قال المصنف رحمه الله: [ فصل: في حجه وعمرته.
روى همام بن يحيى عن قتادة قال: قلت لـأنس : كم حج النبي صلى الله عليه وسلم من حجة؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر: عمرة النبي صلى الله عليه وسلم حيث صده المشركون عن البيت، والعمرة الثانية حيث صالحوه من العام القابل، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنيمة حنين في ذي القعدة، وعمرته مع حجته. صحيح متفق عليه ].
هذا بعد قدومه المدينة، وأما بمكة فلم يحفظ عنه حج ولا عمرة، وحجة الوداع ودع الناس فيها، وقال: (عسى ألا تروني بعد عامي هذا).
إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحج إلا حجة واحدة، واعتمر أربع عمرات: عمرة لم يكتب لها التمام، وعمرة مقرونة بالحج، وعمرتان منفصلتان.
وتفصيل ذلك أن العمرة الأولى كانت في العام السادس، حيث خرج صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة محرماً حتى وصل مكة فردته قريش، وحصل بينهم المفاوضات، وفي هذه المفاوضات بعثت قريش سهيل بن عمرو ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سهل أمركم)، وهذا من باب التفاؤل بالأسماء، فاصطلح صلى الله عليه وسلم مع القرشيين على أن يعود في العام القادم بعد العام السادس، فيعود ليعتمر وليس معهم إلا السيوف في أغمادها، فوافق صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس أن يحلوا إحرامهم وينحروا هديهم، فلم يقبلوا ولم يرفضوا، ولكن لن يبادر أحد إلى فعل شيء، فدخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة حزيناً، فأخبرها الخبر، فقالت له: يا رسول الله! انحر هديك واحلق رأسك. فإنهم سيصنعون كذلك ففعل صلى الله عليه وسلم ولم يجد الصحابة بداً من ذلك؛ لأنه عز عليهم أن يأتوا محرمين ثم يردوا من البيت وهم على مقربة منه عند الحديبية، ولكن: المسلم يسلم لقدر الله، ولا يدري أين مواطن الخير، والنبي عليه الصلاة والسلام في عمرته هذه كان على القصواء، فلما وصلت قريباً من البيت بركت من غير سبب، ففهم صلى الله عليه وسلم الأمر، فقال الناس: خلأت القصواء، فقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما خلأت، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)؛ لأن البيت معظم، (والله لا تسألني قريش أمراً يعظمون فيه حرمات الله إلا أعطيتهم إياه)، فقبل صلى الله عليه وسلم ورجع من عامه، وفي الطريق أنزل الله جل وعلا عليه سورة الفتح.
ثم في العام الذي بعده في السنة السابعة خرج صلى الله عليه وسلم محرماً من المدينة، فالعمرة الأولى لم تتم، وكان أحرم بالأولى في ذي القعدة، والثانية كذلك في ذي القعدة، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة فدخلها، فلما دخلها خرج القرشيون إلى أحد جبال مكة وهم يقولون: سيأتيكم محمد وأصحابه وقد أوهنتهم حمى يثرب، وكان الجبل الذي علاه القرشيون شمال البيت، ومعلوم أن الركنين اليمانيين سميتا يمانيين لأنهما جهة اليمن، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالاضطباع -وهو إخراج الكتف الأيمن- وأمرهم أن يرملوا -أي: يسرعوا المشي المتقارب- في الأشواط الثلاثة الأولى حتى يرد على القرشيين قولهم: إن الصحابة أهلكتهم حمى يثرب.
فعند الطواف بين الركن اليماني والحجر كانوا في منأى عن أبصار قريش، فلا داعي إذاً للرمل، فكان يمشون المشي العادي، فإذا جاوزوا الحجر بدءوا يسرعون حين تراهم قريش.
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وفي العام الذي بعد فتح مكة، وبعد فتح مكة توجه إلى حنين والطائف، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن انتهى من هوازن في حنين حاصر الطائف واشتد الحصار دون أن يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يدخلها، فشاور أحد الناس -وأظن أن اسمه نوفل - فقال له: يا رسول الله! إنهم كثعلب في جحر، إن تركته لن يؤذيك، وإن أقمت عليه أمسكت، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم النصيحة وتركهم ورجع إلى مكة، وفي الجعرانة قبل أن يقسم الغنائم أو بعدها جعلها منزلاً له، فأحرم صلى الله عليه وسلم بالليل ودخل مكة ليلاً فاعتمر، ثم رجع من ليلته إلى الجعرانة، وعلى هذا قال بعض المالكية: إن الجعرانة أفضل حل على وجه الأرض، والذي جعلهم يقولون هذا هو النبي عليه الصلاة والسلام في كل حجته وعمراته أحرم من حرم، والمدينة حرم كما هو معلوم، فأحرم صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة وهي حرم، ولم يحرم صلى الله عليه وسلم أبداً من حل إلا من الجعرانة، فلذا قال بعضهم: إنها أفضل حل على وجه الأرض، وقال بعضهم: هذا شيء قدري لا علاقة له بالأحكام الفقهية، والله أعلم.
والعمرة الرابعة كانت في حجة الوداع، حيث قرن صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة، فساق الهدي معه وأحرم في شهر ذي القعدة، ولكنه دخل مكة في شهر ذي الحجة.
وحجة الوداع هي الحجة الوحيدة التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام، ولم ينقل عنه أنه حج قبل الهجرة أو لم يحج، أو قبل البعثة، فهذا كله غير منقول وغير محفوظ ولم ينقل فيه شيء.
وفي حجة الوداع أحرم من ذي الحليفة، وساق الهدي معه صلوات الله وسلامه عليه، وفي الطريق أناخ المطايا وجلس صلى الله عليه وسلم، وكان مع أبي بكر زوجته أسماء ، ثم إن أبا بكر أسند الراحلة إلى غلام له، فتأخر الغلام، فجاء أبو بكر يسأل الغلام: أين الراحلة؟ فقال: أضعتها، فأخذ أبو بكر يضربه ويقول: بعير واحد وتضيعه! فأخذ يضربه، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم وينظر إليه ويقول: (انظروا إلى المحرم، يضرب غلامه وهو محرم)، ولذا قال أبو داود في ذلك: (باب تأديب المحرم غلام).
ثم سار حتى وصل صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فبدأ بالبيت، فبدأ بالحجر فاستلمه وقبله، وفي رواية لـابن عباس أنه سجد عليه، ثم جعل الكعبة عن يساره وطاف سبعاً، وهنا رمل صلى الله عليه وسلم، ولم تكن هناك حاجة للرمل؛ لأن مكة فتحت، فرمل صلى الله عليه وسلم الثلاثة الأشواط بين الركنين، فأصبحت سنة الرمل قائمة في الثلاثة الأشواط؛ حتى بين الركنين الذين كان قد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الرمل بينهما في عمرة القضاء كما بينا، ففي حجة الوداع رمل صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، ثم مشى أربعاً لتبقى تلك سنة، ثم أتى مقام إبراهيم وتلا الآية: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وصلى ركعتين قرأ فيهما في الأولى بالكافرون وفي الثانية بالإخلاص. ثم رجع إلى الحجر واستلمه، ثم توجه إلى الصفا، فلما أقبل على الصفا تلا الآية الكريمة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، وقال: (أبدأ بما بدأ الله به)، ولم يقلها عليه الصلاة والسلام كما يفعل الناس اليوم، حيث يقولها الواحد منهم كلما يرقى الصفا أو يرقى المروة.
ثم نزل عليه الصلاة والسلام حتى جاء إلى ما بين العلمين الأخضرين اليوم وكان آنذاك حصباء من الأرض، فأخذ يسرع في مشيه ويقول: (لا يقطع الأبطح إلا شداً)، أي: بقوة، قال الراوي: فأرى ركبتيه تدوران في إزاره صلوات الله وسلامه عليه.
ثم رقى المروة، وفعل عليها كما فعل على الصفا، فاستقبل البيت ووحد الله وكبره ودعا وهلل ورفع يديه ثلاثاً، ثم أتم سعيه، ولم يحلق رأسه؛ لأنه قد ساق الهدي.
وفي اليوم الثامن توجه إلى منى، ومكث فيها وصلى فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي الفجر ذهب إلى عرفة، ولما توجه إلى عرفة ضربت له القبة بنمرة -قرية شرقي عرفات- فأناخ فيها، ونام فيها وارتاح قليلاً حتى زالت الشمس، ولما زالت الشمس ركب القصواء وتقدم حتى أتى بطن عرنة، وهو ليس من عرفة، وليس بحرم، وإن كان بين المشعر وبين مكة، فوقف فيه وخطب الناس خطبته العظيمة وقال فيها: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، فعرفت بحجة الوداع، ثم تقدم حتى أتى الموقف وجعل بطن ناقته إلى يمين الصخرات، ووقف يدعو رافعاً يديه حتى غابت الشمس.
ثم أردف أسامة بن زيد خلفه حين ذهب إلى مزدلفة، وفي الطريق توقف ونزل في أحد الشعاب وبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فلما ركب الناقة - قال له أسامة : الصلاة يا رسول الله. فقال: (الصلاة -وفي رواية: المصلى- أمامك)، أي: في مزدلفة.
فأتى مزدلفة فصلى المغرب والعشاء جمع تأخير؛ لأنه دخلها في وقت صلاة العشاء، ثم اضطجع حتى أذن الفجر، فصلى الفجر في أول وقته، ثم بعد ذلك أتى المشعر الحرام الذي بني عليه المسجد اليوم، فوقف عنده وذكر الله، ثم قبل أن تشرق الشمس أنزل أسامة وأردف الفضل بن عباس ، وكان شاباً حسن الشعر وسيماً، وهو في الطريق إلى منى رأى ضعناً -أي: نساء ركب- يجرين، فأخذ الفضل ينظر إليهن، فأمال شقه صلى الله عليه وسلم إلى الشق الثاني، فكأنه رأى النساء الأخريات، فأمال النبي صلى الله عليه وسلم وجهه مرة أخرى.
ثم أتى صلى الله عليه وسلم منى فأتى الجمرة ولم يبدأ بشيء قبلها، فرماها وهو على ناقته بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم أتى الحلاق وكان اسمه معمر بن عبد الله ، فقال له: (قد أمكنك الله من شحمة أذن نبيه ومعك الموسى)، فحلق رأسه صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك ذهب إلى المنحر ونحر هديه صلى الله عليه وسلم، فنحر ثلاثاً وستين بيده، فكان عمره صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين، فنحر ثلاثاً وستين والإبل معقولة أيديها اليسرى، فتسابقت تقدم رقابها إليه صلوات الله وسلامه عليه، وبعد أن أتم نحرها أمر علياً بأن يكمل عنه، فأكمل عنه علي ما تبقى، وكانت مائة ناقة قدمها صلى الله عليه وسلم لنحرها.
ثم جاءته امرأة من خثعم، وهي قبيلة إلى الآن موجودة لهم مواطن وأماكن في الطريق بين الطائف إلى أبها، وكانت هذه المرأة جميلة جداً، فجاءت تسأله أن أباها رجل كبير فرض عليه الحج وهو لا يستطيع، فقالت: أأحج عنه، فقال: نعم. فأخذ الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، كما في حديث ابن عباس ، فأمال النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل ولم ينزله من راحلته.
ومن أراد أن يسوس الناس فلابد له من أن ينظر إلى الأشياء بعينين: عين شرع وعين قدر، كما ساسهم صلى الله عليه وسلم، والخير كل الخير في اتباعه.
فـالفضل شاب أعزب وسيم، فكونه ينظر إلى النساء أمر محرم، ولكن ذلك أقرب إلى طبيعة هذا الشباب، فهذا هو القدر، والحرمة هي الشرع، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ لقد أنكر عليه وأمال وجهه، فنظر للأمر بعين الشرع، أما عين القدر فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا شاب أعزب والفتاة جميلة، فلم ينزله من الناقة ولم يعنفه ولم يسبه ولم يشتمه مراعاة لوضعه وحالته وعمره رضي الله عنه وأرضاه.
فإذا أراد الإنسان أن يسوس الناس فلينظر في كل أمر، ولذلك جاء في الإسلام التفريق بين كبر الغني وكبر الفقير؛ لأن الغني عندما يتكبر يكون لكبره وإن كان حراماً؛ لأنه ذو مال، وأما الفقير فعلى أي وجه يتكبر؟!
وكذلك الزنا حرمة الله على الجميع، ولكن الزنا من الكبير في السن ليس كالزنا من الشاب، قال صلى الله عليه وسلم: (أشيمط زان وعائل مستكبر وملك كذاب)، فالملك يكره منه الكذب لأنه يحتاج إلى أن يكذب، فليس هناك أحد يخاف منه من أجل أن يكذب، ولكن عندما يكذب الخائف يكون لكذبه وجه وإن كان حراماً.
فمن أراد أن يسوس الناس فليسسهم بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، فينظر بعين الشرع وعين القدر.
ثم دخل على عائشة فطيبته بعد أن أحل من إحرامه، وتوجه إلى مكة وطاف طواف الإفاضة، والصواب أنه طاف طواف الإفاضة وهو راكب على بعير، ولم يسع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً، فرجع إلى مكة فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، واليوم الحادي عشر يسمى في عرف الفقهاء: يوم القر؛ لأنه ليس فيه تعجل ولا ذهاب ولا إياب، وليس فيه إلا الرمل، فمكث صلى الله عليه وسلم فيه، ثم في اليوم الثاني عشر أذن لمن أراد أن يتعجل، أما هو صلى الله عليه وسلم فبقي إلى اليوم الثالث عشر، وقال في اليوم الثاني عشر: (إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة)، والخيف في اللغة: ما قرب من الأرض، فلم يصل إلى الوادي، ولذلك يسمى المسجد الرسمي الذي في منى يسمى مسجد الخيف؛ لأنه ليس في الوادي ولا في أعلى الجبل، وإنما هو في منحدر الجبل.
فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة)، وخيف بني كنانة هو المكان الذي اجتمعت فيه قريش على أن تحصر بني هاشم في الشعب، فلما نزل صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث عشر رمى الجمرات الثلاث ولم يصل الظهر والعصر في منى، وأتى خيف بني كنانة -وهو ما يسمى المعابدة اليوم- فنزل فيه صلى الله عليه وسلم وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء يقصر الرباعية.
وقبل السحر بقليل نزل إلى مكة، فطاف بالبيت طواف الوداع، ثم صلى بالناس صلاة الفجر، ثم قفل صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة تشرف به المهاد والنجاد يكبر على كل شرف من الأرض حتى رأى معالمها فقال: (آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون)، ودخلها صلى الله عليه وسلم بعد أن نام في أبيار علي في مسجد يسمى مسجد المعرس، بجوار مسجد الميقات اليوم، ثم لما أصبح دخل صلى الله عليه وسلم المدينة نهاراً، وكان لا يدخلها ليلاً صلوات الله وسلامه عليه.
قال المؤلف رحمه الله: [ غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه خمساً وعشرين غزوة، هذا هو المشهور، قاله محمد بن إسحاق ، وأبو معشر ، وموسى بن عقبة وغيرهم، وقيل: غزا سبعاً وعشرين، والبعوث والسرايا خمسون أو نحوها.
ولم يقاتل إلا في تسع: بدر، وأحد، والخندق، وبني قريظة، والمصطلق، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف.
وقد قيل: إنه قاتل بوادي القرى، وفي الغابة، وبني النضير ].
هذا ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى حول غزواته صلى الله عليه وسلم، والحديث عن الغزوات حديث طويل، كما أنه في نفس الوقت مشهور لا يكاد يجهله أحد، وعلى الأقل يلم به الجميع إلماماً عاماً، ولذلك سنتحدث إجمالاً عن غزواته صلى الله عليه وسلم، ثم سنذكر تعليقاً علمياً ومعرفياً وعقدياً عليها.
فنقول والله المستعان وعليه البلاغ: إن الله جل وعلا أذن بالجهاد بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، والجهاد في دين الله جل وعلا بمنزلة عالية، قال صلى الله عليه وسلم: (وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، ولما أراد أن يبين صلى الله عليه وسلم لأصحابه فضيلة العشر الأول من ذي الحجة قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر)، فقال الصحابة لما استقر في قلوبهم فضل الجهاد: ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)، والله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:196-170]، فهذه الأمور من باب التمهيد للدرس، وإلا فلا يكاد مؤمن يجهل فضل الجهاد بضوابطه الشرعية في سبيل الرب تبارك وتعالى، وهذا التقديم نقوله بين يدي ذكر غزواته صلى الله عليه وسلم.
ومن الناحية العلمية يرد عليك وأنت طالب علم الغزوة والسرية والبعث، فالسرية والبعث يجعلها غالب المؤرخين بمعنى واحد، فتكون الغزوة هي التي يقودها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ويشارك فيها، فإذا كانت المعركة بهذا المناط سميت غزوة.
أما السرية أو البعث فهي التي يبعثها النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون فيها عليه الصلاة والسلام، مثل سرية مؤتة؛ فإنها كانت بقيادة زيد بن حارثة ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم عليها، والسرية سميت سرية لأنها جرت العادة بأنها تبعث في الليل، يقال: فلان سرى أي: مضى في الليل.
وأما البعث فقد قلنا: إن أكثر المؤرخين على أنه بمنزلة السرية، ولكن بعضاً منهم يقول: إن البعث هو المجموعة من الجند التي يبعثها صاحب السرية، فيصبح البعث منفكاً نسبياً عن السرية عند بعض العلماء، وجمهورهم على أن السرية والبعث بمعنى واحد.
وأول الغزوات بدر، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: بدر الصغرى، وبدر الكبرى، وبدر الموعد.
فبدر الصغرى سببها أن رجلاً يقال له: قلس أغار على سرح المدينة، فتبعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر وهذا كله قبل معركة بدر، وتسمى هذه معركة بدر الصغرى، وأما التي نزل فيها القرآن فهي المعركة الشهيرة في رمضان عند المسلمين، وكانت في السابع عشر من رمضان، وأصلها -كما هو معلوم- أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عيراً لقريش عائدة من الشام، فقال لأصحابه: (لعل الله ينحلكموها)يعني: يمنحكم إياها، فهبوا لها فلم يدركوها، فقال الله جل وعلا: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:7]، وإحدى الطائفتين هنا ليست إحدى الحسنيين، فإحدى الحسنيين هي النصر أو الشهادة، وأما إحدى الطائفتين فالعير أو النصر، قال الله جل وعلا: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:7]، فقال صلى الله عليه وسلم بعد أن استشار أصحابه قال: (امضوا؛ فإن الله وعدني إحدى الطائفتين)، أي: وعدني إما أن تدركوا العير، وإما أن تقابلوا قريشاً فتنتصروا.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بدراً كما هو معروف، وكانت الغلبة للمسلمين، واستشهد منهم أربعة عشر صحابياً جليلاً شهيداً، ووقف النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى على أهل بدر.
فهذه بدر الكبرى التي قال الله فيها: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123].
وبعد بدر جمعت قريش أمرها، فكان في السنة الثالثة غزوة أحد بقيادة أبي سفيان ، وأحد هو الجبل المعروف في شمال المدينة، وسمي أحداً لانفراده عن بقية الجبال، وهو جبل قال فيه صلى الله عليه وسلم: (هذا أحد جبل يحبنا ونحبه)، وارتقى عليه عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فاهتز فرحاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان).
والذي يعنينا أن في ساحته كانت معركة أحد، وكانت الغلبة -كما هو معلوم- أول الأمر للمسلمين، ثم إن الرماة عصوا النبي صلى الله عليه وسلم وتركوا أماكنهم فانقلب الوضع وتغير الحال وجال خالد بمن معه من القرشيين فأصبح الأمر لهم، واستشهد من المسلمين آنذاك سبعون رضي الله عنهم وأراضهم.
ثم كانت غزوة بني النضير، وهم قوم من اليهود كانوا يسكنون المدينة، كان منهم بعض التآمر، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب إليهم في دية رجلين، فلم يساعدوه، وتآمروا على قتله، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة.
ثم بعد ذلك كانت غزوة الأحزاب، ومن اسمها يظهر أن قريشاً وغطفان ومن حالفهم حاصروا المدينة في القصة المعروفة، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام مشورة سلمان الفارسي وحفر الخندق، فاختصم الناس في سلمان ، وقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا، فقال صلى الله عليه وسلم: (
ثم بعد ذلك لما رجع المشركون من غزوة الخندق فردهم الله، انكسر المشركون معنوياً، فقال صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، فوقع الأمر كما قال صلوات الله وسلامه عليه.
وبعد ذلك كان مسير النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة في العام السادس، فاصطلح مع القرشيين في الصلح الذي تم تاريخياً وعرف في كتب السيرة بصلح الحديبية، واتفق الطرفان على ألا يكون قتال عشر سنين.
وبعد هذا الصلح رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فغزا خيبر في نفس العام، وأظهر علي رضي الله عنه بلاء معروفاً، وكان في السبي صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها، ثم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في منصرفه من خيبر.
فهذا كله في أحداث السنة السادسة.
وفي السنة الثامنة كان فتح مكة، حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استنصر به عمرو بن سالم الخزاعي ، قيل: إنه كان من شروط الصلح -صلح الحديبية- أن من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل، فدخلت بكر في حلف قريش، ودخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن قريشاً أعانت بكراً على خزاعة، فجاء عمرو بن سالم الخزاعي يستنصر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (نصرت يا
ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى حنين فقاتل هوازن وثقيفاً، وحاصر الطائف، ولكنه لم يستطع أن يدخلها، ثم رجع، فقيل له: يا رسول الله! ادع على ثقيف، فقال: (اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم)، فتحققت عليه الصلاة والسلام ودعوته وهدى الله ثقيف.
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وفي رجب من العام التاسع كانت آخر الغزوات، وهي غزة تبوك، فخرج صلى الله عليه وسلم بجيش العسرة إلى تبوك -وهي منطقة تبعد عن المدينة اليوم سبعمائة كيلو تقريباً- في الحر والقيض، وقد تآمر المنافقون وخذله أكثرهم، فخرج عليه الصلاة والسلام ولم يلق حرباً، فأناخ في تبوك قرابة عشرين يوماً، ثم رجع صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا على وجه الإجمال، وهناك غزوات لنبينا صلى الله عليه وسلم تركنا ذكرها، كذات الرقاع وبني المصطلق وغيرهما.
والذي يعنينا من هذا كله الدروس والعبر والعظات التي يجدها شارح السيرة في هذه الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم.
فأول ذلك: أن يعلم المرء أن الله ما أمر بشيء أعظم من توحيده، وما نهى عن شيء أعظم من الإشراك به، فما بعث الرسل ولا أنزلت الكتب إلا ليعبد الله وحده دون سواه، ففي بدر قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (امضوا؛ فإن الله وعدني إحدى الطائفتين)، وقلنا: إن إحدى الطائفتين العير أو النصر، فلما فر أبو سفيان بالعير ونجا ذهبت الأولى، وبقيت الثانية وهي النصر، فهو عليه الصلاة والسلام أتى بدراً وهو يعلم أنه منصور لا محالة؛ لأن الله وعده، وأخبر الناس بذلك، ومع ذلك وقف صلى الله عليه وسلم ليلة بدر في العريش رافعاً يديه يدعو ويتضرع إلى الله ويسأله جل وعلا ويحمد الله بحامد عظيمة حتى قرب الصبح، وهو يعلم أنه منصور، ولكنه فعل ذلك ليحقق التوحيد على أكمل وجه، والتوحيد لا يتحقق في مظهر أكبر من دعاء الله تبارك وتعالى، فوقف صلى الله عليه وسلم يدعو ويلح على ربه حتى أشفق عليه أبو بكر ، فجاءه من الخلف والتزمه وقد سقط رداءه صلى الله عليه وسلم عن كتفيه، وهو واقف يتضرع إلى ربه ويدعوه في أمر قد أخبره الله جل وعلا بأنه كائن، فما وقف صلى الله عليه وسلم يدعو إلا ليبين التوحيد للناس، وليعلم كل أحد أنه لا يمكن لمخلوق أن يستغني عن الله تبارك وتعالى طرفة عين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، والعبد لو ترك لحوله وفصاحته أو ماله أو بلاغته أو أولاده أو عشيرته أو ملكه أو سلطانه لهلك، فلا ينجي من كل مكروه إلا الله، ولا يهب النعم ويعطيها ويمنحها إلا الله، فمن استعان بالله جل وعلا وفق، وقد تجد الرجل من الفصاحة والبلاغة والدعوة بمكان، وتجد من يدعوه لا يتأثر؛ لأن الله لم يكتب لذلك المتلقي التأثر، قال الله جل وعلا حكاية عن نوح بعد أن أخلص لقومه ودعاهم وبين لهم معالم الهدى: وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]، فمهما بذلت معكم من جهد فلا ينفع إن كان الله جل وعلا لم يرد لكم الهداية.
فاسأل الله تبارك وتعالى من فضله، وأر الله جل وعلا من التضرع والمسكنة ما يحب يعطك الله جل وعلا ما تحب من خيري الدنيا والآخرة.
وبدر هي أول معركة في الإسلام، وهذه المعركة بعدها كان الصحابة على ثلاثة أقسام: قسم حمى النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم تتبع فلول قريش، وقسم جمع الغنائم.
ولم يكن يوم ذاك غنائم من قبل ليمضي بهذه الغنائم على السنة الأولى، فاختصموا في الغنائم، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه، فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1]، ولم يأت جواب، فقال الله تأديباً لهم: قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، أي: احرصوا على جمع الكلمة، وليس الصحيح أن تختصموا من أجل غنائم، فالمهم أن تتآلف قلوبكم، وأن يتوحد رأيكم، وأن تجتمع كلمتكم، ثم بعد أربعين آية في نفس السورة قال الله جل وعلا: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [الأنفال:41] إلى آخر الآية فبين جل وعلا كيفية تقسيم الغنائم.
ثم اختلفوا في الأسرى، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الصديق والفاروق ، فـالصديق أشار عليه بقبول الفدية، والفاروق أشار عليه بالقتل، فشبه صلى الله عليه وسلم الصديق بإبراهيم عندما قال عليه الصلاة والسلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:36] أي: الأصنام: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي [إبراهيم:36] فلم يدع عليهم، بل قال: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36].
وشبه الفاروق بنوح حين قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27]، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي الصديق وقبل فداء الأسرى، فنزل القرآن يعاتبه.
وأما غزوة أحد فإن الرماة رضي الله عنهم خالف منهم طائفة أمر قائدهم، ونزلوا إلى أرض المعركة يجمعون الغنائم، وكانت فرصة لـخالد ، ولا يهلك الناس مثل المعاصي، ولا ينجي مثل الطاعة، وهذا أكبر دليل على ذلك كله.
فلما عصى الرماة النبي صلى الله عليه وسلم معصية واحدة كانت سبباً في هزيمة جيش بأكمله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، فمقاليد التوفيق مقرونة بالطاعات، ومقاليد الخيبة والخسران مقرونة بالمعاصي، والله يقول: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152].
فهذا الأسلوب القرآني جاء رقيقاً لأنهم انهزموا، فما جمع الله لهم الهزيمة أمام أهل الكفر وتأديب القرآن القاسي، بل جاء تأديب القرآن ليناً لأنهم انهزموا، قال الله: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152].
وأما في بدر التي أرجأت الكلام فإنهم لما اختلفوا في الأسرى ولم يأخذوا بالأمر الأصوب -وهو قتل الأسارى- قال الله تبارك وتعالى عنهم: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67].. إلى أن قال الله جل وعلا في الآية التي بعدها: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، فالعتاب في بدر كان أقسى من العتاب في أحد؛ لأنهم كانوا في بدر منتصرين يتقبلون العتاب القاسي، أما في أحد فكانوا منكسرين، فما أراد الله جل وعلا أن يجمع عليهم عتاباً قاسياً مع هزيمة وفي غزوة أحد أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، زعم ذلك عمرو بن قمئة أخزاه الله، فلما أشيع ذلك أصاب المسلمون نوع من الإحباط، فقال الله جل وعلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فما ربط الله جل وعلا عبادته قط بحياته صلى الله عليه وسلم فأوامر الله تنفذ، سواء مات النبي أو بقي، وجد الإمام أو لم يوجد، وجد القائد المسلم أو لم يوجد، فأوامر الله وعبادته وطاعته وشكره والإذعان له تبارك وتعالى دأب المؤمن في كل زمان ومكان، وهذا الدين الذي هو من عند الله أجل وأعظم من أن يعلق بحياة أحد، ولو أريد لهذا الدين أن يعلق بحياة أحد لعلق بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله يقول للصحابة الذين هم خير جيل وأمثل رعيل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، أي: أن الرسل من قبله ماتوا ولم يتغير شيء، فهو صلى الله عليه وسلم له عند الله ربه المنزلة العالية والمقام الرفيع ولكن أوامر الله ليس تنزيلها معلقاً بحياة أحد كائناً من كان.
ثم إن هؤلاء الرسل تركوا مبادئ وتركوا قيماً، ومن أعظم أخطائنا في الصحوة أن نعلق الناس بالدعاة أو بالعلماء أو بالقادة أو بالمجاهدين، هذا من أعظم أخطائنا في التربية، فالإنسان يعلق بالمبادئ ويعلق بالقيم؛ لأن هذا الذي تفتن به اليوم لا يؤمن عليه الفتنة، فهو نفسه قد يترك الدين ويرجع وينتكس أو يموت ويتغير، فلا تتعلق بمخلوق كائناً من كان، فخذ من الناس ومن العلماء من الدعاة وممن تحب القيم والمبادئ التي عاشوا من أجلها، أما هم فلا تتعلق بهم، وما يحصل عند موت زعيم أو ما أشبه ذلك من هلاك الناس وضياعهم وبكائهم غير صحيح، فأن يبكي الإنسان على شخص يحبه لا بأس به، فالنبي صلى الله عليه وسلم بكى على موت إبراهيم ، ولكن لا يعتقد أحد أن الدين سيتبدل أو يتغير؛ لأن فلاناً مات أو لأن عالماً ربانياً هلك، فالدين أعظم من أن يعلقه الله بحياة أحد كائناً من كان.
وفي يوم الخندق أراد الله أن يبين أن مع العسر يسراً، وأن آخر الليل فجر، ففي عز ما كان فيه المشركون مسيطرين محيطين بالمدينة، أخذ النبي عليه الصلاة والسلام بالرأي، والإنسان مهما بلغ عقله ورأيه وفضله يحتاج إلى أن يستشير الناس، وما استكبر صلى الله عليه وسلم عن أن يستشير أصحابه، وأخذ برأي سلمان ، حيث قال له: إننا كنا في بلاد فارس نصنع كذا وكذا.
فلا يأتي إنسان ويقول: هذا تشبه بالكفار؛ فالتشبه بالكفار إنما يكون في المسائل التي تكون رمزاً لهم، وتكون عنواناً على كفرهم، فهذا لا يجوز، أما حضارات الأمم فلا يجوز لأحد أن يقيدها، فقد كان الفرس يصنعون هذا في حروبهم، فما امتنع صلى الله عليه وسلم عن أن يصنعه في حروبه إذا كان يقيه غائلة الأعداء، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر هو عند مسلم : (كنت أريد أن أنهى أمتي عن الغيلة، حتى علمت أن فارس والروم تصنعانها فلا يضرانها شيئاً)، والغيلة أن تضرع المرأة ابنها وهي حامل على إحدى التفسيرين لها، وهو المشهور، ومع ذلك لما علم عليه الصلاة والسلام أن فارس والروم -وهم مجوس ونصارى- يصنعون هذا الصنيع قبله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه حضارة مشتركة يأخذ الناس بها كلهم، فليس وقفاً على أمة دون أمة، وإنما المحظور ما كان شعاراً ليهود أو كان شعاراً لمجوس أو كان شعاراً لنصارى يتعلق بدينهم وشعائرهم، فهذا هو الذي فيه الموالاة والبراء، ولا يجوز لأحد أن يحاكيهم فيه أبداً حفاظاً على شعيرة الدين.
وفي ذروة هذا كله ينزل صلى الله عليه وسلم فيضرب صخرة فيقول: (الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إنني لأرى قصر المدائن الأبيض من مكانها)، ثم يضرب ضربة ثانية ويقول: (الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إنني لأرى قصور
وقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله وهو لم يدرك واحدة منها، فلم تفتح فارس ولا بلاد الروم ولا اليمن في حياته صلى الله عليه وسلم؛ إذ ليس شرطاً أن تفتح في حياته، كما قال تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ [يونس:46] والمقصود أن الآيات تقع في حياته وتقع بعد وفاته، فالدين ليس معلقاً بأحد، والقائد الموفق من يبذر الفأل الحسن والعزيمة في نفوس المسلمين.
فهذه المعركة كانت اختباراً للناس وتصفية لهم، فالمنافقون قالوا: محمد يعدنا بكذا وكذا وأحدنا لا يقدر أن يقضي حاجته، فقال الله عنهم: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، وقال عن أهل الإيمان: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، فهذا ما يتعلق بمعركة الأحزاب.
وأما في الحديبية فإنه صلى الله عليه وسلم خرج حتى وصل إلى مكة، وقبيل مكة بركت الناقة، فقال من معه: خلأت القصواء، فقال: (والله ما خلأت وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، ثم فهم أنه لن يصل إلى البيت، وقال: (إن قريشاً لا تسألني اليوم خطة يعظمون فيها البيت إلا أعطيتهم إياها).
فهذا النص، -وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (حبسها حابس الفيل)- قرأه كثير من العلماء، ولكن الفهم يتفاوت من عالم إلى عالم في استنباط الفوائد، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله -وهذا من دلائل قدرته العلمية-: إنه لا يلزم من التشبيه بين أمرين التشبه من كل وجه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام شبه حبس ناقته بحبس الفيل، مع أن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وصاحب الناقة صلى الله عليه وسلم كان على حق محض، ولكن المقصود هنا بالتشبيه شيء واحد، وهو حفظ الله جل وعلا لبيته، وليس المقصود تشبيه صاحب الناقة صلى الله عليه وسلم بصاحب الفيل أبرهة ، فبينهما من البون والفرق ما لا يخفى على أحد. هذا معنى كلامه رحمه الله تعالى وغفر له.
والمقصود من هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام رجع بعد أمور وأحداث علق عليها المصنف، فخرج في نفس العام إلى خيبر، وقد كان يقطنها اليهود، فأقبل على خيبر فجراً، فخرج الناس ومعهم المساحي، فلما رأى المساحي بأيديهم تفاءل وقال: (الله أكبر، خربت خيبر، إننا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)، وهنا حصلت أمور، فبعض الحصون عزت على الصحابة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله)، فاستشرف الناس ليلتهم كلهم يريد أن يكون هو، فلما أصبح أعطاها علياً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهذا من مناقب علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وتم فتح خيبر بعد ذلك، واصطفى النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب ، فوجد في خدها أثر ضربة، فسألها عنها، وكانت قبله تحت رجل آخر، فقالت له: إنني قصصت رؤيا على زوجي فصفعني، ثم سألها بعد ذلك فأخبرته، فقالت: رأيت الهلال ينزل فيقع في حجري، فقصصتها على زوجي فضرني وقال: تتزوجين هذا الملك الذي في المدينة. يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، فبقي أثر الضربة فيها حتى تزوجها نبينا صلى الله عليه وسلم.
فهذا ما كان من غزوة خيبر، وقد حاول اليهود سمه عليه الصلاة والسلام، فنجاه الله تبارك وتعالى، وأخبرته ذراع الشاه بأنها مسمومة، فلفظ ما أكل صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد خيبر كان فتح مكة في العام الثامن من الهجرة، فخرج عليه الصلاة والسلام -لأنه استنصر به عمرو بن سالم - حتى أتى مكة وأناخ بجوارها، وفي تلك الفترة أسلم بعض القرشيين وعلى رأسهم أبو سفيان بن حرب ، وكان أبو سفيان رجلاً يحب الفخر، والعباس كان الوسيط بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين أبي سفيان ، وكان العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام يدل على رسول الله، فقال: يا نبي الله! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فقال عليه الصلاة والسلام: (من دخل دار
ثم دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وكبر في نواحيها وصلى ركعتين، وهو خارج آخذ بعتبتي الباب أنزل الله جل وعلا عليه قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فأعطى مفاتيح الكعبة لبني شيبة وقال: (خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم).
ثم خرج صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى حنين جهة الطائف، فلما خرج إلى حنين مر على شجرة كان القرشيون وأهل الجاهلية يعبدونها، فكانوا يعلقون بها بعض أمورهم معتقدين فيها، فقال من معهم ممن هو حديث عهد بالإسلام: يا نبي الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر؛ إنها السنن، لقد قلتم كما قال أصحاب موسى لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138])، ثم أتى حنين صلى الله عليه وسلم، وغلب المسلمون أولاً، ثم أخذها أبو سفيان بن الحارث ، والقلوب بين يدي الله يقلبها كيف يشاء، فـأبو سفيان بن الحارث كان طوال دهره يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن عمه، فـالحارث أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم من أبناء عبد المطلب ، وسيأتي الحديث عن أعمام الرسول.
فالمهم أن أبا سفيان هذا هو الذي قال له حسان رضي الله تعالى عنه:
أتهجوه ولست له بكفءٍ فشركما لخيركما الفداء
فأخذ أبو سفيان بزمام ناقة النبي عليه الصلاة والسلام، والرسول واقف على ناقته ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، ثم نادى: يا أصحاب السمرة يا أصحاب الشجرة. حتى اجتمعوا رضي الله عنهم وأرضاهم، ونصر الله جل وعلا جنده المؤمنين.
ثم حاصر النبي عليه الصلاة والسلام الطائف، فاستعصت عليه فقفل راجعاً بعد أن استشار بعض الناس، ثم قال: (اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم)، ورجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وفي العام التاسع في شهر رجب خرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وكان الأصل في غزواته أنه إذا أراد أن يخرج لا يبين الوجه الذي يريد، إلا تبوك لبعد المشقة وشدة الحر وحاجة الناس، فأظهر صلى الله عليه وسلم وجهته ودعا الناس واستنفرهم إلى المعونة فيها، فكان لـعثمان رضي الله تعالى عنه اليد الطولى وقصب السبق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فجهز أكثر جيش العسرة رضي الله عنه وأرضاه، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم.
وتخلف ثلاثة: مرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وكعب بن مالك ، وتخلف المنافقون، ثم لم يجد صلى الله عليه وسلم قتالاً ولا حرباً، فأقام في تبوك ما شاء الله له أن يقيم، ثم رجع إلى المدينة جاءت قصة توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا.
وبعد أن ذكر المصنف رحمه الله بعضاً مما يشير إلى غزواته صلوات الله وسلامه عليه أشار إلى من كان يكتب له عليه الصلاة والسلام، وهذا يسوقنا إلى مسألة مهمة، وهي أن الله جل وعلا بعث نبيه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وقد عاش عليه الصلاة والسلام لا يقرأ ولا يكتب أربعين عاماً قبل النبوة، وهذا لحكمة أرادها الله، حتى لا يأتي أحد ويقول: إن هذا النبي حصل على ما حصل عليه مما يقوله من قرآن لمعرفة بأخبار الأمم السابقة، وهذا أمر أكد القرآن عليه كثيراً، قال الله جل وعلا: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]، وقال جل وعلا: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، وقال جل وعلا: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]، فالنبي عليه الصلاة والسلام حفظه الله من أن يقرأ ويكتب قبل النبوة حتى لا يتسلط أحد عليه ويكون ذلك عذراً لأحد ممن يعترض على دينه، كما أخبر الله عن الكفار أنهم قالوا: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان:5]، أي: طلب من غيره أن يكتبها له. فرد الله جل وعلا عليهم ذلك كله، كما هو ظاهر في القرآن، فلما كان الله قد حفظ الله نبيه من هذا جعل له كتبة، والشيء الذي لا يحسنه الإنسان يكله إلى غيره، وليس هذا بنقص فيه، بل هذا من مقومات كمال المرء، والنبي عليه الصلاة والسلام -وهو رأس الملة وإمام الأمة يقود الناس- شرع الله جل وعلا له أن يتخذ كتبة يعينونه على أمره عليه الصلاة والسلام، فيكتبون الوحي الذي ينزل من السماء، ويكتبون كتبه التي يبعثها إلى غيره، ويكتبون بعض الأحكام التي وجدت عندهم، كما في كتاب عمرو بن حزم ، فهذا كله قام به ثلة من الصحابة؛ لأن العرب كانت -في الغالب- أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فالذين كانوا يكتبون كانوا قليلين، ومنهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وكلهم كانوا كتبة، وكان هناك بعض الصحابة قد جمع المزيتين، فكان خطيباً للنبي عليه الصلاة والسلام وكان كاتباً، كما هو شأن ثابت بن قيس ، وكان من هؤلاء الكتبة من هو متميز، كما يوجد في الطلاب أو في الوزراء أو في المساندين لأي حاكم قوم مميزون، فكان زيد بن ثابت رضي الله عنه أحسن الصحابة في الكتابة، وتعلم لغة يهود، وهو الذي طلب منه الصديق رضي الله تعالى عنه -و الفاروق بعد ذلك- أن يجمع القرآن.
فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم ثلة من الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أن العاقل يتخذ من أسباب العصر الذي يعيش فيه ما ينفعه في أموره، خاصة تلك التي تتعلق بشئون الدعوة.
وذكر المصنف هنا من بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وبدأ بـالنجاشي .
وقبل أن نشرع في هذا نقول: هذا الطور يسمى الطور الجديد في الدعوة إلى الله، وهذا الطور وقع بعد صلح الحديبية، فقد كان القرشيون يمثلون الوثنية في جزيرة العرب، وكان اليهود يمثلون اليهودية، وكانت القوى الثلاثة التي تحارب الإسلام ثلاث: اليهود وقريش وغطفان، فلما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً في صلح الحديبية انكسرت شوكت الوثنيين، فتفرغ صلى الله عليه وسلم للدعوة عموماً، والله يقول عنه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، وفي الحديث: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة)، فكان هذا كله يتطلب طوراً جديداً ومرحلة دعوية، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يبدأ بهذا الطور أولاً، مع الحاجة إليه، ولكن المسلم العاقل لا يقيم الإسلام في غيره حتى يقيمه في نفسه، فلما أقام صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام وتخلص من خصومه القريبين، تفرغ للدعوة إلى الله جل وعلا، والعاقل لا يستعدي الناس عليه في يوم واحد، ولا يجعل جبهات متعددة تحاربه؛ لأن هذا أدعى لأن يخسر ويفشل، فالعاقل يؤمن بالمرحلية في حياته، ويؤمن بالواقع الذي يعيشه، فهو عليه الصلاة والسلام لم يخاطب كسرى ولا قيصر ولا أقيال اليمن ولا غيرهم حتى كسر شوكة قريش بصلح الحديبية على أن يمكث الناس عشر سنين ليس بينهم حرب، فلما توقفت الحرب كان هذا هو الفتح العظيم الذي بشر الله به نبيه يوم منصرفه من الحديبية فقال: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، فكان ذلك سبباً في أن يتهيأ صلى الله عليه وسلم ليخاطب الآخرين غير جماعته وعشيرته الأقربين الذين أمر بأن يبدأ بهم أولاً، وهم قريش الذي هو منهم صلوات الله وسلامه عليه.
وقد دعا عليه الصلاة والسلام بالسنان ودعا باللسان، واتخذ الأسباب المشروعة في الدعوة التي توافق عصره آنذاك.
ولما أخبره الصحابة بأن العرب أو الملوك والسلاطين والأمراء لا يقبلون إلا كتاباً مختوماً لم يعاند، وإنما اتخذ خاتماً من فضة فكتب فيه: (محمد رسول الله)، فجعل كملة (محمد) أسفل، وكلمة (رسول) في الوسط، وكلمة (الله) لفظ الجلالة في الأعلى، فأصبح الخاتم يقرأ من الأدنى: محمد رسول الله، ففي نفس خاتمه عليه الصلاة والسلام تأدب مع ربه جل وعلا، ولا يوجد أحد تأدب مع ربه تبارك وتعالى كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام متأدباً مع ربه يعرف لله قدره، وهذا واحد من أسباب كثيرة أفاءها الله عليه جعلته أعظم النبيين وأكمل الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
ومن ذلك أنه لما عرج به إلى سدة المنتهى لم يلتفت يميناً ولا شمالاً، ولم ينظر في أي شيء إلا وفق ما يريه الله، فما أراه الله رآه، وما لم يره الله لم يتحرك إليه منه جارحة، ولذلك زكى الله بصره في القرآن، فقال الله في سورة النجم: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، أي: لم يتجاوز حدوده، وكان عليه الصلاة والسلام في كل حاله متأدباً مع ربه جل وعلا، فإذا كنت تريد الرفعة فالرفعة لها أسباب، ومن أعظمها الأدب مع الله جل وعلا، وما أورث أنبياء الله ورسله الناس شيئاً أعظم من أدبهم مع الله، فقد قال الله عن خليله إبراهيم: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:75-79] فلما ذكر المرض نسبه إلى نفسه، فقال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، ولم يقل: وإذا أمرضني. تأدباً مع ربه تبارك وتعالى، ثم قال: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:81]، فكل ذلك من كمال أدبهم مع ربهم جل وعلا.
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يخطب في صلاة الجمعة، فدخل رجل يشتكي جدب الديار وقلة الأمطار، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه يقول: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، فتكون السحاب بأمر الله وأمطر الناس أسبوعاً، ثم في يوم الجمعة الثانية دخل رجل من نفس الباب، فخاطب رسول الله يشكو كثرة السيول، حيث قطعت السبل وفرقت الناس وأضرت بالطرق، فلم يقل صلى الله عليه وسلم لربه: أمسك عنا رحمتك؛ لأنه يعلم أنها رحمة، بل قال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) وجعل يشير بيديه، قال أنس : فوالله ما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الأدب يغفل عنه كثير مع الناس، وكما حظي به النبيون حظي به الأتقياء عبر التاريخ كله، فقد قال الله عن الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، فلما ذكروا الرشد نسبوه إلى الله فقالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ، ولما ذكروا الشر نسبوه إلى ما لم يسم فاعله، كما يقول النحويون، فقالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ ، ولم ينسبوه إلى الله مع أن الله خالق الخير وخالق الشر.
وكذلك الخضر عليه السلام لما ذكر السفينة وعيبها قال -كما أخبر الله عنه-: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، وأسند العيب إلى نفسه.
ولما ذكر قصة الجدار قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا [الكهف:82]، ولم يقل: فأردت، ولما ذكر العيب نسبه إلى نفسه فقال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] وهذا كله مندرج ضمن أدب رسولنا صلى الله عليه وسلم مع ربه، وهو أعظم ما ينقل عنه ويتأسى به صلوات الله وسلامه عليه.
ونعود إلى فقه الواقع الذي كان عليه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فقد كتب الكتب وبعث بها إلى الملوك والزعماء يدعو إلى الله ويبلغ رسالة ربه، وهو في كل رسالة يبعثها يختار من يحملها، والعاقل تدل على عقله ثلاثة أشياء: هديته وكتابه ورسوله، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يختار قوماً معينين من أصحابه وهو يبعثهم إلى الملوك والرؤساء لما يوافق حالهم، أي: حال هؤلاء الملوك؛ لأنه ليس المقصود التجبر والتكبر، وإنما المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً، فبعث إلى النجاشي ، و(النجاشي) لقلب يطلق على من ملك الحبشة، واختلف في النجاشي الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية إليه، هل هو النجاشي الذي هاجر إليه المهاجرون الأوائل، أم هو غيره، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه غير النجاشي الأول، كما يدل عليه حديث أنس . والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر