف ثلاثة وثمانون، ثلاثة يعيشون المرارة والأسى واللوعة والقلق والاضطراب، وثمانون أين هم؟

    الثمانون منافقون جميعاً، عفا عنهم صلى الله عليه وسلم وما عاتبهم؛ لأن هؤلاء منافقون، وحسابهم على الله ولا ينفع فيهم الهجر، فهو كافر فكيف يعاتبه صلى الله عليه وسلم؟

    أما كعب بن مالك وصاحباه فإن فيهم خير وإيمانٌ وجهاد وصدق، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.

    فقد أساءوا لكنه صلى الله عليه وسلم يمحصهم بالعتاب، والعتاب فيه مرارة، حتى يقول كعب بن مالك: {كنت أنزل فأحضر الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم -صلاة الفريضة- قال: إذا أتيت وهو يصلي سلمت عليه، وقال: وإذا كان جالساً سلمت عليه، فوالله لا أدري هل يرد عليَّ السلام أو لا، قال: فإذا سلمت من صلاتي أقبل على شأنه عليه الصلاة والسلام، فإذا قمت أصلي التفتَ إليَّ عليه الصلاة والسلام} وتصور الصورة، الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يعاتب ويربي أحد تلاميذه الأخيار الأبرار الصادقين مع الله- يقول: إذا قمت أصلي النافلة أتى صلى الله عليه وسلم ينظر فِيَّ ويتفقد حالي ويمد بصره فيَّ، قال: {فإذا سلمت رجع عليه الصلاة والسلام ونكس رأسه}.

    فلما تمت لهم خمسون ليلة أتى الفرج من الله، من فوق سبع سماوات، ليس من أحد، وإنما من الله.

    أما المنافقـون فالله يقـول: عَفَا اللَّهُ عَنْـكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43] يقول: ما لكَ تعفو عنهم وهم قد كذبوا على الله وخانوا شرعه، وعطلوا الجهاد في سبيله؟! فلماذا تعفو عنهم؟! إنما عفا عنهم صلى الله عليه وسلم، فعفا الله عنه ثم عاتبه.

    فتمت خمسون ليلة وأتى العفو من الله عز وجل، قال تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118].

    توبة الله على كعب وصاحبيه

    قال كعب: {فصليت الفجر على بيتي} كان بيته في سلع وسلع جبلٌ في المدينة قريب من مسجده صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة} أي: إذا تطاول الناس بالبنيان والعمران وبلغَتْ جبل سلع فاخرج من المدينة، فلما بلغ البناء سلعاً خرج أبو ذر إلى الربذة.

    فصلى كعب بن مالك صلاة الفجر مكانه، قال: {ولما سلمت من الصلاة، وإذا برجلٍ على فرس أقبل يريد أن يبشرني وبرجلٍ آخر على قدميه على جبل سلع} يعني: الذي يمشي على رجليه صعد الجبل، والفارس أتى من الوادي يريدان جميعاً أن يبشراه، وهذه شيمة المؤمن أنه يفرح لأخيه ويبشره إذا وقع ما يسره، وأن يقدم له ما يفرحه؛ فإن هذا من عمل الخير ومن شيم المؤمنين، قال: {فسبق صوت ذاك الرجل الذي على الجبل - فقد أراد الفارس أن يسبقه بالفرس، لكن ذاك صاح- وقال: يا كعب بن مالك! أبشر بتوبة الله عليك، أبشر بخير يوم منذ ولدتك أمك، قال: فسجدت لله شاكراً} وهذا سجود الشكر.

    وإذا الحسن همى فاسجد له      فسجود الشكر فرض يا أخي

    وحسان الكون لما أن بدت      أقبلت نحوي وقالت لي إليَّ

    فتعاميت كأن لم أرها      حينما أبصرت مقصودي لدي

    والرسول صلى الله عليه وسلم كان يسجد سجود الشكر إذا أتاه ما يفرحه ويسره عليه الصلاة والسلام، وفي إحدى المرات نزل صلى الله عليه وسلم من على الدابة وسجد على الأرض والحديث حسن، فقال سعد بن أبي وقاص: {ما لك يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل الآن أن الله يقول: لا يصلي عليك رجلٌ صلاة إلا صليت عليه بها عشراً} فسجد عليه الصلاة والسلام من هذه النعمة، وأتاه كتابٌ من علي من اليمن يبشره أن قبائل همدان قد أسلمت، فسجد عليه الصلاة والسلام شاكراً لله، وقال: {السلام على همدان، السلام على همدان، السلام على همدان}

    وللفائدة: لا يشترط في سجود الشكر الوضوء، بل إذا أتاك ما يسرك ويفرحك فضع رأسك فرحاً لله عز وجل، خاصةً في الأمور الدينية، وتأتي الأمور الدنيوية تبعاً، لكن بعض الناس لا يظن أنه انتصر إلا إذا حصل على وظيفة أو منصب أو مال أو سيارة أو قصر، أما أمور الدين فلا يحسب لها ذلك الحساب: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] فسجد رضي الله عنه ورفع رأسه.

    قال: {وكان عندي ثوبان} وهم فقراء، وغنيهم قد يعادل فقيرنا اليوم، هو من أحسن الحال، عنده ثوبان وهو يحمد الله عز وجل على أن عنده ثوبين، لكن عند بعضنا اليوم ثلاثين ثوباً، عشرة زرق وعشرة بيض وعشرة صفر، وللعيد ثياب، وللأضحى ثياب، وللعرس ثياب، وللجمعة ثياب، بذخ، أما عنده فقال: {كان عندي ثوبان -وفي رواية البخاري كان عندي إزارٌ ورداء- قال: فلبست لباساً قديماً ثم أعطيت هذا المبشِّر} من بشرك بشيءٍ فلك أن تعطيه شيئاً من المال، فلا يكون الإنسان جافاً مثل الحجر صلداً، لابد من شيء، قال: {فلما بشرني خلعت له ثوبي ولبست ثوباً قديماً وسلمت له الثوب -هذا جزاء البشارة- وذهبت إلى ابن عمي، فاستعرت منه ثوباً فلبسته} لبس ثوباً جديداً ليلقى به الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ومضى إلى المدينة، إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه، وهو جالس وسطهم كالبدر يقول شوقي:

    لما خطرت به التفوا بسيدهم     كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم

    يقول: مثل هؤلاء مثل النجوم إذا حفت بالقمر ليلة البدر أو مثل الجنود إذا حفوا بالعلم، فالعلم محمد عليه الصلاة والسلام، والقمر محمد عليه الصلاة والسلام، والجنود أصحابه، والنجوم أصحابه.

    أتى كعب رضي الله عنه وأرضاه مسرعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخل المسجد على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {فإذا وجه الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه قطعة قمر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سر بالأمر رئي وجهه يبرق من السرور} حتى قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {كنت إذا رأيت وجه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ أنظر إلى أسارير وجهه فأتذكر قول سويد بن كاهل:

    ومبرأ من كل غبر حيضة     وفساد مرضعة وداء مغيل

    وإذا نظرت إلى أسرة وجهه      برقت كبرق العارض المتهلل
    }

    ولذلك سر عليه الصلاة والسلام يوم تاب الله على أحد أصحابه، والتوبة لا يعادلها شيءٌ في الدنيا أبداً، والله ما قصور الدنيا، وملكها، وذهبها وفضتها تعادل توبة الله على العبد يوم يتوب على عبده الصالح ويعيده إليه!

    حكم القيام للداخل

    قال كعب بن مالك: {فلما دخلت قام لي طلحة بن عبيد الله -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- قال: والله ما قام لي من قريش ولا من المهاجرين غير طلحة} قام طلحة رضي الله عنه وأرضاه تكريماً لـكعب بن مالك، واقترب منه وسلم عليه وصافحه، والقيام -للفائدة لما وصلنا هذه المسألة- للقادم على ثلاثة أضرب: قيام له، وقيام عليه، وقيام إليه.

    أما القيام عليه فهو محرم، كأن يجلس الجالس، ويقوم على رأسه أناس من باب التعظيم والتفخيم، فهذا محرم؛ لأنه فعل الأعاجم في ملوكهم، وفي الصحيحين من حديث أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وذلك عندما صلى جالساً صلى الله عليه وسلم ورأى أصحابه وقوفاً خلفه فأمرهم بالجلوس، وقال لهم بعد السلام: {كدتم أن تفعلوا كما تفعل الأعاجم بملوكها} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار} كأن يجلس الجالس في المجلس، ويدور الحديث ويقوم عليه بجنبتيه أو أمامه وخلفه رجال، هذا منهيٌ عنه في الإسلام، وهو الذي يسمى القيام عليه.

    أما القيام له: فإن كان للتعظيم وللتفخيم فهذا يلحق بالتحريم، وإن كان للتقدير ولإعطاء المسلم حقه فلا بأس بذلك، فإن من الحق أن تقوم للمسلم من باب التواضع ومن باب إعطائه حقه، لا كبراً ولا تعظيماً له ولا تفخيماً، جاء زيد بن حارثة فقام له صلى الله عليه وسلم وقبله، وصح أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إذا دخلت على أبيها قام لها واحتضنها وقبلها وأجلسها مكانها، وكان إذا زارها في بيتها قامت إليه عند الباب واحتضنته وقبلته وأجلسته مكانها صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها وأرضاها، وجمعنا بهم في الجنة.

    وفي حديثٍ -في سنده كلام- أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قدم من الحبشة قام له عليه الصلاة والسلام من بين الصحابة وقال: {لا أدري بأيهما أُسَر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر وقَبَّل جعفر وأجلسه} أحد النبلاء من الأدباء رأى عالماً أقبل فقام الأديب، فقال العالم: لا تقم، فقال هذا الشاعر:

    قيامي والإله إليك حقٌ      وترك الحق ما لا يستقيم

    وهل رجلٌ له لبٌ وعقلٌ      يراك تجي إليه ولا يقوم

    وأما القيام إليه، فهو جائز بالإجماع، مثل أن تقوم إليه لتنزله أو لتعينه على شيء أو تفتح له الباب، أتى سعد بن معاذ سيد الأوس الذي اهتز له عرش الرحمن لما مات، وشيعه سبعون ألف ملك، قدم على حمار ليحكم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين بني قريظة، وكان مريضاً مجروحاً من القتال، فلما أتى قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: {قوموا إلى سيدكم، وفي رواية: فأنزلوه} فالقيام إليه جائز كما أسلفت.

    قال كعب بن مالك: {فقام لي طلحة بن عبيد الله، ووالله ما أنساها لـطلحة}.. الإحسان ينفع حتى إلى الكلاب، يقول:

    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم      فطالَما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ

    كان المغيرة بن شعبة أحد الأمراء في قصره، فقال لحاجبه: لا تُدْخِل عليَّ أحداً، فأتى رجل صديق للحارس، قال: أريد الأمير المغيرة بن شعبة، قال: كيف؟ قال: أنا صديقك تمنعني قال: ادخل، فدخل قال المغيرة: أما قلت لك لا تدخل أحداً اليوم؟ قال: إنه صديقي وصاحبي فخجلت أن أمنعه، قال: [[أحسنت أصاب الله بك الخير، والله إن المعروف ينفع ولو في الكلب الأسود]]

    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم      فطالَما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ

    يقول رجل أعرابي لـابن عباس: يـابن عباس! إن لي عندك يداً -أي: إني فعلت معك معروفاً، وقدمت لك مكرمة- قال ابن عباس: ما هي؟ قال: رأيتك في الحج في العام الأول، وأنت في الشمس فظللتك بكسائي فهذا الأعرابي رأى ابن عباس -عالم المسلمين ترجمان القرآن بحر الأمة وبحر القرآن- رآه في الشمس وهو حاج يفتي الناس وسط الحجيج كالغمام حوله يفتيهم، فأتى هذا البدوي بكسائه، فظلل ابن عباس، وابن عباس ما درى من ظلله، وبعد سنتين أتى الأعرابي يحاسب ابن عباس ويريد منه الأجرة، قال: إن لي عندك يداً، قال: ما هي؟ قال: رأيتك في العام الأول في الحج وأنت تفتي الناس، فأصابتك الشمس، فظللتك منها، قال ابن عباس: يا غلام! أعطه ألف دينار.

    الخير أبقى وإن طال الزمان به      والشر أخبث ما استوعيت من زاد

    كان أبو جعفر المنصور الخليفة الجبار ثاني خلفاء بني العباس جالساً مع الأدباء والوزراء والأمراء، قال: ما أحسن الأبيات التي قالت العرب؟! فكلٌ أدلى ببيت، فقال: أحسن بيتٍ قالته العرب هو:

    الخير أبقى وإن طال الزمان به      والشر أخبث ما استوعيت من زاد

    افعل الخير في أي رجل، يقول الحطيئة:

    من يفعل الخير لا يعدم جوازيه      لا يذهب العرف بين الله والناس

    اشترى عمر رضي الله عنه وأرضاه من الحطيئة أعراض المسلمين بألف دينار، وكان شاعراً هجاءً.

    مر الحطيئة برجل اسمه الزبرقان بن بدر على ماء، فأراد أن يضيفه الزبرقان بن بدر، وكان الزبرقان أميراً؛ لكنه كان بخيلاً، يمص الذباب وهو في الهواء، والحطيئة يخرج لسانه ويضرب أرنبة أنفه، وهذا لا يستطيعه كل الناس، ومن أراد أن يجرب فإذا عاد إلى بيته فليجرب، فـالحطيئة لطول لسانه كان يضرب أرنبة أنفه بها، وقالوا عن حسان بن ثابت أيضاً.. أنه كان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، يقول عليه الصلاة والسلام: {من يهجو المشركين؟ قال علي: أنا، قال: لا -لأن علياً لم يكن شاعراً بدرجة حسان -قال حسان: أنا يا رسول الله، قال: كيف؟ قال: عندي -يا رسول الله- لسانٌ لو وضعتها على حجرٍ لفلقه، ولو وضعتها على شعرٍ لحلقه، ثم أخرج لسانه وضرب أرنبة أنفه}.

    فـالحطيئة مر بهذا الأمير، فطلب منه العشاء فما عشاه، فأتى بقصيدة مخزية مزرية، يقول في الأمير:

    دع المكارم لا ترحل لبُغيَتها     واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

    يقول: أنت خادم ولا تصلح أن تكون أميراً، لأن الأمير واجبه أن يضيف وأن يعطي وأن يبذل وأن يكون وجهه طلقاً سمحاً بشوشاً يعانق ويرحب.

    دع المكارم لا ترحل لبُغيَتها     واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

    من يفعل الخير لا يعدم جوازيه      لا يذهب العرف بين الله والناس

    أجمعت يأساً مبيناً من نوالكم      ولا يرى طارداً للحر كالآسي

    أتى هذا الأمير وسمع القصيدة التي سارت في العرب -والعرب تتنقل فيهم القصائد كالهواء أو كالماء- فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فركب ناقته وذهب إلى عمر وخلع رداءه، وقال: لا أتولى ولاية، سبني الحطيئة، قال عمر: ماذا قال فيك؟ قال: يقول:

    دع المكارم لا ترحل لبغيتها      فاقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

    عمر يدري أنها تنـزل على الكبد؛ لكن يريد أن يلطف الوضع- قال: لا أظن أنه سبك، يقول: اترك المكارم فإنك مطعم مكسي، وكلنا مطعم من الله ومكسي، قال: يا أمير المؤمنين! استدعِ حساناً -الذي يعرف- واسأله عن هذه القصيدة، فاستدعى حساناً، قال عمر: يا حسان! هل سبَّه؟ فقال حسان: لم يسبه -يا أمير المؤمنين- ولكنه سلح عليه، ليته سبه فحسب، لكنه سلح عليه. هذه قصة تطول، وإنما الشاهد فيها -بارك الله فيكم- القيام، وتكريم الوافد.

    فجلس كعب بن مالك بعد أن قام له طلحة بن عبيد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: {أبشر يا كعب بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك} قال كعب: فبكيت من الفرح.

    البكاء قسمان: بكاء حزن، وبكاء فرح، دمع الحزن حار، ودمع الفرح بارد، قال ابن القيم: يقول أحد الأولين:

    طفح السرور عليَّ حتى إنني     من عظم ما قد سرني أبكاني

    ومن هذا: المرأة، إذا سمِعَتْ بنجاح ولدها تبكي، لا تبكي لأنه رسب؟ بل تبكي فرحاً بنجاحه، وكذلك إذ رجع ولدها من سفر، فهذا يسمى دمع الفرح، أن يبكي الإنسان فرحاً وهو في غاية الفرح، ويقولون: إن صغار القلوب إذا أتاهم أمرٌ طامٌ ماتوا من كثرة الفرح، يصيب أحدهم سكتة فيموت.

    ذكر الجاحظ وغيره أن رجلاً من البخلاء ذهب إلى أحد الملوك، وكان هذا البخيل فقيراً وكان يظن أن الملك يعطيه عشرة دنانير أو مائة دينار أو ثوباً، أو أي شيء، فذهب فسأل الملك عطاء، فقال الملك: اصرفوا له عشرة آلاف دينار، هذه عشرة آلاف دينار ميزانية، فأتوا فأخبروا الرجل، قالوا: فجلس مرتعداً عند باب الملك وما مر عليه قليل حتى مات.

    لقد ذهب الحمار بأم عمرو     فلا رجعت ولا رجع الحمار

    وهذا يقوله ابن القيم في كتابه الطب، على الإنسان أن يتدرج مع حبيبه خاصةً مع الأطفال في الفرح، فلا يعطيهم الفرح دفعة واحدة، يقول: كيف لو حصل كذا أو حصل كذا؟

    وهذا نادر لا يحدث إلا لأهل الجشع، والطمع الذين يصابون بسكتات؛ لقلة الإيمان في قلوبهم، أما أهل الإيمان فسواء زادت الدنيا أو نقصت فأمرها سهل، بعضهم لا يتزعزع من المصائب ولو كانت كالجبال.

    قيل للأحنف بن قيس: [[ممن تعلمت الحلم؟ قال: تعلمت الحلم من قيس بن عاصم]] قيس بن عاصم هذا هو شيخ قبائل بني تميم، عنده عشرة آلاف رجل، إذا ناداهم حملوا عشرة آلاف سيف، لا يسألونه عما غضب، يقولون: إذا سمعوه ناداهم لمعركة قالوا: غضبت زبرة، وزبرة خادمة لـقيس بن عاصم، فإذا ناداهم قيس بن عاصم، أخذوا السيوف لا يسألون عما غضب؛ هل هو محق أو مبطل، أو ظالم أو مظلوم!

    لا يسألون أخاهم حين يندبهم      في النائبات على ما قال برهانا

    ويروى عنه أنه قدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه جلالة ومهابة وعقل وسكينة، وهذه شارة المؤمن دائماً، فرآه صلى الله عليه وسلم فقال: {ما سمعت برجلٍ إلا كان أقل مما سمعت به إلا أنت يا قيس فكنت أعظم مما سمعت به} وقال: {هذا سيد أهل الوبر -أي: البدو- قال قيس: يا رسول الله! إنه قد رق عظمي، وشاب رأسي، ودنا أجلي فأوصني يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: يا قيس! إن مع الصحة سقما،ً وإن مع القوة ضعفاً، وإن مع الغنى فقراً، وإن مع العزة ذلة، يا قيس! إن معك قريناً تدفن معه وهو حي ويدفن معك وأنت ميت، وهو عملك فأقلل منه أو أكثر، فبكى وارتحل إلى قومه}.

    الفرج يأتي بعد الشدة

    قال عليه الصلاة والسلام {يا كعب: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك -يوم تاب الله عليه- قال كعب: يا رسول الله! إن من توبة الله عليَّ أن أتخلع من مالي} يقول: من حق الله ما دام أنه قد تاب عليَّ وقبلني، فمن حق الله عليَّ أن أنخلع من مالي، وأتصدق به في سبيل الله.

    قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أبقِ عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك} وهذا مبدأ في الإسلام لابد أن يُتْنَبَه إليه، بعض الناس يمدح بعض الناس يقولون: لا يمسك درهماً ولا ديناراً! وورثته ومكسبه وأهله وأطفاله أين يذهبون؟! قال صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص: {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس} فيقول رسول الله لـكعب بن مالك: {أبقِ عليك بعض مالك، فهو خير لك؛ فإني أمسك سهي الذي بخيبر}

    وعاد كعب وقد فرح بعفو الله ورحمته ورضوانه، وكان له هذا فرجاً بعد الشدة، أي: أن الله فرج كربته بعدما اشتدت عليه الضوائق، قال الشافعي:

    ولرب نازلة يضيق بها الفتى      ذرعاً وعند الله منها المخرج

    ضاقت فلما استحكمت حلقاتها      فرجت وكنت أظنها لا تفرج

    قال ابن عباس: [[لن يغلب عسرٌ يسرين]] قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6]

    وهنا سؤال: كيف يقول ابن عباس: [[لن يغلب عسرٌ يسرين]] وهو قد ذكر في الآية العسر مرتين وذكر اليسر مرتين، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6] وابن عباس يقول: [[ لن يغلب عسرٌ يسرين]] وكأن اليسر ذكر مرتين، والعسر ذكر مرة، كيف وقد ذكر العسر مرتين واليسر مرتين؟

    والجواب: لأن العسر معرف فهو واحد، وأما اليسر فَمُنَكَّر، فهو متعدد، فالعسر الثاني هو العسر الأول، أما اليسر الأول فغير اليسر الثاني، وهذه (ال) للعهد؛ فلذلك جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مع كل عسر يسرين، فإذا ضاقت بالعبد الكرب، فليمد يده إلى الله، ولا يسأل أحداً بتفريج كربته، فلا يفرج الكرب إلا الله قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62] فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65].

    ثم ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا يكشف الضراء إلا هو.

    والعرب تقول في الأمثال: (إذا اشتد الحبل انقطع)؛ أي: إذا اشتدت الكرب سهلها الله عز وجل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088520469

    عدد مرات الحفظ

    777091718