ذكر صاحب المتن أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل التعليق على هذا يحسن أن تعلم أن العم معروف أنه أخو الوالد، وأن عبد المطلب هو جد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له في أول الأمر إلا ابن واحد، ثم إنه اشتد عليه بعض الخلاف مع زعماء قريش فنذر إن رزقه الله أولاداً يمنعونه أن يذبح أحدهم، وهذا في الجاهلية، فرزقه الله جل وعلا أولاداً، فأراد أن يذبح ابنه عبد الله ، ثم حصل ما حصل من قضية الاستهام، ففدي عبد الله بمائة من الإبل، فهؤلاء كلهم إخوة لـعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح إخوة أبيه أعمامًا له.
نعود لأصل الموضوع: أصل الموضوع أن لوطًا عليه الصلاة والسلام -ويحسن بطالب العلم أن يربط بين حياة الأنبياء، ويفقه السنن التي يبعث الله جل وعلا من أجلها الرسل- كان ابن أخ لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما هاجر لوط ونزل أرض سدوم في جهة البحر الميت اليوم، وجاءته الملائكة بصورة أناس ذوي وجوه حسان تامي الخلقة، وفتن بهم قوم لوط، ودخلوا عليه وراودوه عن ضيفه كما قال القرآن، قال لوط -كما قال الله-: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، فكان يتمنى أن يكون له قوم ينصرونه على هؤلاء؛ لأنه لو كان منيعاً لما تجرأ هؤلاء عليه، قال صلى الله عليه وسلم كما في البخاري وغيره قال: (فما بعث الله نبياً بعده إلا في منعة من قومه).
فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أعمام، وبنو هاشم كانوا لهم صيت عند القرشيين، وهذا كله من أجل حفظ نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد بينا في السابق أن الإنسان قد يستفيد حتى من الكافر، فبنو هاشم مؤمنهم وكافرهم كانوا عصبة للنبي عليه الصلاة والسلام، وقلنا إنهم جميعاً دخلوا معه الشعب المؤمن منهم والكافر، وقبلوا الحصار؛ لأنهم يشعرون بالأنفة والحمية لمن يحمونه ولو كانوا يخالفونه.
والشاهد من هذا كله أن النبي عليه الصلاة والسلام كان له أعمام كثيرون، لكن هؤلاء الأعمام أنت لست ملزماً بحفظهم، وإنما ذكرهم صاحب المتن من باب التعلم، والذي أنت ملزم به هو التصور الكامل للمسألة، وأن تعلم أن أعمام النبي صلى الله عليه وسلم يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام:
قسم لم يدرك نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ومبعثه، وبالتالي عندما لم يدرك النبوة لم يدرك المبعث، فيكون قد مات على دين آبائه، فهو من أهل الفترة، فيجري عليه ما يجري على أهل الفترة؛ لأنه ما أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: أدرك مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن، وهذا يضم اثنين شهيرين: أبو طالب وأبو لهب ، فكلاهما أردك البعثة النبوية ولم يؤمن، وهذا القسم نفسه ينقسم إلى قسمين:
قسم لم يؤمن وناصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبو طالب .
وقسم لم يؤمن وعادى النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينصره، وهو أبو لهب ، وسمي أبا لهب لجمال خديه ونورهما، وإلا فاسمه الحقيقي عبد العزى ، وإنما أبو لهب كنيته، وفي هذا نزل قول الله جل وعلا: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:1-2].
وهذه الآية من أعظم السور الدالة على أنه لا يمكن لأحد أن يخرج عن مشيئة الله، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: هذا القرآن من عند الله، وقريش تقول -ومن ضمنها أبو لهب -: هذا القرآن ليس من عند الله، فلما قال أبو لهب لنبينا عليه الصلاة والسلام: تباً لك سائر اليوم؛ ألهذا جمعتنا؟! أنزل الله على نبينا هذه السورة، فقال عليه الصلاة والسلام يتلوها: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:1-3].
ومعلوم أن النار ذات لهب لا يصلاها المؤمن، وإنما يصلاها الكافر، فهو يقول للناس وأبو لهب يسمع: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، فكان بإمكان أبي لهب أن يقول للناس: محمد يقول: إنني في النار، وأنا الآن مؤمن بمحمد؛ حتى يبطل على النبي القرآن، إذاً فمحمد كذاب.
فهذه على سهولتها لم يستطع أن يقولها، وإلا لو قالها لخرج، لكن الله جل وعلا يعلم يقيناً أنه لن يقولها، ولذلك قال الله: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، وأنا لا أريد أن أخرج من السيرة إلى التفسير، ولكن من أراد أن يخشع في القرآن فليتدبر القرآن في المقام الأول، ففي القرآن كنوز ليس هذا وقت إخراجها، من رزق قدرة على التفسير فسيرى شيئاً عجباً في دلائل قدرة الله، لكن كما قلت: لا أريد أن أخرج إلى هذا المنحى.
والمقصود أن أبا لهب لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاداه.
القسم الثالث: قسم أدرك البعثة وأسلم، وهما حمزة والعباس ، وحمزة رضي الله عنه تقدم إسلامه، وأما العباس فقد تأخر إسلامه إلى قريب من زمن الفتح، وبعض المؤرخين يقول: إنه أسلم قبل ذلك، لكنه ما أشهر إسلامه إلا في زمن الفتح، والذي يعنينا أنه أسلم ومات على الإسلام.
و حمزة هو أخو النبي عليه الصلاة والسلام من الرضاعة، وكنيته أبو عمارة ، ولم يترك إلا ابنة ماتت قبل أن تنجب، فالنسب إذاً إلى حمزة منقطع، فلا يوجد أحد اليوم من ذرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الصحابي الجليل أسلم قديماً، أي: أنه من السابقين الأولين من المسلمين، ثم هاجر مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكان ينصر الرسول في مكة، فلما هاجر كان فارساً مقداماً ورجلاً شجاعاً، فلما كانت يوم بدر كانت لـحمزة اليد الطولى في رفع لواء أهل الإسلام؛ لأنه كان رجلاً فارساً مغواراً، فكان أكثر من مات من القرشيين مات بسبب قتل حمزة له، وممن قتل رجل يقال له: مطعمة بن عدي
، ومطعمة هذا عم لرجل اسمه جبير بن مطعم ، فـمطعم ومطعمة أخوان، ومطعم له ابن اسمه جبير أسلم بعد ذلك.فـجبير هذا جاء لغلام اسمه وحشي ، ووحشي هذا كان عبداً عند جبير ، ولا يعنيه هل ينتصر المسلمون أو ينتصر الكافرون، لا تضره ذلك شيئاً، لكنه كان غلاماً يجيد الرمي بالحربة، فجاءه جبير وعرض عليه أكثر شيء يتمناه وهو الحرية، فقال له: إن قتلت حمزة فأنت حر، فأعد وحشي حربة له، ولما جاء أبو سفيان بجيشه في أحد جاء معه، وليس له هم إلا حمزة ، فتربص به والناس يقتتلون ، وهو لا ينتصر لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، ويوجد في كل قوم أقوام من الساقة ليس عليهم بأس، فأخذ يتربص بـحمزة وحمزة يفتك في الناس، حتى جاء حمزة لرجل قرشي كانت أمه تختن النساء في الجاهلية، فناداه حمزة : هلم إليّ يا بن كذا وكذا يسبه ويعيره بأمه، ثم ضربه فمات، فلما فرغ والتف إذا بـوحشي يرميه بالحربة فسقطت في أعلى سرته ونزلت من ثنته، فسقط على الأرض وأخذ يتلوى، ولم يكن بجواره أحد ينقذه، يقول وحشي راوي الخبر: وأنا أنظر إليه، أي: أنه يريد الحربة، قال: وأنا أنظر إليه حتى تيقنت أنه مات، فقام إليه وحشي وأخذ الحربة، قال وحشي : وليس لي شأن ولا هم في غيره، فهمّي حريتي وقد نلتها، ثم انتظر قليلاً حتى ينتهي الناس من الحرب، وجاءت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان فكأنها قطعت شيئاً من جسد حمزة ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة قد مثّل به فحزن حزناً شديداً، وكان عليه الصلاة والسلام يحب حمزة حباً شديداً، فقال: لولا أن تبكي عليه صفية وهي عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأخت حمزة الشقيقة -لتركت حمزة هكذا حتى يحشر من بطون السباع والوحوش والطير، لكنه دفنه عليه الصلاة والسلام كما دفن معه بقية الشهداء وقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: (سيد الشهداء
ثم إن وحشياً هذا رجع إلى مكة ونال حريته، ثم عاش حتى جاء النبي عليه الصلاة والسلام ودخل مكة، ففر إلى الطائف، فلما ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الطائف وأسلم أهلها قال: قلت في نفسي: أذهب إلى الشام أذهب إلى اليمن، فبلغني أن النبي عليه السلام لا يؤذي أحداً دخل في دين الله، فقدم المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام فيها، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: (أنت
ثم عُمِّر وحشي حتى قالوا: إنه قتل مسيلمة الكذاب بنفس الحربة.
ثم إنه كان رضي الله عنه وأرضاه مبتلىً بشرب الخمر، فقلما يصحو في آخر عمره، حتى إن الرواية هذه في قضية قتل حمزة يقول الراوي عن وحشي : لما بُعثت إليه قيل لي: لعلك أن تجده غير شارب للخمر، يعني: في وقت صحو، قال: فوافقته في وقت صحو.
وهنا تأتي مسألة عند العلماء وهي: ينقل عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا يجتمع حمزة وقاتله في الجنة)، لكن يشك في صحة الكلام إلى عمر على اعتبار أن وحشياً مات مدمناً على للخمر فلا يدخل الجنة.
لكن الصواب أن يقال: إن وحشياً أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم قَبِل إسلامه، وهو معدود في الصحابة؛ لأنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام وآمن به ومات على الإيمان، لكن يتوقف عند هذا ولا يدخل في قضية أن وحشياً لا يدخل الجنة؛ لأنه مات شارب للخمر، فالصحابة كلهم يتفاوتون في قضية إتيانهم للطاعات وبعدهم عن المعاصي، والذي يعنينا هنا أن وحشياً هو الذي قتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عن جميع الصحابة.
ثم إن جبيراً هذا نفسه الذي أوصى وحشياً أن يقتل حمزة هو نفسه أسلم، فرحمة الله واسعة، ومن تاب تاب الله جل وعلا عليه، والصحابة لهم منزلة خاصة، والقرآن والسنة لا يجوز لأحد أن يخوض فيهما فيما لا يعرف ولو كانت على غرار المسائل العلمية، وإنما يخوضها بتحقق وبمعرفة ما للصحابة من حق عظيم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما كان من شأن حمزة .
وأما العباس فقد كان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنوات -أي أكبر-، لكنه كان مؤدباً، فإذا سئل أيهما أكبر أنت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول: هو أكبر مني، وأنا أسن منه، فهذا من الأدب؛ فكلمة أكبر تحتمل أشياء كثيرة، فيقول: هو أكبر مني، أي: في الفضل والعلم والعقل والدين والهداية، وأنا أسن منه، وكلمة أسن تعطي نفس المعنى بالسن، لكنها تؤتي نفس الضعف، كمن يقال: أسن فلان، يعني: ضعف، فاللغة من يعرفها كثيراً يستطيع أن يلعب بألفاظها، فقال العباس : هو أكبر مني، وأنا أسن منه.
قلنا: إن العباس أسلم قبل عام الفتح على الصحيح، وفي معركة خيبر كان أحد الصحابة قد أسلم ويخفي إسلامه عن قريش، ثم لما دخل مكة والنبي عليه الصلاة والسلام قد انتصر في خيبر، أشاع هذا الرجل في القرشيين أن النبي عليه الصلاة والسلام غلب في خيبر وهزم وقتل، حتى يطمئن على ماله ويريد أن يخرج من مكة، قبل أن يخرج جاء إلى العباس وقال له: إن النبي عليه الصلاة والسلام قد انتصر، وإنما أنا قلت هذا خوفاً على تجارتي، وأبشرك أن النبي عليه الصلاة والسلام قد تزوج بنت ملكهم، أي: بنت حيي بن أخطب ، فسكت العباس حتى اطمأن أن صاحبه هذا خرج من مكةفلبس أحسن ثياب -وهذه عادة عند القرشيين الناس من قديم يفرون من الشماتة- فدخل المسجد وقريش في أنديتها تحسب أن النبي عليه الصلاة والسلام قد غلب في خيبر أو قتل، فدخل وهو متجمل متطيب وطاف بالبيت، فلما طاف بالبيت جاء القرشيون إليه يقولون له: هذا والله التجمل لحر المصيبة يا أبا الفضل ، يعنون أن محمداً ابن أخيه قد مات، هذا والله التجمل لحر المصيبة يا أبا الفضل ! وهي كنية العباس ، فقال: وما ذاك؟ فقالوا له: قتل ابن أخيك كذا وكذا، قال: كذبتم، والله لقد أضحى منتصراً معرساً في ابنة ملكهم، أي: متزوجاً بابنة ملكهم، ثم تبين للقرشيين صدق ما قاله أبو الفضل رضي الله عنه وأرضاه.
ثم هاجر العباس بعد ذلك وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم عندما مات، وقلنا: إنه واحد من الستة الذين اشتركوا في غسل النبي عليه الصلاة والسلام، وقلنا: إن الصحيح أنه لم ينزل القبر، وإنما نزل قبره ابناه قثم والفضل ، وكنيته أبو الفضل رضي الله عنه وأرضاه.
وزوجته كنيتها أم الفضل لها أخت اسمها ميمونة ، وكان أبو الفضل العباس يرى من ميمونة أخت زوجته يرى منها التقوى، فأشار على النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوجها فتزوجها ، وهي ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وهي خالة ابن عباس كما سيأتي، فكان عندها مع النبي عليه الصلاة والسلام فينقل للناس أخبار قيام الليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و العباس كان الصحابة يعرفون له قدره وأنه سيد بني هاشم في زمانه؛ لأنه أكبرهم، وهو أول من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ميت، وقلنا في درس وفاته عليه الصلاة والسلام: إن الناس صلوا عليه أرسالاً -أي: متفرقين-، فكان أول من صلى عليه عمه العباس ، ولم يتقدم أحد، ثم صلى عليه بنو هاشم كلهم كـعلي وغيره من بني هاشم.
هذا ما كان من العباس رضي الله عنه، وقد أكرمه الله أن من ذريته ابنه عبد الله بن عباس الصحابي المعروف بالعلم، ثم من ذريته قيام دولة بني العباس، فـأبو العباس السفاح مؤسس دولة بني العباس من ذرية العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وإنما سميت دولتهم بالدولة العباسية نسبة إلى العباس بن عبد المطلب عم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
هذا بالنسبة لأعمامه.
وأما عماته صلى الله عليه وسلم فقد اختلف فيمن أسلم منهن ممن لم تسلم، وممن ثبت إسلامها صفية بنت عبد المطلب ، وهذه صفية هي أم الزبير بن العوام حواري النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا كما مر معنا أنها أخت شقيقة لـحمزة بن عبد المطلب ، ولا شك في إسلامها فإسلامها وهجرتها، رضي الله عنها وأرضاها ثابتان.
ومنهن امرأة يقال لها عاتكة ، وقد اختلف في أنها أسلمت أو لم تسلم، وهذه عاتكة هي التي رأت الرؤيا قبل معركة بدر، فقد رأت في مكة أن صخرة كبيرة انفلقت عند جبال مكة، ثم تناثرت حجارها على كل بيت في قريش، ثم سمعت منادياً ينادي يقول: يا آل بدر انصرفوا إلى مصارعكم، فلما أصبح الناس يتحدثون بهذه القصة كان أبو جهل مازال حياً؛ لأن هذا قبل موقعة بدر، وكان بنو مخزوم أحد أنداد بني هاشم، فبنو مخزوم أندار لبني هاشم، فالنزاع الذي كان ما بين أبي جهل وبين النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لـأبي جهل كان نزاع أقران وتنافس أقران من جهة أبي جهل نفسه، فلما بلغته هذه الرؤيا دخل على العباس ، ودخل على بني هاشم وقال: يا بني عبد المطلب أما كفاكم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟! والله لا يتحدثن أحد بهذه الرؤيا إلا فعلت وفعلت وفعلت، فصدق الله رؤيا عاتكة وجاء المنادي ينادي ويستغيث بالقرشيين حتى ينقذوا العير، ثم خرج الناس كما وقع في الرؤيا، ومن لم يخرج أخرج بدلاً منه، فخرجوا كلهم كما قال في الرؤيا: يا آل بدر انصرفوا لمصارعكم، وخرجوا جميعاً إلى بدر، فكان ما كان من أمر بدر، وأصيبت قريش في قتلاها، وهذا كله مر معنا في غزوة بدر، لكن تكلمنا عنه من باب الحديث عن عاتكة التي اختلف في إسلامها.
وأما أكثر عماته صلى الله عليه وسلم وهن أربع فلم يدركن بعثته صلواته الله وسلامه عليه.
والفصل الذي نحن بصدد إيضاحه اليوم هو ذكر أزواجه عليه وعليهن الصلاة والسلام:
وقبل أن نشرع فيما ذكره المصنف من ذكر أسماء أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن، فإننا نقول: إن نبينا صلى الله عليه وسلم جعله الله -كما مر معنا- بشراً، فأخذ الخصائص البشرية التي أعطيت للناس، كما قال جل وعلا عن أنبيائه ورسله: وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
والبيت النبوي كان يتكون في أول الإسلام وقبل الإسلام قبل البعثة، كان يتكون من النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين خديجة بنت خويلد والستة الذين رزقهم جل وعلا نبيه من خديجة . طفلان صغيران ماتا وهما صغيران، وبقي أربع بنات، فكان البيت النبوي قد استقر على أربع بنات مع النبي عليه الصلاة والسلام، أما القاسم وعبد الله الملقب بـالطيب أو الطاهر فقد مر معنا أن هذين توفيا وهما صغار، لكن البيت النبوي اقتصر على أربع بنات وأمهن خديجة ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومضى على هذا من زواجه عليه الصلاة والسلام حتى توفيت خديجة خمسة وعشرون عاماً، فإن خديجة توفيت والنبي صلى الله عليه وسلم عمره قرابة خمسين عاماً، وذلك قبل أن يهاجر إلى المدينة بثلاث سنوات، هذا كله وهو عليه الصلاة والسلام لم يتزوج، ثم بعد ذلك تزوج سودة ومازال عليه الصلاة والسلام يتزوج لأسباب سيأتي ذكرها حتى توفي صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة لك كطالب علم يجب أن تعلم التالي:
الثابت أنه عليه الصلاة والسلام عقد على ثلاث عشرة امرأة، هذا مجرد عقد، ودخل على إحدى عشرة امرأة، وتوفي صلى الله عليه وسلم عن تسع، وكان يقسم قبل وفاته لثمان، وبيان هذا على النحو التالي:
قلنا: إنه عقد على ثلاثة عشر امرأة صلوات الله وسلامه عليه: اثنتان منهن عقد عليهما ولم يدخل عليهما، فلا تجري عليهما قضايا وأحكام أمهات المؤمنين في الآخرة، وأما في الدنيا فالمسألة خلافية، فلا يقال لواحدة منهما: إنها أم المؤمنين، لكن هل يتزوجها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ هذه مسألة لم تثبت.
هاتان المرأتان هما أسماء بنت النعمان الكندية ، فهذه رأى فيها بياضاً فطلقها ومتعها صلوات الله وسلامه عليه، ولم يدخل عليها، والمرأة الثانية عمرة بنت يزيد الكلابية ، فهذه لما دخل عليها كانت حديثة عهد بجهل وقبح، والله جل وعلا جعل لأكثر الأشياء أسباباً، فلما دخل عليها قالت: أعوذ بالله منك؛ لجهلها تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله منك، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (لقد عذت بعظيم)، وفي رواية قال: (عائذ مانع، الحقي بأهلك)، فطلقها ولم يدخل عليها، فهاتان لم يدخل عليهما صلوات الله وسلامه عليه.
وبقي إحدى عشرة امرأة فهؤلاء هن أمهات المؤمنين قطعاً، فكلهن دخل عليهن صلوات الله وسلامه عليه، اثنتان منهن توفيتا في حياته صلوات الله وسلامه عليه وهما: خديجة بنت خويلد وزينب بنت خزيمة الهلالية
.والتسع الباقيات منهن سودة بنت زمعة أول زوجاته بعد خديجة ، فهذه كبرت ووهبت في آخر عمره صلى الله عليه وسلم وهبت ليلتها لـعائشة ، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم لا يقسم لتسع وإنما يقسم لثمان من نسائه، تحرر من هذا أنه عليه الصلاة والسلام عقد على ثلاث عشرة امرأة، ولم يدخل باثنتين منهن، ودخل بإحدى عشرة، اثنتان من الإحدى عشرة توفيتا في حياته وهما خديجة بنت خويلد وزينب بنت خزيمة رضي الله عنهما، وتسع نسوة بقين في حياته مات عنهن، منهن سودة بنت زمعة لم يكن صلى الله عليه وسلم يقسم لها في آخر حياته كما سيأتي، ووهبت ليلتها لـعائشة رضي الله عنهن، فهؤلاء هن أمهات المؤمنين.
وهؤلاء رضي الله عنهن وأرضاهن اختارهن الله ليكن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ويجب عليهن رغم أنهن أمهات المؤمنين يجب عليهن الحجاب في المقام الأول، فلا يصح لأحد من الأمة أن يرينه أو أن يراهن، يعني: أن الحجاب فرض عليهن رغم أنهن أمهات المؤمنين، إلا رجل بينه وبينهن محرم من جهة أخرى كقرابة مثلاً، فـميمونة هي خالة ابن عباس لذلك فهو يراها، لكن كونها أم المؤمنين لا يعني ذلك أنه يراها، هذا الأمر الأول.
والأمر الثاني: أن الله حرم على المؤمنين نكاح أمهات المؤمنين بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، وجعل هذا أمراً عظيماً لا يقبل، ولم يحصل ولله الحمد والمنة قطعاً.
وأما في الآخرة: فإنهن جميعاً الإحدى عشرة زوجاته صلى الله عليه وسلم، كما أنهن زوجاته في الدنيا.
وأما قضية تعدد زواجه عليه الصلاة والسلام فبالنسبة لنا معشر المسلمين لا نقول: كيف تزوج النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة امرأة أو عقد على ثلاث عشرة امرأة، لماذا؟ لأننا نعلم أن الله جل وعلا جعله أفضل الخلق، ويعطيه يوم القيامة المقام المحمود، فهو صلى الله عليه وسلم لا يفتح باب الجنة إلا إذا طرقه، فيقول له الخازن من أنت؟ فيقول: أنا محمد، فإذا كنا نعلم هذا من دين، وأنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وأفضل الأنبياء والرسل، وأول من يطرق باب الجنة فلا نستكثر عليه بعد ذلك أن يهبه جل وعلا أن ينكح ما شاء الله من النساء.
فنحن -معشر المسلمين- مؤمنون أنه صلى الله عليه وسلم في أعلى الدرجات، فلا نستكثر أن يهبه ويمنحه ويعطيه الله أن يتزوج أكثر مما نتزوج نحن، أي: أكثر من أربع نساء، لكن كيف نرد على غير المسلمين؟ وهذه النقطة أكثر فيها القول المستشرقون وغيرهم في أنه عليه الصلاة والسلام تزوج كثيراً، فنقول: إنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج إلا بعد خديجة ، أي: بعد أن أتم الخمسين، فلو كان زواجه عليه الصلاة والسلام لمجرد الشهوة الجسدية لتزوج قبل الخمسين، هذا أمر.
الأمر الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج بكراً إلا عائشة ، وجميع نسائه الباقيات كن ثيبات، ولم يتزوج بكراً إلا عائشة ، وأما الباقيات فكلهن تزوجهن لمصالح ستأتي في ذكر أسمائهن ومناسبة زواجه منهن.
الأمر الثالث: أن حياته صلى الله عليه وسلم لم تكن حياة غنىً وبطراً وثراء وفخراً وخيلاء، بل كان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال شهران والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقد في بيته نار، فيقال لـعائشة : ما طعامكم يومئذ؟ قالت: الأسودان التمر والماء.
ثم إن الله جل وعلا بين هذا الأمر، والدين ليس فيه غموض، فقال لنبيه أن يقول للنساء كما في آية الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29]، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن ضيق الحياة وشغف العيش مع نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ليظفرن يوم القيامة بأن يكن أزواجه صلوات الله وسلامه عليه في الجنة.
كما أنهن رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن كان في زواجه منهن عليه الصلاة والسلام مصالح لا تعد ولا تستقصى في مصالح الدعوة.
فمنهن بنات أحب الناس وألصق الناس به كـعائشة وحفصة بنتا أبي بكر وعمر ، ومنهن بنات عدوه كـصفية بنت حيي بن أخطب ، ومنهن قريبات، ومنهن أرامل جاهد أزواجهن في سبيل الله ثم تركوا، فمنهن من ارتد زوجها وبقيت وحيدة في الغربة، فتزوجها حتى يلم عليها مسألة الغربة، فلمصالح عدة تزوج صلوات الله وسلامه عليه، ثم إنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يربي الجيل، ومن تربية الجيل تربية النساء، ولا سبيل له عليه الصلاة والسلام إلى أن يصل إلى النساء، فلما ربى أزواجه قمن رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن بتربية النساء وتعليم النساء مبادئ الدين والحكمة، فمصالح عدة لا تعد ولا تحصى في زواجه منهن صلوات الله وسلامه عليه.
أما هن ومناقبهن وشيء من سيرهن فهذا ما عرض له المؤلف إجمالاً، ونعلق عليه تفصيلاً.
قال رحمه الله: أول من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد ، تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه حتى بعثه الله عز وجل، فكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثمان سنين، وهذا أصح الأقوال، وقيل: قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع سنين.
وقد مر معنا سيرتها رضي الله عنها وأرضاها في مناسبة قبلها، وقلنا: إنها سيدة نساء العالمين، وتوقف بعض العلماء في أيهما أفضل هي أو عائشة ، والمقطوع إن شاء الله أنها أفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قاطبة، قال عليه الصلاة والسلام: (والله ما أبدلني خير منها، لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، وصدقت بي إذ كذبني الناس، وأعطاني الله منها الولد، وإني رزقت حبها)، هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ومر معنا أن الله بلغها سلامه عن طريق جبريل، ومر معنا أنها أول خلق الله من هذه الأمة إسلاماً، فلم يسلم أحد قبلها للنبي صلى الله عليه وسلم لا أبو بكر ولا عمر ولا زيد ولا بلال ولا علي ، فهي أول خلق الله إسلاماً من هذه الأمة رضي الله عنها وأرضاها، ولم يتزوج النبي عليه الصلاة والسلام في حياتها أبداً حتى ماتت رضي الله عنها وأرضاها.
ثم قال: ثم تزج سودة بنت زمعة بعد خديجة بمكة قبل الهجرة، وكانت قبله عند السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو ، وكبرت عنده وأراد طلاقها فوهبت يومها لـعائشة فأمسكها.
وسودة رضي الله عنها وأرضاها كانت سيدة، ثبطة ثقيلة البدن، وطالب العلم إذا قرأ حياة أمهات المؤمنين يربطها بالفقه، ويربطها بالعقيدة، ويربطها السيرة؛ حتى يفهم السيرة العطرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
قلنا: كانت ثبطة خفيفة الدم خفيفة الروح، وهي التي أذن لها صلى الله عليه وسلم في مزدلفة أن تغدو قبل حطمة الناس في الليل، أذن لها أن تخرج من مزدلفة في الليل قبل طلوع الشمس إلى منى، فقابلته رضي الله عنها في منى؛ لأنها كانت ثقيلة البدن بطيئة الحركة، حتى كانت إذا سعت تجعل سعيها متفرق رضي الله عنها وأرضاها، فهذا يعرف به الناس أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث بالتيسير، وقال الله جل وعلا: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فلما رأى أم المؤمنين رضي الله عنها -وهي زوجته- ثقيلة البدن بطيئة الحركة، أذن لها أن تخرج قبله إلى منى حتى توافيه بمنى من مزدلفة في منتصف الليل تقريباً، كل ذلك تقديراً لوضعها رضي الله عنها وأرضاها.
وقلنا: إنها كانت امرأة ضخمة جداً وكانت مع ذلك خفيفة الروح، روى ابن سعد بسند مرسل: أنها صلت وراءه ذات يوم فأطال الركوع، فلما فرغ من صلاته قالت: لقد وضعت يدي على أنفي خشية أن يخرج الرعاف، فضحك صلى الله عليه وسلم لخفة دمها.
وهي أول امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وفي آخر عمرها آخر أيامه عليه الصلاة والسلام وهبت يومها لـعائشة ، وتنازلت عن تلك الليلة لـعائشة ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب عائشة فمالت مع ما يهواه؛ رغبة في أن تبقى يوم القيامة زوجة له صلوات الله وسلامه عليه.
ثم قال: وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق في مكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمانِ عشرة، وتوفيت بالمدينة ودفنت بالبقيع، ثم ذكر أشياء أخرى عنها.
عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها هي أم المؤمنين كأخواتها، وقد تزوجها هنا قال: قبل الهجرة، وهذا بمعنى العقد، والأظهر عند العلماء أن النبي عقد على سودة وعقد على عائشة في وقت واحد، أي: في أيام متقاربة، فدخل على سودة قبل الهجرة، ولم يدخل على عائشة إلا بعد الهجرة.
ومن مناقبها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها، وكان أحب نسائه إليه، وهذه مسألة قلبية لا يجب فيها العدل، وكانت عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) أي: في المسألة القلبية، وكن نساء الأنصار وأصحابه إذا أردن أن يهدين النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً من الهدايا أو من العطايا يتحين الليلة التي يكون فيها صلى الله عليه وسلم عند عائشة ، ولما مرض عليه الصلاة والسلام وغلبته الحمى وأصبح يمرَّض في بيوت أزواجه كان يقول: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟)، حتى فهمن أنه يريد بيت عائشة ، فبقي صلى الله عليه وسلم يمرض في بيت عائشة ، وأسندت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدرها في اللحظات الأخيرة، وطيبت له السواك بفمها، فاجتمع ريقه مع ريقها صلوات الله وسلامه عليه قبل وفاته صلى الله عليه وسلم.
فهذا كله يبين منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ابنة أحب وأقرب الناس إليه أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهي الصديقة بنت الصديق ، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ولما مات عليه الصلاة والسلام كان سنها إذ ذاك ثمانِ عشرة سنة، وعمِّرت بعده حتى ماتت سنة ثمانِ وخمسين على الأشهر، ودفنت بالبقيع -أي: بقيع الغرقد-، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وفي غزوة بني المصطلق -غزوة المريسيع- اتهمت بحديث الإفك المشهور، فبرأها الله جل وعلا من فوق سبع سماوات، فقد رماها المنافقون بـصفوان بن معطل ، فبرأ الله صفوان وبرأ الصديقة بنت الصديق بعد شهر من انقطاع الوحي عنه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت عالمة جداً بالشرع، وهي من المكثرين رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكانت قبله عند خنيس بن حذافة ، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفي بالمدينة، وقد شهد بدراً، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها فأتاه جبريل عليه السلام، فقال له: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة ؛ فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة.
وروى عقبة بن عامر الجهني قال: (طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد توفيت سنة سبع وعشرين.
أما قول المؤلف رحمه الله، أن عمر حثا على رأسه التراب، فهذا لم أقف فيه على سند صحيح، لكن كونها طلقت وكون النبي صلى الله عليه وسلم راجعها بأمر من الله عند طريق جبريل هذا ثابت عند أبي داود وعند غيره من أصحاب السنن بسند صحيح، وهي رضي الله عنها وأرضاها كما جاء في الحديث كانت صوامة قوامة، وهي بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكما تزوج النبي بنت أبي بكر فقد تزوج بنت عمر ، والأربعة الراشدون: اثنان منهما تزوج النبي ابنتيهما، واثنان منهما زوجه، فزوج رقية وأم كلثوم لـعثمان ، وزوج فاطمة لـعلي ، فهؤلاء الأربعة الراشدون أصهار مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رأى عبد الله بن عمر رؤيا فقصها عليها، فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (نعم الرجل
ومن أزواجه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، واسمها رملة كما قال المؤلف، وهذا فيه وهم؛ لأن رملة اسم لأختها على الصحيح، وقد هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة فتنصر بالحبشة وأتم الله لها الإسلام، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة.
و أم حبيبة بنت أبي سفيان تتعلق بها أمور:
أولها: أنها خرجت مع زوجها عبيد الله بن جحش هجرة إلى الحبشة فراراً بالدين، فهذا عبيد الله بن جحش أخذ زوجته وترك مكة التي فيها أهله ومقامه، وهاجر إلى الحبشة فراراً بدينه فتنصر، أي: بالحبشة، وارتد عن الإسلام ومات على الكفر، فنسأل الله جل وعلا الثبات على دينه فلا يغتر أحد بعمل، والمرء إذا سجد وإذا أحس بالقرب من الله في دعائه فإنه يسأل الله الثبات على الدين، ولا تجزم لأحد تراه لا بجنة ولا بنار، فإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وسل الله لنفسك ولمن تحب وللمؤمنين الثبات على دينه.
فلما تنصر زوجها وارتد تركها، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة يخطبها، فخطبها النجاشي لنبينا صلى الله عليه وسلم، وأصدقها النجاشي نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، فهي أكثر نساء النبي صلى الله عليه وسلم صداقاً، فلما جاءت عنده في المدينة، ولما أخلت قريش بصلح الحديبية جاء أبو سفيان ليجدد الصلح، فدخل عليها في المدينة، فلما دخل عليها كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم مفرداً، فطوت الفراش، فقال لها أبوها وهو زعيم قريش يومئذ على الكفر، قال: يا ابنتي والله لا أدري أرغبت بي عن الفراش أو رغبت بالفراش عني! أي: هل أنا لا أستحق أن أجلس عليه أو أن هذا الفراش لا يليق بي، فقالت: هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ مشرك نجس، فما أحببت أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من موالاتها لنبيها عليه الصلاة والسلام وبراءتها من أهل الشرك ولو كان أباها.
وقد وقع عند مسلم في الصحيح من حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل عن ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه
وبعض العلماء قال: هذا وهم، والمقطوع به عند العلماء أن الحديث لا يمكن أن يصح وإن كان عند مسلم في الصحيح، وذلك لأمور عدة منها: أن أم حبيبة ثبت بإجماع الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قبل إسلام أبي سفيان .
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة ، واسمها هند بنت أمية ، وكانت قبله عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد ، وقد توفيت سنة اثنتين وستين، ودفنت بالبقيع، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفاة.
وقد كانت زوجة لـأبي سلمة ، وبعد أن استشهد رضي الله عنه ترك لها عمراً ودرة وابنتين أخريين، وهذه المرأة خطبها أبو بكر عندما مات زوجها فردته، ثم خطبها عمر فردته، ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وبعث لها رسولاً، فقالت: مرحباً إلا أنه اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني فيّ ثلاث: أنني غيراء وأنني في مصبية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما كونك غيراء فإنني أسأل الله أن يذهب غيرتك، وأما كونك مصبية -أي: عندي صبيان- فإنني أسأل الله أن يكفيك الصبيان) يعني: يعينك الله جل وعلا على هؤلاء الصبيان.
ومن صبيانها عمرو بن أبي سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي طاشت يده في الصحفة لما وضع الطعام، فقال له صلى الله عليه وسلم: (يا غلام سم الله، وكل مما يليك، قال
وأم سلمة رضي الله تعالى عنها وأرضاها ذكر المؤلف أنها آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفاة.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب ، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة فطلقها، فزوجها الله إياه من السماء.
زينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة ، وزيد بن حارثة هو مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان عند خديجة فوهبته للنبي عليه الصلاة والسلام فأعتقه، فجاء أهله من اليمن يطلبونه قبل الهجرة، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم على أبيه وأعمامه، فقال عليه الصلاة والسلام: (أشهدكم أن
وكانت العرب ترى من أعظم العار أن يتزوج الرجل ابنة ابنه الذي تبناه، فأراد الله أن يبطل هذا الأمر، وكانت زينب بنت جحش ترى في نفسها أنفة على زيد ؛ لأنه مولى، فكان زيد يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ويشتكيها، وقد أخبر الله نبيه أن زيداً سيطلق لا محالة، وأنك ستتزوج زينب بعده، هذا أخبر الله به نبيه عن طريق جبريل، فلما جاء زيد للنبي عليه الصلاة والسلام يشتكي له قال له صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك زوجك)، وأخفى في نفسه ما أخبره الله جل وعلا به، قال الله جل وعلا: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ [الأحزاب:37]، أي: بالإسلام، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ [الأحزاب:37] أي: بالعتق، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب:37] أي: ما الله مظهره، وهو زواجك من زينب ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب:37] لماذا؟ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ [الأحزاب:37] ابن حارثة ، وهو الصحابي الوحيد المذكور نصاً في القرآن، ثم بين الله العلة: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37]، فلهذه العلة أراد الله جل وعلا أن يتزوج النبي عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش ، فكانت تفتخر على أمهات المؤمنين وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات، رضي الله عنها وأرضاها.
وتزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة ، وكانت تسمى أم المساكين ؛ لكثرة إطعامها المساكين، وكانت تحت عبد الله بن جحش .
هذه رضي الله عنها وأرضاها لا يوجد الكثير عن سيرتها؛ لسبب بسيط وهو: أنها لم تمكث مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا ثمانية أشهر، والثمانية الأشهر ليست مدة طويلة يمكن أن نعرف شيئاً عنها، إلا أنها كانت رقيقة القلب تأوي المساكين فعرفت بـأم المساكين ، وهي أخت لـميمونة بنت الحارث آخر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من أمها، فيكون النبي عليه الصلاة والسلام قد تزوج أختين من الأم: زينب وميمونة ، فهاتان أختان من الأم، وكلاهما من بني هلال.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث ، وهي من سبي بني المصطلق، وكانت امرأة حلوة ملاحة، تقول عائشة : لا يراها أحد إلا أخذت بقلبه، ويعجب بها، تقول عائشة : فلما رأيتها: أبغضتها، وهذه عادة بين النساء، وعائشة رضي الله عنها صحيحة نفسياً ما في شيء تخفيه، بل تقول كل شيء بوضوح، وتقول: إنها كانت امرأة صوامة قوامة برة، لكن مع ذلك تقول: أول ما رأيتها أبغضتها؛ لما كان عليها من الملاحة، فلا يراها أحد إلا أعجبته، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن يعينها في مكاتبة وقعت في الأسر، والمكاتبة أن تدفع مالاً لمن أسرها فتصبح طليقة، فعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينها ويؤدي كتابها عنها ثم يتزوجها، فوافقت ورضيت، وهذا من إكرام الله لها، ولما وافقت قال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركوا ما في أيديهم من السبي، تقول عائشة : فما رأيت امرأة أعظم بركة على قومها منها رضي الله عنها وأرضاها.
وأما أبوها الحارث فإنه أسلم وجعله النبي عليه الصلاة والسلام على صدقات قومه.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب من ولد هارون بن عمران أخي موسى.
هذه قد مرت معنا، وأبوها زعيم اليهود حيي بن أخطب ، وقدر الله لها أن يخرجها من تلك الملة ويدخلها في ملة الإسلام، وأن يجعلها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن القيم وغيره: إنها كانت من أجمل نساء العالمين، ولعل الله يفتح لكم القدس فتأخذون السبي، وتحيون السنة وتتزوجون من اليهود بعد أن تعتقوهن كما فعل نبيكم صلى الله عليه وسلم.
هذه المرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت من ولد هارون، فعيرتها إحدى أمهات المؤمنين ذات مرة قائلة: يا يهودية! فقال صلى الله عليه وسلم: (ولماذا تعيرك؟ والله إنك لابنة نبي -يقصد هارون-، وعمك نبي يقصد موسى، وإنك لتحت نبي يقصد نفسه صلى الله عليه وسلم)، وأغضبتها إحدى أمهات المؤمنين، فهجرها النبي عليه الصلاة والسلام ثلاث ليال لا يكلمها؛ إكراماً لـصفية رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث الهلالية وهي آخر من تزوج صلوات الله وسلامه عليه من أمهات المؤمنين.
وميمونة هذه قلنا: إنها أخت لـزينب بنت خزيمة ، وتزوجها بعد عمرة القضاء، وهي آخر أمهات المؤمنين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تزوجها في سرف، وأنت خارج من مكة إلى المدينة تأتيك النوارية، وبعد النوارية بقليل قبل المركز يأتي وادٍ اسمه سرف، وعلى اليمين وعلى اليسار الآن فيه محطات وبقالات، يعني: معمور.
في هذا الوادي تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث بعد أن حل من عمرة القضاء، ومن أعاجيب قدر الله أنها -أي: ميمونة - ماتت في نفس المكان وفي نفس هذا الوادي، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاة على ما أذكر.
هؤلاء -على وجه الإجمال- أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن، وقلنا: إنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع، وكان يقسم لثمان، وأن أقرب نسائه إليه عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكن أمهات المؤمنين يبعثن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتي فاطمة لأبيها وتقول: إن نساءك يسألنك العدل في ابنة ابن أبي قحافة وهو أبو بكر ، فأريد أن أستشهد بهذه القضية على شيء خلاف ما يظن الناس، فالناس هنا من المحدثين وأهل السير يقولون: هذا فيه دلالة على فضل عائشة رضي الله تعالى عنها، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى شرح، لكن الذي يحتاج إلى التنبيه هو ما يسمى اليوم بحقوق الإنسان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أمهات المؤمنين يجهرن بمطالبهن علانية ويذكرن حقوقهن ولا يغضب صلوات الله وسلامه عليه، ويبعثن ابنته لتقول له عليه الصلاة والسلام: إن نساءك يسألنك العدل في بنت ابن أبي قحافة ، وأعظم تكريم للإنسان وآدميته أن يعطى حقه في أن يقول مطالبه، فإذا وجد معلم يمنع الطلاب من كل سؤال، أو جد أمير أو قاضي أو والي أو حاكم يمنع الناس من حقوقهم، أو وجد أب يمنع الأبناء من حقوقهم، أو وجد زوج يمنع الزوجات من حقوقهن فهذا لم يعرف سماحة الإسلام حقيقة، فينبغي أن يعطى الناس حقهم في إظهار رغباتهم، لكن ينبغي على الناس وهم يظهرون رغباتهم أو مطالبهم أن يظهروها بالسبل الشرعية الواضحة البينة التي لا تخرج عن نطاق الأدب مع من هو أكبر منا، أو من جعل الله جل وعلا له ولاية علينا إن كان أباً أو كان زوجاً أو إن كان حاكماً أو إن كان غير ذلك.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله خدمه ومواليه صلوات الله وسلامه عليه، ثم ذكر أفراسه التي كان يمتطيها، وسلاحه صلوات الله وسلامه عليه، وسنعرض لهذه الأربع القضايا إن شاء الله في هذا اللقاء، فأقول مستعيناً بالله تبارك وتعالى: أما ما يتعلق بخدمه صلى الله عليه وسلم فإنه صلوات الله وسلامه عليه خدمه بعض أصحابه، وكان عليه الصلاة والسلام يزاوج بالمهام التي يعطيها لأولئك الخدم، بمعنى: أن الناس يتفاوتون في القدرات والمواهب والسن، فلم يكن كل أولئك الخدم يكلفون بشيء واحد، ومن أشهر من خدمه صلوات الله وسلامه عليه أنس بن مالك ، وعقبة بن عامر ، وعبد الله بن مسعود ، وربيعة بن كعب الأسلمي وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
أما أنس فكانت مهمته في الأشياء اليسيرة: في قضاء الحوائج، والقرب منه صلى الله عليه وسلم يبعثه هنا وهناك، وقد أتت به أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وقد أعطته إياه ليخدمه، فقبله عليه الصلاة والسلام، فمكث يخدم النبي عليه الصلاة والسلام عشر سنين، وكان عليه الصلاة والسلام قد دعا لـأنس بأن يكثر الله في ماله وولده، وأن يبارك فيه، فعمر أنس حتى أدرك مائة شخص من صلبه رضي الله عنه وأرضاه، وأدرك خلافة عبد الملك بن مروان ، فكان الحجاج بن يوسف القائد الأموي المعروف يتعرض له بالأذى أحياناً، فكتب أنس رضي الله عنه إلى عبد الملك بن مروان : إن اليهود لو وجدت رجلاً خدم موسى ساعة من نهار لعظمته وبجلته، وأنا خدمت نبيكم صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فبعث عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف يأمره أن يكف أذاه عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، وقد حدث أنس بأحاديث كثيرة، وهو أحد المكثرين من الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك رضي الله عنه أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فلم يقل له عليه الصلاة والسلام لشيء فعله لم فعلته، ولا لشيء تركه لم لم تفعله، وهذا من رفق الإنسان بمن تحت يده خاصة إذا كان صغيراً لا يعقل، والنبي عليه الصلاة والسلام ذاق مرارة فقد الوالدين، ومرارة فقد الأبناء، فطبعه الله جل وعلا على الرقة والرحمة لكل من حوله صلوات الله وسلامه عليه، وما كان أنس يرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الشفقة والرحمة، ولم ينقل أبداً أنه ضرب قط عليه الصلاة والسلام.
وأما عقبة بن عامر فكان موكولاً إليه أن يأخذ بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره، وهو الذي كان مع النبي في الأبواء ما بين مكة والمدينة، فهاجت ريح شديدة فقال صلى الله عليه وسلم له -أي: لـعقبة -: (يا
وممن خدمه ربيعة بن كعب الأسلمي ، وكان يسكب الوضوء لرسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد رأى ربيعة من خلق رسول الله وسماحته وحب جواره ما جعله يطمع ويرغب في أن يكون جاراً له في الآخرة، فبينما هو يسكب الوضوء له أراد عليه الصلاة والسلام أن يكافئه؛ لأن ربيعة يفعل هذا تطوعاً، فهو ليس من الموالي كما سيأتي، فقال له، النبي: (سلني حاجتك، قال: يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك يا
وممن خدمه عليه الصلاة والسلام عبد الله بن مسعود الصحابي الشهير، وكان يحمل له وضوءه ونعليه وسواكه، فيضع نعلي النبي صلى الله عليه وسلم تحت ذراعيه، فـعبد الله بن مسعود صحابي شهير أخذ القرآن من في رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وأثنى عليه النبي بقوله: (إنك غلام معلم)، وهو القائل عن نفسه: (والله ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ومتى نزلت)، إلى غير ذلك مما يدل على فقهه في القرآن رضي الله عنه وأرضاه.
فهؤلاء بعض ممن خدم نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد قلنا: إنهم كانوا يخدمونه تطوعاً صلوات الله وسلامه عليه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر