إسلام ويب

نصف ساعة مع رسول اللهللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن القلم ليتعثر، وإن الصوت لينقطع، إذا أراد الإنسان أن يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الدرس استعراض لجانب واحد من حياته صلى الله عليه وسلم، وهو تواضعه صلى الله عليه وسلم، والأنحية الفياضة التي كان يعيشها مع الطفل والشاب والمرأة والشيخ والعجوز، ومع الجواري والغلمان، وكراهيته صلى الله عليه وسلم للغلو في المدح والإطراء، ولقد جسد بذلك العظمة الحقيقية التي يصغر أمامها جميع العظماء، وقد شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء.
    الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.

    الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد، وبسط الأرض في أحسن مدد، وخلق الإنسان في كبد، والصلاة والسلام على خير الأولياء، وسيد الأصفياء، وإمام الصالحين والشهداء.

    وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    أيها الناس: إنني أريد أن أتحدث عن جانب من عظمته صلى الله عليه وسلم، ووالله إن القلم ليتعثر، وإن الصوت لينقطع، وإن الكلام لينتهي في عظمته صلى الله عليه وسلم.

    إنني لا أتحدث عن عظيم، بل أعظم عظيم، ولا عن مصلح فحسب، بل عن أعظم مصلح في الأرض، ولا عن مُرَبٍّ فقط، بل عن أجَلِّ مُرَبٍّ في المعمورة الذي قال الله فيه: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:1-6].

    يا أيها الجيل! يا طلبة العلم! يا أيها المسلمون! إن عظيمنا وقائدنا هو ذاك الرسول المدفون في طيبة، وكأني بـمحمد إقبال يوم قال في مقطوعته المترجمة إلى العربية التي ترجمها أبو الحسن الندوي، يقول:

    يا رسول الله!!

    ملأتُ أنفي بتراب مدينتكَ..

    فأخرجتُ من قلبي حبَّ الحضارة الغربية..

    فخرجت من نارها..

    كما خرج الخليل إبراهيم من نار النمرود..

    تعال يا من حاله في وبال     ونفسه محبوسة في عقال

    يا راقداً لم يستفق عندما     أذن في صبح المعالي بلال

    يا مشتري الحصباء من جهله     بالدر هذا في المعالي محال

    روض النـبي المصطفى وارفٌ     أزهاره فاحت بريا الجمال

    ميراثه فينا جميل الحلى      وأنتم أبناؤه يا رجال

    جانب التواضع في حياته صلى الله عليه وسلم

    من أين نبدأ؟ وإلى أين ننتهي في ذكر سيرته؟ يعجز الأدباء، ويسكت الشعراء، ويتحير المؤرخون، ويتلعثم المصنفون في عظمته صلى الله عليه وسلم؛ لكن في جانب واحد، وفي زهرة من روضته، نتحدث في هذا اليوم في جانب التواضع من حياته صلى الله عليه وسلم.

    أليس هو قرآن يمشي على الأرض؟ أما قال الله له: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]؟

    أما امتدحه الله من فوق سبع سماوات، فقال له: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]؟

    أما أثنى عليه، وقال له: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

    سهر العيون لغير دينك باطل     ورضا النفوس بغير شرعك ضائع

    والرسول - عليه الصلاة والسلام - أكبر من تواضع لله؛ لأنه عرف عظمة الله.

    جاءه ملِك من ملوك العرب - وقد صح هذا الحديث - فأتى الملك، ودلف إلى مكة؛ ليرى هذا الإنسان الذي غيّر العالم، فلما رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الملك ترتعد فرائصه، ويهتز، ويتزلزل في مكانه؛ لأنه رأى هالة العظمة، رأى سيماء التوفيق، وشارة المجد تلوح على محياه صلى الله عليه وسلم فيهدئ من روعه صلى الله عليه وسلم، ويهدئ من خوفه، ويقول له: {هون عليك، إني ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة} والقديد: هو اللحم المشوي إذا مُلِحَ وعُلِّقَ.

    نعم، إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة؛ لكنك حولت العالم.

    إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة؛ لكنك أعظم من طرق باب الإنسانية.

    إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة؛ لكنك قدت العالم إلى بر النجاة، وإلى شاطئ السلامة.

    إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة؛ ولكنك أخرجت الإنسان وشرفته وطهرته وعظمته.

    إن البرية يوم مبعث أحمد     نظر الإله لها فبدل حالها

    بل كرم الإنسان حين اختار من     خير البرية نجمها وهلالها

    الأريحية الفياضة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

    ويقول عليه الصلاة والسلام: {لو دُعيت إلى كراع لأجبتُ، ولو أهدي إلي ذراع لقبلتُ}.

    صلى الله عليك وسلم ما أعظمك! وما أجلك! كلما تواضعت شرُفت ونبُلت وعظُمت في العيون.

    نعم، لا يستنكف عليه الصلاة والسلام أن يجيب الدعوة، يذهب مع أصحابه، يسمع بالأعرابي يمرض فيزوره، وبالعجوز تصيبها الحمى فيزورها، وبالطفل يدهدهه فيمازحه، وبالأعرابي يوقفه فيقف معه، وبالمرأة تسأله فيحيي ويسهل ويَحْلَم عليه الصلاة والسلام.

    تأخذه الجارية بيدها من منزله، وكأنه ليس مشغولاً بالعالم، وأحداث الأرض ومشاغل الدنيا تدار على كفه، فيخرج مع الجارية، ويذهب معها، وتريه صلى الله عليه وسلم حدثاً بسيطاً.

    يزور طفلاً في المدينة، مات طائر له فيريد عليه الصلاة والسلام من هذه الزيارة أن يربي للعالم معالم الحضارة التربوية بجانب الطفل. ويذهب إلى الطفل، ويقول: {يا أبا عمير، ما فعل النغير؟}. أي عظمة هذه؟

    مرت به عجوز، وظنت أنها سوف ترى إنساناً في هالة، يحوطه الحرس، ويحميه الجنود، وتصفُّ المواكب بين يديه وخلفه، فرأت الإنسان الوقور الهادئ الحليم الكريم يجلس على التراب.

    تجلس على التراب وأنت من قدت القلوب إلى الواحد الوهاب؟!

    تجلس على التراب وأنت من سافرت بالأرواح إلى الفتاح العلام؟!

    تجلس على التراب وأنت دكدكت دولة البغي، دولة كسرى وقيصر، وأعلنت حقوق الإنسان, ورفعت علم (لا إله إلا الله) في سمرقند وطشقند، وفي أسبانيا، وعلى مشارف نهر اللوار؟!

    تجلس على التراب وأنت قدمت للعالم ألف عظيم وعظيم، وألف شاعر وشاعر، وألف عالم وعالم، وألف مؤرخ ومؤرخ؟!

    تجلس على التراب وأنت بنيت صروح العدالة، وبنيت مساجد الإسلام في كل البقاع، وذُبِح أصحابُك على مشارف دجلة والفرات والنيل؛ لتبقى (لا إله إلا الله)؟!

    فلما رأته هذه العجوز، قالت: {انظروا إليه يجلس كما يجلس العبد، ويأكل كما يأكل العبد، فيقول: نعم! وهل هناك أعبد مني؟}.

    انظر إلى الرد الجميل، وإلى الأريحية الفياضة، وإلى الخلق الفذ، إنها عظمة والله، كلما بحثت عن جوانبها دهشت إن كنت مسلماً، دخل حبه في قلبك وأثارت في نفسك معانٍ جياشة، وخواطر حارة، لا تحدثها أي ملحمة وملحمة. عجيب!!

    إنه عظيم في كل النواحي، وإن الذي لا يطرق قلبه حب هذا الرجل العظيم عليه الصلاة والسلام سوف يبقى ميتاً.

    يقول: {وهل هناك أعبد مني؟} عبدٌ؟! سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1].. تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1].. وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19].

    ومما زادني شرفاً وفخراً     وكدت بأخمصي أطأ الثريا

    دخولي تحت قولك يا عبادي     وأن صيَّرت أحمد لي نبيا

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088522486

    عدد مرات الحفظ

    777111224