وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فهذا لقاء متجدد مع برنامجنا من محاسن التأويل الذي نشرع فيه بعون من الله جل وعلا وتوفيق في تأملات في كلام الله تبارك وتعالى، والمنهج في هذه اللقاءات المباركة: أننا نعرج على سور القرآن متوخين أوائل ما نزل منها نبدأ به ذلك حتى يكون التأمل والتفسير والتأويل مطابقاً لمجريات النزول، ولأحداث السيرة العطرة والأيام النضرة لنبينا صلى الله عليه وسلم.
وكان قد مر معنا لقاءان حول سورة الكهف بينا فيهما أن سورة الكهف من أوائل ما أنزل، وأن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إنها من العتاق الأول، أي: من أوائل ما أنزل، وأنها من أوائل ما أخذه عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه من القرآن، وانتهينا إلى قول الله جل وعلا: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23-24].
وبيان المعنى في هذه الآيات على التالي:
يخاطب الله جل وعلا نبيه قائلاً له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ [الكهف:23]، وهي: استغراق في العموم أي: لأي أمر، إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].
والتي بين الله جل وعلا فيها كم لبثوا، فقبل أن يصل الله إلى مدة اللبث ليختم على القصة وينهيها خبراً عاتب نبيه بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].
وقبل أن نشرع في بيانها وأوجه التفسير فيها نقول: هذا يسمى من العتاب من الله جل وعلا للحبيب المكرم صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون: إن الشخص إذا أراد أن يعاتب حبيبه على بعض أسئلته، أو على طلبه، فإنه يعطيه الطلب ثم بعد ذلك يعقبه بالعتاب، ولا يقدم العتاب على الإجابة أو على الطلب سواءً أجاب أو لم يجب، إنما يؤخر العتاب، فالله جل وعلا أخر المدة الزمنية، ولم يعاتب نبيه، وأخبر نبيه بنبأ أصحاب الكهف: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13].
ثم لما قص جل وعلا على نبيه نبأ أصحاب الكهف بالحق، قال له في نهاية الخطاب: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا [الكهف:23]، وهذا الخلق الذي علمه الله جل وعلا نبيه تأدب به صلوات الله وسلامه عليه، فكما عامله ربه جل وعلا عامل صلى الله وعليه وسلم أصحابه بمثله، ويدل على هذا حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه، وهو أحد الصحابة المتأخرين إسلاماً، ولد في جوف الكعبة، وهو ابن أخ لـخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، واسمه حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم مالاً فيعطيه قال: سألته فأعطاني، وسألته فأعطاني، وسألته فأعطاني، ثم بعد أن أعطاه ثلاث مرات حتى لا يبين له أن المقصود منعه، وإنما المقصود تربيته قال له: (يا
هذا الخلق النبوي تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من تعليم الله له في القرآن: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].
أما أقوال العلماء في تفسير الآية فيمكن حصرها في تأويلين إذا فسرت مع التي بعدها؛ لأن الله قال: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:23-24] موضع الإشكال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] وإلا: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] فهذه ظاهرة لا تحتاج إلى مزيد إيضاح، لكن الإشكال هل قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] مرتبط بما سبق أم أنه استئناف كلام جديد؟ وهذا الذي قلت في مقدمة كلامي أنه للعلماء فيه طريقان:
الطريق الأول: أن قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] أي: إذا نسيت أن تستثني في أيمانك وطال الفصل فاذكر ذلك الاستثناء ولو بعد أجل، والمعنى: أنك إذا قلت: سأفعل كذا، ونسيت أن تقول: إن شاء الله، ثم تذكرت بعد دهر أنك لم تستثن فقل: إن شاء الله فيصبح معنى الآية: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] أي: إذا نسيت الاستثناء حال اليمين، أو حال الإخبار بفعل شيء، فلا بأس أن تقوله بعد فصل، هذا الأول.
وهذا القول يدل عليه ارتباط الآيات بعضها ببعض.
وقول آخر: أن قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] لا علاقة له بالأول، وإنما إذا غلب عليك النسيان فمن أسباب تذكر ما قد نسيت أن تذكر الله بتسبيحه وحمده، وتهليله، أن تقول: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله وأمثالها حتى تذكر الشيء الذي نسيته، وحجة هؤلاء ظاهرة وهي: أن الله جل وعلا أخبر في طيات كتابه أن النسيان من الشيطان: قال الله جل وعلا على لسان يوشع بن نون فتى موسى: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63].
وقال جل ذكره: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة:19] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن النسيان من الشيطان، فيطرد ذلك النسيان الذي هو من الشيطان بذكر الرحمن، على هذا القول من التفسير لا علاقة لقول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] بقول الله جل وعلا من قبل: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].
لكن ينبغي تحرير المسألة كالتالي:
من قال أصلاً بأن: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] مرتبطة بما سبق يقول: إن الفصل إذا طال لا ينفع فيه الاستثناء، بمعنى: لو أن إنسان أقسم على شيء أن يفعله، ولم يقل: إن شاء الله، ثم قال في غده أو بعده غده: إن شاء الله، فإن هذا الاستثناء المتأخر البعيد الفصل بينه وبين الخطاب الأول لا يمنع من وجوب الكفارة إذا حلف في يمينه، بمعنى: أنه لا تبرأ به الذمة، فلابد من الكفارة إذا حلف في اليمين، لكن أشكل على العلماء أن المشهور من قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفصل يصح ولو طال، ولو بعد سنين، هكذا فهم ابن عباس الآية في المنقول عنه رضي الله تعالى عنه، ونحن أمام معضلة وهي: إذا قلنا برأي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أطبق العلماء لو أخذنا بهذا الرأي لم يحنث أحد في الدنيا أبداً؛ لأنه إذا كان يحق له أن يقول: إن شاء الله في أي وقت، فإنه قبل أن يقدم، أو قبل أن يحجم يقول: إن شاء الله وتنتهي يمينه، وهذا لا يقول به عاقل، وما دام لا يقول به عاقل من الصعب إسناده إلى ابن عباس فكيف نتهم به رجلاً من أكابر علماء الصحابة إذاً: لابد من تخريج لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
الصواب -إن شاء الله- أنه قصد بقوله: أن تقول: إن شاء الله ولو طال الفصل لا لتبرأ الذمة بحنثك عن اليمين، وإنما لتشعر نفسك بأنك تداركت الأمر، فلا تصبح كاذباً أو معتمداً في أمورك على غير الله، فإذا نسيت وتذكرت بعد حين فإنك تقول: إن شاء الله، من باب تدارك الأمر، ومن باب الاستغفار، والإخبار أنك نسيت في أول الأمر ومن باب الاعتماد على الرب جل وعلا، والاعتقاد أن الأمور كلها لن تنفذ إلا بمشيئة الله، لكنك لا تقصد بهذا أن ترضى عن نفسك أو تسوغ لنفسك أن تحنث في يمينك فتجعل من قولك: إن شاء الله، التي بعد حين هي نفسها القريبة العهد بنفس الخطاب، وأرجو أن يكون هذا ظاهراً.
ومما يستطرف في هذا الشأن أن أبا حنيفة النعمان الفقيه المعروف لم يكن يقول بقول ابن عباس ، فكان أبو جعفر المنصور يأتي الواشون إليه ويقولون له: إن أبا حنيفة لا يقول بقول ابن عباس ، على اعتبار أن ابن عباس جد لـأبي جعفر . فأقدمه بين يديه، وقال له: كيف لا تقول بقول ابن عباس ؟ فأراد أن يخرج من هذا المأزق، وأبو جعفر أمير المؤمنين فكلمه بشيء يحافظ عليه وهو كرسيه، قال له: يا أمير المؤمنين ! إن القول بقول ابن عباس يضر بملكك، فإن الناس يعطونك أيماناً وبيعة، فإذا خرجوا من عندك قالوا: إن شاء الله، ثم يحنثون في يمينهم ويتركون البيعة، فلم يستطع أبو جعفر أن يجد جواباً على أبي حنيفة ، وإنما استحسن قوله وقبله منه.
والمقصود من هذا: أن هذا مضمار تجري فيه أقدام العلماء.
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23-24].
هذه الآية فيها إشعار خفي غير ظاهر، ومعناها: ادع الله أن يدلك على طريق أقرب لهداية الناس بآيات أعظم من آيات قصص أصحاب الكهف، يعني: لا تجعل القضية وقفاً على قصة أصحاب الكهف أن تقنع بها قومك، واسأل الله آيات أقرب رشداً إلى الطريق الحق من قصة أصحاب الكهف، وإن كان أصحاب الكهف من آيات الله ولا ريب أن الله استجاب دعاء نبيه، فأعطاه من الآيات المثبتة لنبوته صلى الله عليه وسلم وصدقه ما الله به عليم إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه.
وهناك طريقان لتفسير الآية: الطريق الأول: أن يقال: إن الله أراد أن يقول: إنهم لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين، وإنما أتى بها بهذه الطريقة لتناسب رءوس الآيات؛ لأنه لو قال: لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين لما أصبحت فواصل الآيات متطابقة.
والذي عليه الجمهور: أن الله أراد أن يقول: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]؛ لأن الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال هم أهل قريش، الذي أرشد قريشاً إلى أن تسأل هم أهل الكتاب، فأراد الله أن يقول: لبثوا ثلاثمائة سنين بحسب من أرشد وهم أهل الكتاب بالسنة الشمسية، وَازْدَادُوا تِسْعًا على الثلاثمائة بحساب من سأل وهم: قريش الذين يحسبون بالسنة القمرية، وهذا الجواب لا يقدر عليه إلا الله الذي أحاط بعلم أهل الكتاب، وبعلم قريش؛ لأن العلم بالفوارق بين السنين الشمسية والقمرية قلما يهدى إليه كل واحد، وهذا يحتاج إلى رجل حاذق ذي علم بطرائق الأفلاك، أو أمة تربت على هذا الشأن، لكن الله تبارك وتعالى علم نبيه ما لم يكن يعلم، وإلا فإن علم الله أعظم من ذلك وأجل، فيصبح هذا حل الإشكال في الآية: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25].
هذا معنى قول الله جل وعلا: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:26]، وهذه اللام للملك، فما من غائبة في السماء والأرض إلا والله جل وعلا يعلمها.
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [الكهف:26] هذا أسلوب تعجب عربي، والمقصود: عظم سمع الله جل وعلا وبصره، وهذا أمر لا خلاف فيه بين أهل السنة.
مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ [الكهف:26] اختلف على من يعود الضمير هل يعود على قريش المخاطبة، أو يعود على من في السماوات والأرض؟ والأظهر: أنه يعود لكل أحد فليس لأحد ولي من دون الله.
ثم قال سبحانه: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26]، وهذه الآية أصل فيما يسمى بالفقه السياسي، والمعنى: أن التنظيم المعاصر ينقسم إلى قسمين: تنظيم إداري، وتنظيم شرعي، فالتنظيم الإداري لا يعارض الآية، فعله من أمرنا بالاقتداء بهم مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لم يكن يعلم أن كعباً تخلف، حتى رجع إلى المدينة؛ لأنه لم توجد دواوين يكتب فيها أسماء الجند، فلما جاءت خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه أقر إيجاد الدواوين ليعرف من غاب ومن حضر، فصنع شيئاً لم يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا نظام إداري وليس شرعي، واشترى عمر دار صفوان بن أمية في مكة، وجعلها سجناً والدار قديمة من أيام الجاهلية، ولم يصنع هذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر من بعده، لكنه أمر إداري استحسنه عمر .
فهذه أمور إدارية صحيحة ما لم تخالف نصاً صريحاً، وعليه أكثر قوام حياة الناس اليوم، وهذا لم يعنف الله فيه وتركه مفتوحاً لخلقه يصنعون بحسب ما يلائم كل عصر، وكاتخاذ عمر تاريخ الهجرة.
أما قوله سبحانه: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26] فهذا الذي لا يجوز مخالفته، مثلما ما ينادى به في عصرنا من مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، أو دعوى أن الطلاق ينبغي أن يكون عن طريق المحاكم فقط، وسلبه من الرجل، أو ما إلى ذلك من أمور متعددة كوصفهم الرجم وقطع اليد بأنهما وحشية، وهذا كله لا يجوز شرعاً القول به، ومن تبناه كفر، ولهذا قال الله: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26].
قال: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الكهف:27] وكلمات الله وصفها الله جل وعلا بأنها متضمنة لأمرين: متضمنة التضمن الأول: للأخبار، والتضمن الثاني: للأوامر والنواهي، فالأخبار لا توصف بأنها عدل، وإنما توصف بأنها صدق وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115].
والأوامر والنواهي توصف بأنها عدل، فقول الله جل وعلا: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115]، أي: لا يجوز لأحد أن يجعل من أخباره الصادقة أخباراً كاذبة، ولا من أوامره ونواهيه العاجلة أن يجعلها أموراً، أو أسئلة أو مطالب أو نواهي أو أوامر جائرة، أو ظالمة، هذا معنى قول الله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27].
والميت يوضع في قبره، والقبر قسمان: شق، ولحد، واللحد هو: الميل، وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27] مأخوذ منها، وهو اسم مفعول بمعنى: لن تجد شيئاً تميل به عن الله، وجاء هذا في القرآن معبراً عنه مرة بالملتحد، ومرة بالمحيص، ومرة بالمناص، ومرة بالموئل، وكلها بمعنى واحد.
قال العلماء في تأويلها: إن نفراً من سادة قريش عيروا النبي صلى الله عليه وسلم بصحبته وجلوسه مع فقراء الصحابة: كـعمار ، وصهيب ، وبلال وأمثالهم من فقراء الصحابة الذين كانوا يعيشون في مكة، فأنزل الله جل وعلا على نبيه قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف:28] أي: احبسها مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، فسر قوله: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] بصلاة الفجر، وصلاة العصر، وفسر بغير ذلك، لكن أجمع ما يمكن أن يقال في تأويل هذه الآية إيمانياً: أن هؤلاء المباركين -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- وهذه ينبغي تدبرها جيداً، أنهم في الغداة وفي أول النهار يدعون ربهم بأن يسألونه التوفيق لطاعته، ولا موفق إلا الله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وبالعشي يستغفرونه عما حصل من تقصير خلال طاعتهم في ذلك اليوم؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يعبد الله جل وعلا حق عبادته، سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وهذا نظيره في القرآن أن الله قال عن بعض أوليائه: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17] ثم ذكر أنهم مع ذلك كله ينهون وقتهم بالاستغفار قال الله جل وعلا: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] عما حصل من تقصير.
قال ربنا تبارك وتعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
قول الله جل وعلا: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، ثم قال: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28] وهذه جملة حالية أي: حال كونك تريد زينة الحياة الدنيا، وهذا من تأديب الله لنبيه، وأن هؤلاء المعاندين المتكبرين إنما يريدون زينة الدنيا، ولا يحرصون على الآخرة، وقال له: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28] أي: في ترك هؤلاء الصالحين، ولم يذكر أسماءهم، وإنما ذكر الله صفاتهم حتى لا تصبح العبرة بخصوص السبب، وإنما العبرة بعموم اللفظ.
قال الله جل وعلا: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28] فهو ظاهر الطغيان متبع لهواه، غافل معرض عن ذكر الله، وهذه الأسباب قد توجد كلها في شخص، وقد يوجد بعضها، لكنها أياً كانت وجدت كلاً أو بعضاً، فهي صفات مقيتة تبعد عن الرب تبارك وتعالى، قد يتلبس بها الناس تلبساً كاملاً، فيكونون كفاراً، أو يتلبسون بها تلبساً جزئياً، فيكونون مؤمنين، لكنهم عصاة، أو مسلمين لكنهم فساق.
وأكثر الصحفيين في عصرنا يجعلون من هذه الآية دليلاً على التخيير، ويقولون لمن يجنح إلى الدعوة ماذا تريدون من الناس والله قد أطلق لهم العنان فقال: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].
وقد قال علماء الملة ونصراء الدين، وأئمة التفسير: ليس المقصود من الآية التخيير، وإنما السياق سياق تهديد ووعيد، والدليل على أنه سياق تهديد ووعيد: إن الله قال بعدها: وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا [الكهف:29] والظالمون هم المشركون الذين حادوا عن طريق الحق.
فقول الله سبحانه: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29] قرينة على أن المقصود ليس التخيير فيما سبق، وإنما هذا سياق تهديد ووعيد، كما أن من المراد من التهديد والوعيد إظهار استغناء الله ورسوله عن نصرة أهل الإشراك، فالدين حق آمنتم أو لم تؤمنوا، نصرتم أو لم تنصروا، دخلتم فيه أو حدتم عنه، المعنى: لا يضر الله جل وعلا ذلك شيئاً.
السرادق هو: الفسطاط، أو خيمة الشيء، أو المسور له ولذلك معان واسعة، لكن تفهم منه الإحاطة، أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا : شرطية، يُغَاثُوا واقع في جواب الشرط، ولذلك حذفت نونه؛ لأنه من الأفعال الخمسة.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ والأصل: أنهم طلبوا الإغاثة ليشربوا، لكن الله لم يقل إنهم ازدادوا عطشاً، ولم يقل إنه ذهب عطشهم، وإنما جاء بشيء آخر قال: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ويأتي السؤال ما علاقة الوجوه بماء يشرب؟ والمقصود: أن هذا الماء إنما دعوا به ليذهبوا حر عطشهم، فما إن قرب منهم لشدة حرارته التي هي كالمهل أي: كعكر الزيت، ما إن يدنوه من أفواههم حتى تتساقط فروة وجوههم فهذا قبل أن يطعموه، فكيف بعد ما طعموه، ولا ينجيك من هذا إلا الله، فمن توكل على الله كفاه الله خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ومن حاد عن الله فإن الله قال قبلها: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27].
قال الله: بِئْسَ الشَّرَابُ وهذا أسلوب ذم عند العرب، وبئس: فعل ماض جامد ناقص التصرف، يعني: لا يتصرف تصرفاً كاملاً، بئس الشراب والمخصوص بالذم محذوف والتقدير: بئس الشراب هذا الماء.
بِئْسَ الشَّرَابُ وسَاءَت مثل بئس سياق الذم مرتفقاً، والمرفق إنما يتكئ الإنسان عليه إذا شعر بالإعياء، وليس في النار راحة، وإنما المقصود: أسلوب تهكم بهم، فليس الخطاب على حقيقته.
بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا أي: جهنم أعاذنا وإياكم منها.
فكل من عمل صالحاً، وقد آمن وأراد بذلك وجه الله فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40] وسيأتي بيان هذا في موطنه.
(أولئك لهم): أي: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الكهف:31]، عدن في المكان بمعنى: أقام فيه وخلد، ولهذا سميت جنات عدن بذلك؛ لأنها دار خلود وإقامة.
أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الكهف:31] أنهار من لبن، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من غسل مصفى، وأنهار من ماء غير آسن، والقرآن يوضح بعضه بعضاً.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف:31].
وجاء في بعض الآيات أنها أساور من فضة، وجاء في بعض الآيات أنها أساور من لؤلؤ، ويجمع بينها: أنهم يحلون بأساور من ذهب، وأساور من فضة، وأساور من لؤلؤ تبلغ منهم ما يبلغه الوضوء كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة .
وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ [الكهف:31].
السندس: رقيق الحرير، والاستبرق: غليظ الحرير، وجمع الله جل وعلا لهم النعمتين، وعندما أهديت له صلى الله عليه وسلم قطعة من حرير فلمسها الصحابة وتحلقوا حولها قال: (أتعجبون من رقتها؟ لمناديل
والمقصود: جملة ما أعطاه الله جل وعلا من نعيم لأهل الجنة، وكون الثياب خضراً، هذا الذي كان لباس الملوك في الجاهلية، ولباس ملوك العرب في جاهليتهم، (خضر المناكب) وهذا شطر آخر بيت للنابغة الذيباني .
والمقصود: أن الخضر كانت نوعاً من اللباس الذي يتجمل به أعالي القوم، فعاملهم الله جل وعلا بجنس صنيعهم.
السرير إن جلس عليه فهو عرش، وإن وضع عليه ميت فهو نعش، وإن لم تضع عليه لا ميت ولا ملك وإنما نمت عليه فإنه يسمى سريراً.
شيء آخر اسمه: الحجال، الحجال قباب من ثياب مزخرف بعضها فوق بعض، كان النساء في ذلك الزمن ينمن عليها، ولهذا يقال: للمرأة أو للنسوة ربات الحجال أي: عاكفة على الحجال تنام فيه، فإذا هذا السرير وضع عليه الحجال أي: ظهرت له أعمدة، وغطي بثياب مع أن الصورة ظاهرة فإنه يأتي له بأعمدة أربعة عالية، ثم يغطى أشبه ما يتقى به البعوض، ثم وضعت عليه ألحفة وشراشف وأشباهها، هذا كله جملة مجموعه يسمى: أريكة، وقد كان هذا النوع من الطرائق في النوم، أو من الأمكنة في النوم من حال أهل الترف وما زال.
المقصود: قال الله: مُتَّكِئِينَ فِيهَا أهل طاعته، عَلَى الأَرَائِكِ الذي صورتها لك.
وبعد أن قال: بِئْسَ الشَّرَابُ ، قال: نِعْمَ الثَّوَابُ ولم يقل الشراب؛ لأنه لم يذكر الشراب هنا، والثواب: يطلق على الجزاء الحسن، والجزاء السيئ قال الله جل وعلا: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [المائدة:60].
وكما قال في الأول: وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29] قال هنا: (حسنت) على بابها ففي الأولى قلنا: ليست على بابها، لكنها هنا على بابها، لأن الاتكاء من الإعياء والراحة لا يطاق على عذاب أهل النار، وإنما تهكم الله بهم، وهنا جاءت على بابها الأصلي: أنهم يتكئون اتكاء راحة نعتها رب العزة والجلال بقوله: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:31].
كناطح صخرة يوماً ليفلقها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
فالوعل إذا نطح الصخرة بقرنيه هو الذي يتأثر، وليس الصخرة.
فضرب المثال لابد أن يكون شيئاً مقرباً للمستمع لمن يراك، ولمن تريد أن تضرب له مثالاً، فلا تجنح به بعيداً، فيكون مثالك أصعب من الشيء الذي أردت إزالة الإبهام عنه.
قال الله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ [الكهف:32] هل هذا حقيقة، أو مجرد ضرب مثل؟
كل ذلك محتمل، وهل هو في عهد النبوة، أم في الزمن الغابر؛ في عهد بني إسرائيل؟ هذا هو الأظهر، وأياً كان الأمر هذا مثال ضربه الله جل وعلا.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا [الكهف:32] أي: أحطناهما، قال تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ [الزمر:75].
وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ [الكهف:32-33] أي: ولم تنقص منه شيئاً، ولا يوجد تظلم في القرآن بمعنى: تنقص إلا في هذه الآية، والأصل: في النخل والكروم وغيرها، أنها إذا طال الأمد عليها ليس في كل عام تفي بغلتها كاملة، لكن هذا الرجل من الله عليه بأن شجره وزرعه ونخله يؤتي أكله في كل حين كاملاً.
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا [الكهف:33] أي: مجرى ماء.
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [الكهف:34].
المقصود: بقول الله جل وعلا: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [الكهف:34] أي: كان له مال آخر غير الشجر؛ لأن الثمر في لغة العرب يطلق: على الولد، وكل ما تمولته، وعلى الذهب والفضة، والحلي، وسائر ما تمتلكه يقال له: ثمر، هذا أسلوب العرب في كلامها، قال النابغة الذيباني :
وهو يعتذر لأحد الملوك:
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد
أي: ما أنمي، وما أملك من مال ومن ولد فداء لك.
والنابغة الذبياني أحد رءوس الشعراء الجاهليين، وكانوا يقولون: إن أشعر الجاهليين ثلاثة:
امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرب، والنابغة إذا رهب.
معنى الكلام: امرؤ القيس إذا ركب: أي إذا خرج يصطاد، فوصف الصيد، والأعشى إذا طرب: فقد كان سكيراً، إذا بلغت الخمرة منه مبلغها، والنابغة إذا رهب أي: إذا خاف واعتذر؛ لأن الخوف يدفع إلى الاعتذار، وهو أحد أصحاب المعلقات ومطلع معلقته:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقفت فيها أصيلاناً أسائلها عيت جواباً وما بالربع من أحد
نقول: إن قول الله جل وعلا: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ أي: له مال آخر غير ذلك الزرع.
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ أي: قرينة. وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا [الكهف:34]
وهذا ظاهر بالجنتين وما فيهما، وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34] النفير: من إذا استنفرته نفر معك، ويقصد: أكثر أولاداً، والدليل على أنه يقصد أكثر أولاداً: ما بعدها، لأن العبد الصالح قال له: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39] فمالاً: تأتي مقابل: أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وولداً: تأتي مقابل: وَأَعَزُّ نَفَرًا ففهمنا من أن النفر هنا: بمعنى: الولد، ولهذا قلنا: إن من أراد أن يفسر القرآن لا يستعجل، وإنما يرى الآيات مكتملة، ثم بعد ذلك سيهدى إن شاء الله إلى أقوم السبل.
وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [الكهف:35] جملة حالية، والظلم هنا: بمعنى: الشرك.
وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35] أي: لا أعتقد أن هذه على جلالتها، وكثرة مائها، ووفرت زرعها، وما فيها من رغاء وثغاء أنها ستفنى.
ثم قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36]، والإنسان -والعياذ بالله- إذا طغى فإنه يطغى بالتدرج؛ لأنه إذا ما وجد للكلمة ولم يرد عليه أحد فإنه يزيد.
يقال: إنه قيل لفرعون: كيف وصلت إلى ما أنت فيه؟ قال: لم أجد أحد يقول لي: إن هذا ممنوع، فما زال يقول، ويقول، ويقول حتى صدق نفسه لما رأى الناس يصدقونه، كمن اعتاد الكذب فإنه يقول الكذبة مرة ومرتين، وأنت تستحيي منه، فإن تركت له الحبل على الغارب كل مرة فإنه يزيدها، فأنت لن تستطيع أن تدفع الأخير، وقد رضيت بالأولى.
فالمقصود: أنه قال في أول الأمر: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35] وهذا اغترار بالجنتين، ثم تطور الأمر إلى أن قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36]، وكأن نفسه عاتبته فرجع إلى طغيانه وقال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36].
قال العلماء: كلمة رب هنا: ما قالها اعتقاداً وإنما جاءت عرض الكلام، يعني: إن كان ولابد كما يقول الناس إنه يوجد آخرة فالذي أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني خيراً منها في الآخرة.
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف:34] والمحاورة تجوز مع أي أحد إذا كان المقصود منها إظهار الحق.
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37] أعطاه ثلاثة أطوار للخلق، وللخلق أطوار أكثر من ذلك، وإنما بدأ بالتراب وهو أصل خلق أبينا آدم، ثم النطفة وهي أصل كل مخلوق، ثم سواك رجلاً، وهذا لا يلزم تمامه في كل أحد؛ لأن ليس كل أحد يعمر إلى هذه السن، لكنه يخاطب رجلاً بعينه.
لَكِنَّا [الكهف:38] (لكنا): زائدة ألف، وأصلها: لكن الاستدراكية، وأنا: الذي هو الضمير، حذفت ألف همزة القطع من أنا، وأدغمت نون الضمير في نون الحرف لكن، فأصبحت بهذه الصورة التي تراها في المصحف.
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ [الكهف:38-39] يخاطب المحاور الكافر، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ [الكهف:39] كان الأولى والأحرى بك أن تقول: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39] وهي كلمة شرعية تستخدم لدفع العين، لكن الكلام عنها سيأتي في بابها عند الحديث عن قول الله على لسان يعقوب: وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف:67] وكان مالك رحمه الله يقولون: إنه إذا أراد أن يجيب سائلاً قبل أن يجيب يقول: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39] ثم يجيب، لكن الناس ما اعتادوا على هذا، وأذكر أنني حاولت مرة أن أحاكي مالكاً فيها فسألني سائل، فقلت: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، فاستغرب فقال: خير يا شيخ! فأحجمنا عنها؛ لأن الناس لا يدركونها تحتاج إلى تعويد الناس عليها.
المقصود: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39]، ما عند الله إنما يستجدى بإظهار الفقر، والمسكنة والحاجة إلى الله، لا بإظهار البطر والاستغناء، والتعالي على رب العالمين جل جلاله.
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ [الكهف:40] وكان عبداً صالحاً دعا على ذلك المشرك بقوله: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [الكهف:40].
(حسباناً) هذه نعت لمحذوف، والمحذوف هو: هلاك. والمعنى: فيرسل عليها هلاكاً حسباناً من السماء، والحسبان هو: الشيء المقدر، لكن اختلف في معنى الحسبان هنا: فقيل: إنه الجراد، وأظنه بعيداً؛ لأن الجراد قد يأكل الأخضر، لكن لا يقدر على إهلاك الجنتين يعني: كلاهما، هذا واحد.
وقيل: سهام أصابتها، وقيل: صاعقة وهو الأظهر، لكن الله قال: حسباناً؛ لأنه الشيء المقدر، ولو أن هاتين الجنتين أهلكتا بزلزال عام، أو بجائحة عامة لما كان في ذلك انتصار للعبد الصالح، ويوصف هذا بتعبير العامة اليوم: هذا موس على كل الروس، يعني: زلزال عام وصواعق عامة، وفي كل سنة تجيء في الشتاء وفي الصيف، وهذا شيء عام لا تستطيع أن تقول: إنني أذنبت، لكن الله قال: (حسباناً) أي: شيئاً مقدراً على قدر الجنتين حتى يعرف أنها مراده ومقصوده بالهلاك.
وقد قال لنا أحد العلماء غفر الله له ورحمه: إنه أدرك بالمدينة مزرعة أصابتها صاعقة أفنت كل ما في المزرعة -وصاحبها كان ظالماً- إلا ظلاً بسيطاً يقول: لما جاء للظل وجد تحته قطة لديها أبناء، فلما انتفعت تلك القطة وأبناؤها بذلك الحيز اليسير من المزرعة نجاها الله جل وعلا؛ لأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة.
ولما كان غيرها يذهب وربما فجوراً وعصياناً ناله ما ناله من غضب الله، وهذا يؤيده قول الله جل وعلا من قبل: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30] وإن كان يقع أحياناً، فيرد إلى حديث: (يبعث الناس على نياتهم).
قال الله جل وعلا: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا [الكهف:41] غوراً: هذا مصدر بمعنى: غائر، ويؤيده قول الله جل وعلا: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا [الملك:30] والعرب كثر في كلامها -كما قرر نحاتها- أنهم يصفون اسم الفاعل بالمصدر، أي: يصبح ماؤها غوراً، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [الكهف:41].
قال الله: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف:42] كلمة ثمر تبين أن هذه الصاعقة أخذت كل شيء.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ [الكهف:42] كناية عن الندم والحسرة، عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:42].
قال الله: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الكهف:43] ومن ذا الذي يستطيع أصلاً أن ينصره من دون الله، ولهذا ترتب اللوازم عليها، قال الله: وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا [الكهف:43].
ثم قال الله: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44].
الولاية: أي شيء بينك وبين غيرك له سبب: دين حلف جوار نسب، هذه الولاية، وهذا السبب قد يختلف، فالولاية بيني وبينكم، وبين سائر من يسمعنا من المسلمين: الإسلام، وقد تزداد فتكون: الإسلام والنسب، وقد تزداد بأشياء أخر، لكن هنا لما لم يكن له عمل، وهذه بين المخلوقين، أما بين الله وبين خلقه فالولاية: الإيمان والعمل الصالح بها يستقطب المؤمن، ويستجذب ولاية الله، فلما لم يكن له إيمان، ولا عمل صالح لم يكن بينه وبين الله ولاية، قال الله: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44].
المقصود من الآية جملة: أن يبين الله لك أن الله جل وعلا قادر على كل شيء أن يبدءه ويثنيه ويعيده سبحانه وتعالى.
فالله قادر على الإحياء والإفناء، والإعادة، ضرب الله لهذا مثلاً قال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:45] التي يتعلقون بها، كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ [الكهف:45] شيء محسوس، لا يستطيع أن يكابر في رده أحد، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا [الكهف:45] بعد أن قام على سوقه، تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45] وهذا معنى قول الله: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45] فبهذا المثال يبين الظاهر الواضح المحسوس لكل أحد يبين لك ربك كمال قدرته، وجلال عزته، وعظيم قدرته على الخلق والإفناء والإعادة سبحانه وتعالى.
هذا ما يمكن أن يقال في هذا اللقاء المبارك في هذه الآيات المجزوءة من سورة الكهف التي بينا في أولها قضية قول الله جل وعلا في المشيئة وأقوال العلماء في الاستثناء، ثم ذكرنا ما بينه ربنا تبارك وتعالى من قصة الرجلين المتحاورين: مؤمن صابر، وكافر غني ذو كبر وأشرة، وما حصل بينهما من نزاع، وما انتهى الأمر إليه من ولاية الله جل وعلا لأوليائه المتقين، استجابة الله جل وعلا لدعوة ذلك العبد على من حاوره وقارنه، ثم بينا مثل الحياة الدنيا الذي بينه الله جل وعلا، وهذه الآية الأخيرة سنبدأ بها إن شاء الله تعالى لارتباطها بما بعدها في اللقاء المقبل إن شاء الله تعالى.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، والله المستعان وعليه البلاغ.
وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر