إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة النور [2]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من جملة أحكام الشريعة الواردة في سورة النور ما يتعلق بحكم قذف المؤمنين والمؤمنات، فقد أوجب الله تعالى في ذلك على القاذف الإتيان بأربعة شهود، وأوجب عليه عند العجز عن ذلك حداً في ظهره، فيجلد ثمانين جلدة تطهيراً للمجتمع وصيانة لأعراض المؤمنين عن المساس، ولما كان القذف -وهو تهمة المقذوف بالزنا- كان على الزوج إقامة البينة على قذفه امرأته أو الحد في ظهره، وفي ذلك مشقة عظيمة وحرج كبير على الأزواج، فشرع الله تبارك وتعالى حكم الملاعنة استثناء لقذف الزوج من الحكم العام في القذف.

    ذكر ما يترتب على القذف من أحكام

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافاً بفضله وإذعاناً لأمره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فغني عن القول أن يقال: إن هذا الدرس له ارتباط وثيق بالذي سبق، وقد شرعنا في الدرس الأول في تفسير فواتح سورة النور، وأخذنا الثلاث الآيات الأول منهن، وبينا أن الله جل وعلا قال: وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] إشارة إلى الأحكام، وتكلم الله جل وعلا فيها عن حد الزنا.

    ثم ينتقل بنا القرآن إلى حد آخر، وهو حد القذف، حيث يقول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... [النور:4]، وذكر تعالى أنه طلب منهم أربعة شهداء، فقال: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4] وهذا الحد يسمى حد القذف.

    وإذا تلبس المرء بجريمة الزنا فإنها تثبت عليه بواحد من ثلاثة: إما باعترافه بنفسه، وهذا هو الذي ثبت به الزنا في عهد النبوة، كقصة ماعز والمرأة التي من غامد.

    وإما بشهود أربعة، وهذا لم يقع في عهد النبوة.

    وإما بأن تحمل المرأة وليس لها زوج معروف، فهذا ما يتعلق بحد الزنا.

    أما الآية التي بين أيدينا فتتحدث عن حد القذف، والله جل وعلا قد أمر من قذف بأن يأتي بأربعة شهداء، فإن لم تقع تلك الشهادة على الوجه الذي أمر الله جل وعلا به ترتب على هذا الأمر ثلاثة أحكام:

    الأول: أن يجلد القاذف ثمانين جلدة.

    الثاني: ألا تقبل له شهادة أبداً.

    الثالث: أن يعتبر فاسقاً.

    ثم جاء الاستثناء بقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا [آل عمران:89].

    أثر الاعتراف في إقامة الحدود

    وقبل أن نشرع في الآية أقول: ذكرنا أن الزنا يثبت بواحدة من ثلاث، ومنها اعتراف المرء، وهذا الاعتراف يحكم به على إطلاقه، إلا فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بأنه ارتكب ما يوجب عليه الحد، فأكثر العلماء من أهل التحقيق على أن الشاعر إذا اعترف في شعره بما يوجب الحد عليه لا يقام عليه الحد؛ لأن الله جل وعلا برأهم بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:225-226].

    ومما يستأنس به أن عمر رضي الله تعالى عنه ولى رجلاً يقال له: النعمان بن عدي نيسان من أرض البصرة، وذات يوم خلا النعمان بنفسه وكان يحب الشعر ويقوله، فطفح به الكيل وفق تعبيره فقال يتغنى شعراً:

    ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان يسقى من زجاج وحنتم

    فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم

    لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم

    فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ما قاله النعمان فقال: والله إنه ليسوؤني، ومن لقيه فليخبره أنني عزلته، ثم كتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ. حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:1-3].

    أما بعد:

    فلقد بلغني قولك:

    لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم

    والله إنه ليسوؤني، وقد عزلتك.

    فقدم النعمان من أرض ميسان من أرض البصرة إلى المدينة فواجهه عمر بالشعر الذي بلغه، فقال: يا أمير المؤمنين! يعلم الله أنني ما شربتها قط، ولكنه شيء طفح به شعري. فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: وأنا أظن ذلك -أي: أعتقد صحة قولك في أنك لم تشرب- ولكنك لن تلي لي عملاً؛ لأنك تحدثت في شعرك عن الخمر.

    قال أهل العلم: إن عمر رضي الله عنه وأرضاه لم يقم الحد عليه رغم أن هذا الوالي في شعره كان صريحاً في أنه شرب الخمر، فهذا الاستثناء يخرج من قولنا: إن الزاني إذا اعترف بزناه يقام عليه الحد، فإذا اعترف في شعره لا يقام عليه الحد.

    وثمت رواية أخرى تؤيد هذا المنحى للفرزدق مع سليمان بن عبد الملك ، ولكن الذي قاله الفرزدق ظاهر الفحش عظيم البذاءة.

    فهذا تحرير قضية استثناء الشعراء من الاعتراف.

    فضيلة ستر معايب الناس

    إن الله جل وعلا يتكلم عما يحفظه المجتمع المسلم، فقد جعل لنا أعيناً وألسناً، وبمقدار ستر المرء لمعائب الناس يكون ستر الله جل وعلا لمعايبه، وقد نص أهل العلم -كما قال سعيد بن المسيب وغيره- على أنه لا يخلو أحد من أهل الفضل -مهما بلغت درجته- من معايب فيه، ولكن لا يحسن إشهارها للناس، وعلى هذا يجب أن تفهم أن كثيراً ممن أعلى الله قدرهم إنما أوقعهم الله على معايب لغيرهم، فلما ستروها وقد وقعوا عليها ورأوها قدراً ستر الله جل وعلا عليهم معايبهم.

    وكثير ممن تسلطوا على أخطاء الناس وعوراتهم سلط الله جل وعلا عليهم غيرهم.

    وهذا كائن في النهج العلمي، فـابن حزم رحمة الله تعالى عليه كان يقال عنه: إن لسان ابن حزم وسيف الحجاج صنوان، فـابن حزم في (المحلى) أجلب بخيله ورجله على الأئمة الأربعة وعلى مالك على وجه الخصوص، ولذا يقال: إن السبب في إعراض الناس عن مذهب الظاهرية من حيث الجملة، وكتب ابن حزم على وجه الخصوص ما جعل فيها من جلب على غيره من الأئمة، ولو كان منصفاً -رحمه الله- مع أولئك لجعل الله له إنصافاً عند الناس، وهذه سنة لله جل وعلا ماضية، وإلا فإنه لا يختلف اثنان ممن ذاقوا رحيق العلم في أن ابن حزم كان إماماً عظيماً جليلاً، ولكن غلبت عليه هذه الصفة فنجم عنها نفرة الناس عن كتبه، وهذه سنن لله جل وعلا لو تأملتها بتؤدة وتريث لوجدت أموراً عظيمة وخبايا عديدة يمن الله علينا وعليك بفقهها.

    شمول حد القذف للرجال والنساء

    يقول تعالى في حد القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، ولا يمكن أن يغير هذا الحد الشرعي، فجعل الله حد القذف ثمانين جلدة، وجعل حد الزنا مائة جلدة.

    والمحصنات: العفيفات، وليس ذكر النساء هنا المقصود منه الحصر، فقذف الرجال كقذف النساء، وقذف المحصنين كقذف المحصنات، ولكن لما كان الغالب أن القذف يقال في حق النساء ذكرهن الله تعالى هنا دون الرجال، فإن حاجك أحد في أن الرجال لم يذكروا فقل له: أجمعت الأمة على أن الرجال داخلون في ذلك، وإذا أجمعت الأمة فلا سبيل إلى نقض ذلك الإجماع.

    ولهذا فإن من العلم إذا أردت أن تبحث ألا تبحث في مسألة أجمع الناس عليها، ولكن انظر في مسائل الخلاف فلعلك تجد دليلاً ترجح به قولاً تختاره، أما ما اتفق الناس عليه فليس بمجال بحث أبداً؛ إذ لا تجتمع الأمة على ضلالة، خاصة إذا كان الإجماع مشتهراً معروفاً مقرراً.

    فالإجماع منعقد على أن القذف يقع في حق الرجل كما يقع في حق المرأة، وإن لم يسم الله الرجل.

    على أن بعض أهل التأويل يقول: (المحصنات) هنا ليس المقصود بها النساء، وإنما المراد المحصنات من الأنفس رجالاً ونساء. وهذا تخريج جيد، ولو فرضنا بعدم قبوله فإننا محكومون بالإجماع الذي حررناه من قبل.

    أحكام القذف وما ترفعه التوبة منها

    يقول الله تعالى في حكم القاذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، وقد حررنا مسألة الجلد من قبل.

    ثم ذكر الله تعالى الحكم الآخر فقال: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، و(أبداً) تأتي في نفي المستقبل، ويقابلها في نفي الماضي (قط)، تقول: لن أفعله أبداً، وتقول عن شيء محكي: ما فعلته قط. و(قط) أحياناً تزاد بفاء التزيين فيقال: (فقط).

    قال تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، ثم قال ربنا: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:89].

    وقد وقع الإشكال بين العلماء في هذا الاستثناء، حيث مرت ثلاثة أحكام، فأيها يرفع الاستثناء إذا تاب الإنسان؟ وقد اتفقوا على أنه لا يرفع الجلد؛ ولأن الجلد حق للمقذوف، فإذا رفعناه لا يستفيد المقذوف من توبة القاذف.

    قذف رجل رجلاً بالزنا فإن كونه يتوب إلى الله لا ينتفع منه المقذوف بشيء، فلا بد من إقامة الحد. واتفقوا كذلك على أن الفسق ينتفي إذا تاب، ووقع الإشكال في قول الله جل وعلا: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، فإذا تاب هذا الذي قذف بعد أن أقيم الحد عليه فهل إقامة الحد عليه ثم توبته بعد إقامة الحد تجعلنا نقبل شهادته بعد ذلك أم لا؟ للعلماء في ذلك قولان: فمذهب الجمهور أنه تقبل شهادته، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أن شهادته لا تقبل، وجعل الاستثناء مخرجاً له من دائرة الفسق فقط.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089173679

    عدد مرات الحفظ

    782436447