الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد، وبسط الأرض في أحسن مدد، وخلق الإنسان في كبد، والصلاة والسلام على خير الأولياء، وسيد الأصفياء، وإمام الصالحين والشهداء.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: إنني أريد أن أتحدث عن جانب من عظمته صلى الله عليه وسلم، ووالله إن القلم ليتعثر، وإن الصوت لينقطع، وإن الكلام لينتهي في عظمته صلى الله عليه وسلم.
إنني لا أتحدث عن عظيم، بل أعظم عظيم، ولا عن مصلح فحسب، بل عن أعظم مصلح في الأرض، ولا عن مُرَبٍّ فقط، بل عن أجَلِّ مُرَبٍّ في المعمورة الذي قال الله فيه:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى
[النجم:1-6].
يا أيها الجيل! يا طلبة العلم! يا أيها المسلمون! إن عظيمنا وقائدنا هو ذاك الرسول المدفون في طيبة، وكأني بـمحمد إقبال يوم قال في مقطوعته المترجمة إلى العربية التي ترجمها أبو الحسن الندوي، يقول:
كما خرج الخليل إبراهيم من نار النمرود..
جانب التواضع في حياته صلى الله عليه وسلم
من أين نبدأ؟ وإلى أين ننتهي في ذكر سيرته؟ يعجز الأدباء، ويسكت الشعراء، ويتحير المؤرخون، ويتلعثم المصنفون في عظمته صلى الله عليه وسلم؛ لكن في جانب واحد، وفي زهرة من روضته، نتحدث في هذا اليوم في جانب التواضع من حياته صلى الله عليه وسلم.
أليس هو قرآن يمشي على الأرض؟ أما قال الله له:
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[الشعراء:215]؟
أما امتدحه الله من فوق سبع سماوات، فقال له:
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
[القلم:4]؟
أما أثنى عليه، وقال له:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
[آل عمران:159].
والرسول - عليه الصلاة والسلام - أكبر من تواضع لله؛ لأنه عرف عظمة الله.
جاءه ملِك من ملوك العرب - وقد صح هذا الحديث - فأتى الملك، ودلف إلى مكة؛ ليرى هذا الإنسان الذي غيّر العالم، فلما رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الملك ترتعد فرائصه، ويهتز، ويتزلزل في مكانه؛ لأنه رأى هالة العظمة، رأى سيماء التوفيق، وشارة المجد تلوح على محياه صلى الله عليه وسلم فيهدئ من روعه صلى الله عليه وسلم، ويهدئ من خوفه، ويقول له: {هون عليك، إني ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة} والقديد: هو اللحم المشوي إذا مُلِحَ وعُلِّقَ.
نعم، إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة؛ لكنك حولت العالم.
إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة؛ لكنك أعظم من طرق باب الإنسانية.
إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة؛ لكنك قدت العالم إلى بر النجاة، وإلى شاطئ السلامة.
إنك ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة؛ ولكنك أخرجت الإنسان وشرفته وطهرته وعظمته.
الأريحية الفياضة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذه هي العظمة، العظمة من قوة، من مركزية هائلة، ليست العظمة التي يبحث عنها وهو على التراب، إنسانٌ فقير معدم مسكين ويتواضع، هذا شيء طيب؛ ولكن إنسانٌ من أعظم الناس، ومن أشجع الناس، ومن أجل الناس ويتواضع، هذا عظيم وأيُّ عظيم نعم، سيّر الحب في القلوب فأحيا به الأرواح.
ووالله الذي لا إله إلا هو إن من أعظم الظلم أن يوضع في بيوتنا وفصولنا وجامعاتنا ومدارسنا عظماء وهم حقراء.
هل هتلر عظيم؟ وهو قاتل الإنسان، شارب دم الإنسان!
هل نابليون عظيم؟ وهو متهتك الحرمات، الفاجر في المحرمات، ماركس الكلب اللعين!
يُدَرَّسون، وتُوَرَّد حضارتهم للأنسان، وأين أعظم عظيم؟
يقول محمد إقبال في مقطوعته (فاتح مكة):
يا رسول الله، انصب خيامك في الصحراء..
وخذ أطنابك من قلوبنا..
وابْنِ مجدَك على جماجمنا..
ويقول:
يا رسول الله، معذرةً! أنا هندي..
تعاطفتُ مع دعوتكَ..
لأن العرب خانوا دعوتكَ..
فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ
[الأنعام:89].
كَفَر بها أبو جهل، وألفُ ألفٍ من أمثال أبي جهل، فأتى سلمانُ يقول: آمنتُ بالله.
وكفر بها أبو لهب، فأتى بلالٌ يقول: آمنتُ بالله.
وكفر أمية بن خلف، فأتى صهيبٌ من بلاد الروم يقول: آمنتُ بالله. نعم.
وخذ أطنابك من قلوبنا..
وابْنِ مجدَك على جماجمنا..
أي عظمة؟ وأي تواضع؟ وأي سيما؟
إن من يتحدث عنه صلى الله عليه وسلم ليَعْجَز؛ ولكن أُطالب نفسي وإياكم أن تقرءوا ترجمته وسيرته، خالصة ممزوجة بالحب، ليست ترجمة الوفيات، ولا التنقل والغزوات، ولكن ترجمة الحياة، والرَّوح، والياسمين، واليقظة، والإملاء العقلي والروحي الذي يصل إلى القلوب في القرآن، والسنة، والسيرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيـراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً
[الأحزاب:21].
إن بعض الناس ولو شعروا بالعظمة فيهم مركب نقص، يحتاجون إلى مدح وإطراء وتصفيق يكمل به الناقص، أما الرسول - عليه الصلاة والسلام - فقد اكتملت عظمته، والمادح فيه والساكت سيان.
ومدحنا وإطراؤنا اليوم وذكرنا لا يرفع من قدره، لأنه قد بلغ منزلة أقرّ بها المؤمن والكافر، والمسلم والمعاند، والعارف والمنكر، أقر بعظمته الأعدء قبل الأصدقاء.
أُلِّف كتاب في أمريكا، واجتمع له مفكرو الدنيا من يابانيين وصينيين وفرنسيين وإنجليز، فأخذوا مائة عظيم على تاريخ البشرية، من يوم خُلِقَ آدم إلى الآن، فكان العظيم الأول محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يتدخل في هذا الاجتماع مسلم واحد؛ لكنها العظمةٌ التي بهرت الدنيا، وتكلمت على لسان التاريخ، وكُتِبَت على جبين الزمن، وأقر بذلك كل واحد إلا رجل واهن، أو رجل مفتر على الله، أو جاهل، عقله ودماغه كعقل ودماغ الحمار.