وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان أسخى الناس، فما سئل قط شيئاً فقال: لا، وكان أحلم الناس، إلا أن سخاءه يظهر في أوجه في رمضان إذا لقيه جبريل، وكان أحلم الناس، وكان أشد حياءً من العذراء في خدرها، فلا يثبت بصره في وجه أحد، وكان لا ينتقم لنفسه ولا يغضب لها إلا أن تنتهك حرمات الله، فينتقم لله، وإذا غضب لم يقم لغضبه أحد، والقريب والعبيد والقوي والضعيف عنده في الحق واحد.
وهذا أمر لا خلاف فيه، فالله جل وعلا زكى بصره، وزكى قلبه، وزكى لسانه، وزكى خلقه، فزكى الله لسانه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]، وزكى الله قلبه فقال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وزكى الله بصره فقال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وزكى الله خلقه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فهذه إجمالاً وجاءت مفصلة في آيات أخرى.
وما عاب طعاماً قط فإن اشتهاه أكله وإن لم يشتهه تركه، وكان لا يأكل متكئاً، ولا يأكل على خوان، والخوان هو المائدة التي يوضع عليها الطعام، ويعبر عنها أحياناً بالطاولة.
قال أنس رضي الله عنه كما في الصحيح: (ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان قط)، ولا يمتنع من مباح فإن وجد تمراً أكله، وإن وجد خبزاً أكله، وإن وجد شواء أكله، وهذا يدل على عدم التكلف، فكان لا يرد موجوداً ولا يطلب مفقوداً، فإن وجد خبز بر أو شعير أكله، وإن وجد لبناً اكتفى.
وأكل البطيخ بالرطب، والمقصود بالبطيخ هنا الخربز، والدليل على أنه الخربز ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فقد جاء ذكر البطيخ من ثلاث روايات: جاءت برواية: (أكل البطيخ بالخربز)، وجاء عن عائشة : (أكل البطيخ الأحمر بالخربز)، وجاء (أكل البطيخ الأصفر بالخربز)، وجاء برواية أوضح: (أكل الخربز بالرطب)، وهذا نص حديث أنس ، وقد ذكر علة أكل البطيخ بالرطب فقال صلى الله عليه وسلم: (نكسر حر هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحر هذا)، فالآن نحاول تطبيق هذه السنة، فنحن الآن في الصيف ويوجد رطب ويوجد خربز، فحاول في أقرب وقت أن تأتي بخربز وتأتي برطب، فتأكل الرطب وتأكل الخربز، وتشعر نفسك أنك طبقت سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وبهذا يسمو المؤمن ويعلو، وهذا مما يقوي العلم عندك، ومن قبيل القدر المحمود أني قبل أن آتي هنا كان آخر درس شرحته في مسجدي في المدينة هو أكل الخربز بالرطب، وطبقته في المنزل ثم شرحته في المجيء إلى هنا في نفس اليوم.
فالمقصود: أن تطبيق هذا مما يقوي العلم في صدرك، والإمام أحمد لما كتب المسند كان كلما مر عليه حديث عمل به، حتى إنه روى في المسند: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام عشرة دراهم)، فذهب واحتجم وأعطى الحجام عشرة دراهم، وبهذا تحسن الخواتيم، وتذهب غوائل الصدور، ويثبت العلم، ويطلب الإنسان من هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان يحب الحلواء والعسل.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، وكان قوتهم التمر والماء)، ويأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وكونه لا يأكل الصدقة هذا خاص به هو وآل بيته، ويكافئ على الهدية، فإذا أخذ هدية فإنه يكافئ عليها، وأغلب أحواله أن يرد الهدية بأكثر منها.
وفي مرة من المرات ركب شيخنا العلامة ابن باز رحمه الله تعالى الطائرة درجة أولى وكان هناك يهودي، فركب الطائرة وبجواره رجل أمريكي، والأمريكي هذا يقرأ ويعرف أن هذا ابن باز ويسمع عن علمه، وهو أمريكي كافر، فلما ركب الطائرة كان معه الدكتور سعد السعد ولا أذكر الآخرين، فهذا الأمريكي أعجب بالشيخ وأنه كفيف فأخرج ساعته وأعطاها للشيخ هدية، فقال: أعطوها للشيخ، فقيل للشيخ في الطائرة: إن هذا الرجل هو أمريكي كافر وأعطاك ساعة، قال: خذوها، فأخذوها، وصمت الشيخ، وهذا هو العلم، وقبل أن تهبط الطائرة قال الشيخ: قوموا الساعة، فقدروا ثمنها، فزاد الشيخ على التقدير ثم وضعها في ظرف مع شيء آخر؛ حتى يعرف أنها هدية، ثم أعطاها للجليس الأمريكي، فقال: بهذا تطبق السنة، (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويكافئ عليها بأفضل منها).
قلت: تطبيق السنة في هذا الأمر في حياتنا أعظم ما يركز العلم في النفوس، فمثلاً سيأتي معنا أنه كان يجيب الدعوة صلى الله عليه وسلم، وهنا أذكر هذه القصة: فأنا أسكن في المدينة، وكنا نسكن تحت سفح جبل سلع قديماً، هذا وأنا في سن العاشرة تقريباً أو الثانية عشرة فالشيخ ابن باز كان وقتها رئيساً للجامعة الإسلامية، وكان أحد الجيران عنده زواج، وقريب هذا الذي عنده الزواج له قريب يعمل في الجامعة الإسلامية موظفاً ليس بأستاذ ولا شيخ، فهذا القريب الذي يقرب لهذا الذي يقرب للعريس دعا الشيخ -وهو رئيس الجامعة- للفرح، فأنا والله أشهد إنني رأيت الشيخ بعيني جاء في سيارة بكس حتى وصل إلى الفرح، وما كان في المدينة أيامها قصور أفراح، ونحن كنا صبية فطلب منا صاحب الفرح أن ننظف الحارة، فنظفنا الحارة وفرشناها أسفل الجبل، وآخرها بيت بين البيت وبين الجبل في ساحة، فجاء الشيخ بعد صلاة العشاء ومعه ناس، وكان الشيخ إذا خرج من الحرم يركب معه طلاب العلم ولا يرد أحداً، ويطعم بعضهم الطعام، فوصل إلى حينا ونزل وجلس وجلسنا نحن في الجهة المقابلة وليس بجواره، ثم قام وألقى كلمة، والناس كما هم جالسون يقيلون آنذاك، فالحلقة كما هي ما قام أحد يحتفي به ويجلس إليه، ووقف وتحدث ونصح، ثم جلس وتعشى ومشى، فالأجر من الله ما يأتي إلا بعد ابتلاء، فتمحص وتختبر، فلا تجري بعد الشهرة ازهد فيها يأتك الله بها، وأما الذي يبحث عنها فقد ينالها ثم ينتهي، فالرجل وقف وتحدث وهو كفيف لا يدري كم عدد الحضور، ولم يجلس أحداً، ثم تعشى ومشى.
وفي مرة من المرات حججت معه وجاء إلى مجلس الشورى في هذه البلاد، فجاء الأمير عبد الله نيابة عن خادم الحرمين وفقه الله، وكان من بروتوكولات المجلس أنه يحضر ويدعى الوزراء وأعيان البلد مع أعضاء مجلس الشورى، ومن الطقوس الرسمية أن يقوم الضيوف بالسلام على راعي الحفل وهو الأمير عبد الله ، فكان من الحضور الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، فكان المجلس مكتظاً فيه حوالي التسعين: أعضاء مجلس الشورى والبقية وزراء وأمراء من البيت الحاكم وغيرهم، وقبل أن يقوم أحد قال الأمير عبد الله : لا أحد يقوم اجلسوا، ونزل من المنصة حتى وصل إلى الشيخ نفسه وقبل رأس الشيخ، ثم رجع مكانه، وقام كل من في المجلس يصعد للأمير، كلهم صعدوا للأمير، وأما الشيخ عبد العزيز فالأمير هو الذي نزل له من المنصة إلى مجلسه، وهو في كرسيه ما تحرك شبراً واحداً، وقبل رأسه، ثم رجع مكانه وقام الناس يسلمون على الأمير وانتهى الحفل، فمن عظم الله في السراء في مواطن لا يراها أحد ما فيها ثمرة، يجعل الله الخلق يعظمونه في العلانية، وأنا سأعطيك قاعدة تريحك: فأي شيء تريد من الله أن يظهره فالله يخفيه، وأي شيء تريد من قلبك أن الله يخفيه فالله يظهره، فالناس أصلاً لا يملكون قلوبهم ولا جيوبهم حتى يسخروها لك، فالذي يملكها هو الله، فإذا أردت أن تتعامل مع الناس فتعامل معهم بالسنة، ولا تنشد ما في أيديهم، وإنما انشد ما عند الله، هذا الذي به يبلغ المؤمن -إذا وفقه الله- خيري الدنيا والآخرة.
وكان الشيخ رحمه الله ولا نزكي على الله أحداً كذلك، هذا ما ظهر لنا منه، فكان الشيخ يمثل السنة في كثير من أحواله، هذه السنة التي نحن نشرحها اليوم نريد من أنفسنا ومنكم أن نتبعها ونقتفيها ونطبقها في حياتنا اليومية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، ويكافئ على الهدية، ولا يتأنق في مأكل ولا ملبس، وإنما يأكل ما وجد، ويلبس ما وجد.
وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله، ويعود المرضى، وكان أشد الناس تواضعًا، فيجيب من دعاه من غني، أو فقير، أو دنيء، أو شريف، ولا يفرق.
وكان يحب المساكين، ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم، ولا يحتقر فقيرًا لفقره، ولا يهاب ملكاً لملكه.
وكان يركب الفرس والبعير والحمار والبغلة، وهذا كله دليل على عدم التكلف، ويردف خلفه عبده أو غيره، ولا يدع أحداً يمشي خلفه، ويقول: (خلوا ظهري للملائكة).
ويلبس الصوف، وينتعل المخصوف، وكان أحب اللباس إليه الحبرة، والحبرة الثياب المقلمة ذات الخطوط، وهي من برود اليمن فيها حمرة وبياض.
خاتمه فضة، فصه منه، يلبسه في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض كلها فأبى أن يأخذها، واختار الآخرة عليها.
وكان يكثر الذكر ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، أكثر الناس تبسماً، وأحسنهم بشراً، مع أنه كان متواصل الأحزان دائم الفكر، وكان يحب الطيب، ويكره الريح الكريهة، يستألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يجفو عليه، يرى اللعب المباح ولا ينكره، يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويقبل معذرة المعتذر إليه، له عبيد وإماء، لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس، لا يمضي له وقت في غير عمل لله، أو فيما لابد له ولأهله منه، رعى الغنم، وقال: (ما من نبي إلا وقد رعاها)، وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه ويرضى لرضاه)، صلوات الله وسلامه عليه.
وصح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط كانت أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف قط، ولا لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا وكذا؟).
فقد جمع الله له كما الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وآتاه الله علم الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلم له من البشر، نشأ في بلاد الجهل والصحارى، آتاه الله ما لم يؤت أحداً من العالمين، واختاره على جميع الأولين والآخرين، فصلوات الله عليه دائمة إلى يوم الدين.
هذا كله ظاهر ولا أعتقد أنه يحتاج إلى تعليق.
فصل: في معجزاته صلى الله عليه وسلم.
فمن أعظم معجزاته، وأوضح دلالاته: القرآن العزيز الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، الذي أعجز الفصحاء، وحير البلغاء، وأعياهم أن يأتوا بعشر سور مثله، أو بسورة، أو بآية، وشهد بإعجازه المشركون، وأيقن بصدقه الجاحدون، والملحدون.
القرآن الكريم معجزة نبينا الخالدة، وهو معجز في لفظه ومعناه، قال شوقي رحمه الله:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
وقد حاول إبراهيم النظام أحد رءوس المعتزلة في عصره أن يدعي أن القرآن تستطيع العرب أن تأتي بمثله لفصاحتهم، ولكن الله -في زعمه- صرفهم عن هذا، وسمي قول إبراهيم هذا بالصرفة، فهو يقول: إن القرآن معجز، لكن الإعجاز في أن الله صرف العرب على أن يقولوا مثله، وإلا فالعرب فصحاء يستطيعون أن يقولوا مثله في لفظه، ولم يقبل منه أحد هذا القول، بل إن غيره من رؤساء المعتزلة ردوا عليه، والحق أن الله أعجز العرب أن تأتي بمثل القرآن، بمعنى أن القرآن معجز في لفظه ومعناه.
وسأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر، فانشق حتى صار فلقتين، وهو المراد بقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)، وصدق الله قوله بأن ملك أمته بلغ أقصى المشرق والمغرب، ولم ينتشر في الجنوب ولا في الشمال، وهذا فيه نظر، فليس المقصود المشرق والمغرب تحديداً، وإنما المقصود انتشار الدين في كل مكان.
وكان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر وقام عليه حن الجذع حنين العشار حتى جاء إليه والتزمه، وكان يئن كما يئن الصبي الذي يسكت، ثم سكن، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، واختلف العلماء في معنى نبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام على قولين:
القول الأول: أن يكون الماء نبع فعلاً من بين أصابعه، أي: خرج من بين أصابعه.
القول الثاني: أن يكون المعنى أنه ببركته عليه الصلاة والسلام لما وضع أصابعه تكاثر الماء ببركته عليه الصلاة والسلام، ولم يكن هناك نبع حقيقي من أصابعه، والقول الأول هو الأظهر؛ إذ لا مانع يمنعه، وعليه الأكثرون.
وسبح الحصى في كفه، وثم وضعه في كف أبي بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، فسبح.
وكانوا يسمعون تسبيح الطعام عنده وهو يؤكل، وسلم عليه الحجر والشجر ليالي بعث، وكلمته الذراع المسمومة، ومات الذي أكل معه من الشاة المسمومة، وعاش هو بعده أربع سنين.
الذي أكل معه من الشاه هو بشر بن البراء ، وهنا لم يتكلم المصنف عن محبة بشر للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه فائدة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قدمت له الشاه وهي مسمومة، وفي الوقت الذي أكل منها أكل معه بشر بن البراء ، فلما لاكها بشر في فمه عرف أنها مسمومة ومع ذلك لم يلفظها تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسبقت بقدر الله أن تدخل جوفه فيموت، فلما مات اقتص النبي صلى الله عليه وسلم من المرأة اليهودية التي سمت الشاه.
وأصيبت رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري فمسحها فبرأت من حينها، وأخبر أنه يقتل أبي بن خلف الجمحي يوم أحد، فخدشه خدشاً يسيراً فمات.
وقال سعد بن معاذ لأخيه أمية بن خلف : سمعت محمداً يزعم أنه قاتلك، فقتل يوم بدر كافراً.
وأخبر يوم بدر بمصارع المشركين فقال: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، فلم يعد واحد منهم مصرعه الذي سماه).
وأخبر أن طوائف من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بنت ملحان منهم، فكان كما قال.
وقال لـعثمان : إنك ستصيبك بلوى، فقتل عثمان .
وقال للحسن بن علي : (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المؤمنين عظيمتين)، فكان كذلك.
وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتل، وبمن قتله، وهو بصنعاء اليمن، وبمثل ذلك في قتل كسرى.
وأخبر عن الشيماء بنت نفيلة الأزدية أنها رفعت له في خمار أسود على بغلة شهباء، فأخذت في زمن أبي بكر الصديق في جيش خالد بن الوليد بهذه الصفة.
وقال لـثابت بن قيس بن شماس : (تعيش حميداً، وتقتل شهيداً)، فعاش حميداً، وقتل يوم اليمامة شهيدًا.
وقال لرجل ممن يدعي الإسلام وهو معه في القتال: (إنه من أهل النار)، فصدق الله قوله بأن نحر نفسه.
وجماع هذا علمياً أن يقال ما يلي:
إن الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: غيب يتعلق بالأمم والقرون الغابرة، ومثاله أخبار يوسف، وأصحاب الكهف، وقوم نوح، وقوم عاد، فهذا كله إخبار عن غيب سبق.
الثاني: إخباره عن غيب وقع في حياته قبل أن يموت، مثل إخباره بالذي قتل نفسه، وإخباره بـالأسود ، ومقتل قريش يوم بدر، ومقتل الأسود العنسي ، فهذا كله حصل في حياته صلى الله عليه وسلم.
وإخباره بغيب وقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، مثل: (إن ابني هذا سيد)، فهذا وقع بعد وفاته، وقصة سراقة بن مالك أنه سيلبس سواري كسرى، وهكذا أشراط الساعة فإنها ستقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
هذا خلاصة ما يمكن أن يقال في الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ودعا لـعمر بن الخطاب ، فأصبح عمر فأسلم، ودعا لـعلي بن أبي طالب أن يذهب الله عنه الحر والبرد، فكان لا يجد حراً ولا برداً، ودعا لـعبد الله بن عباس أن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، فكان يسمى الحبر والبحر لكثرة علمه، ودعا لـأنس بن مالك بطول العمر، وكثرة المال والولد، وأن يبارك الله له فيه، فولد له مائة وعشرون ذكراً من صلبه، وكانت نخله تحمل في السنة مرتين، وعاش مائة وعشرين سنة أو نحوها، وكان عتيبة بن أبي لهب قد شق قميصه وآذاه، فدعا عليه أن يسلط الله عليه كلباً من كلابه، فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام، وشكي إليه قحوط المطر وهو على المنبر، فدعا الله عز وجل وما في لسماء قزعة، فثار سحاب كثير أمثال الجبال، فمطروا إلى الجمعة الأخرى حتى شكي إليه كثرة المطر، فدعا الله عز وجل فأقلعت وخرجوا يمشون في الشمس.
وأطعم أهل الخندق -وهم ألف- من صاع شعير أو دونه وبهيمة، فشبعوا وانصرفوا والطعام أكثر ما كان.
وأطعم أهل الخندق أيضاً من تمر يسير أتت به ابنة بشير بن سعد إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة .
وأمر عمر بن الخطاب أن يزود أربعمائة راكب من تمر كالفصيل الرابض، فزود، وبقي كأنه لم ينقص تمرة واحدة، وشهد الذئب بنبوته.
شهادة الذئب بنوته رواها الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ومر في سفر ببعير يستقى عليه، فلما رآه جرجر ووضع جرانه، فقال: (إنه شكا كثرة العمل، وقلة العلف).
ودخل حائطاً فيه بعير -الحائط: هو البستان- فلما رآه حن وذرفت عيناه، فقال لصاحبه: (إنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه).
فهذه كلها أخبار تدل على ما سخره الله جل وعلا له صلوات الله وسلامه عليه هي والتي بعدها.
إلى أن قال في آخر صفحة (116):
وخرج على مائة من قريش وهم ينتظرونه فوضع التراب على رءوسهم ومضى ولم يروه، وتبعه سراقة بن مالك بن جشعم يريد قتله أو أسره، فلما قرب منه دعا عليه فساخت يدا فرسه في الأرض، فناداه بالأمان، وسأله أن يدعو له فدعا له، فنجاه الله، وله صلى الله عليه وسلم معجزات باهرة، ودلالات ظاهرة، وأخلاق طاهرة، واقتصرنا منها على هذا تحقيقاً.
سأتكلم أنا إجمالاً عن العشرة المبشرين رضي الله تعالى عنهم:
فهؤلاء العشرة رضي الله عنهم أفضلهم الأربعة الخلفاء على الترتيب:
أبو بكر من بني تيم، وهي في الأصل قبيلة قرشية لم تكن ذات شأن عظيم في قريش، ومع ذلك أخرج الله منها أعظم رجل في الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، ومن مزايا أبي بكر التي منحها الله إياها دون غيره من الصحابة أن أباه وأمه أسلما، وهذه قلما يحضى بها صحابي سابق في الأول من المهاجرين الأولين، وأبوه أبو قحافة مات أبو بكر وهو مازال حياً، وتولى أبو بكر الخلافة وأبوه حي، وهذه لم تجتمع لخليفة -إن لم أنس- حتى لأحد خلفاء بني العباس، فلا يعقل أن يتولى إنسان خلافة وملكاً وأبوه حي.
وجاء أن أبا قحافة والد أبي بكر سمع ضجة في مكة فقال: ما هذا؟ قالوا: مات محمد صلى الله عليه وسلم، قال: من ولي بعده، وكان يسكن مكة ولم يهاجر، قالوا: ابنك أبو بكر ، قال: أورضيت العرب؟ لأنه كان مازال ينظر بالمعيار السابق معيار الجاهلية، فقد أدرك الإسلام شيخاً كبيراً فقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم والشيب قد وخطه من أكثر جوانبه، ولحيته بيضاء.
وقد خلف أبناء منهم: محمد ، ومنهم عائشة ، ومنهم أسماء ذات النطاقين، وعبد الرحمن، فهؤلاء بعض أبنائه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
أما عمر بن الخطاب فهو من بني عدي، وولي الخلافة بعهد من أبي بكر ، فـأبو بكر كتب كتاباً قبل أن يموت: هذا ما كتبه عبد الله بن أبي قحافة في آخر يوم له في الدنيا وأول يوم له في الآخرة، في ساعة يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر؛ أنني أعهد إليكم بـعمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فإن أبر وعدل فذلك ظني به، وإن لم يعدل فليس لي علم بالغيب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]. فهذه وصية أبي بكر التي عهد بها إلى عمر ، واسم أم عمر : حنتمة ، وقلنا: إن اسمها حنتمة لأنه سيأتي أن بعض الصحابة يقول عن عمر : ابن حنتمة ؛ من باب المبالغة في المدح، وأكثر من نقل عنه هذا القول عمرو بن العاص ، فقد كان عمرو بن العاص شديد الإعجاب بـعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكان يقول: أي رجل كان ابن حنتمة .
وقال: من أراد أن ينظر إلى أفضل رجل أقلته الغبراء وأظلته الخضراء فلينظر إلى ابن حنتمة ، فكان معجباً بسياسة عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعمر قلنا: إنه هو وأبو بكر أفضل الأمة، ويطلق عليهما العمران، فلماذا يطلق عليهما العمران؟ أبو بكر اسم مركب مضاف ومضاف إليه، وعمر اسم فرد، فتثنية المفرد ليست كتثنية الاسم المركب، فقالوا: العمران، ولا يعني هذا أن عمر أفضل، ولا يعني أن عمر أكبر، ولكن لأن تثنية الاسم المفرد أهون من تثنية الاسم المركب.
ويقولون عن الحسن والحسين الحسنان، وهذه لها علة أخرى، ويقولون: المكتان، ويعنون: مكة والمدينة؛ لأن مكة أفضل من المدينة، ويقولون: القمران، ويقصدون: الشمس والقمر، ولم يقولوا الشمسان؛ لأن القمر مذكر والشمس مؤنث، فاختاروا المذكر على المؤنث فقالوا: القمران.
والخوارج قالوا لـعثمان : أعطنا سنة العمرين، يقصدون: أبا بكر وعمر .
فـعمر رضي الله تعالى عنه قال عنه صلى الله عليه وسلم: (لم أر عبقرياً يفري فريه).
ثم ثالثهم عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعثمان مر معنا أنه تزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر حتى جاوز الثمانين، فدخل عليه الخوارج في يوم قتله وأحاطوا الدار ثم قتلوه، والإنسان إذا أضمر السوء لم يعدم حيلة في فعل ذلك السوء، وكان له ابن ربيب -أي: ابن زوجته- فقد تزوج عثمان امرأة لها ابن من رجل آخر، فلما ولي عثمان الخلافة جاءه هذا الابن الربيب وكان فاسقاً يطلب الولاية، فلم يعطه عثمان ولاية، فترك المدينة وذهب إلى مصر -أرض خصبة جديدة- وتنسك، يعني: أظهر التدين، ثم اقتنع الناس به أنه متدين، ثم بعد ذلك شغب على الأمير، أي: الأمير الذي وضعه عثمان أخذ هذا يشغب عليه، فبعث الأمير إلى عثمان يخبره أن هذا الغلام الذي هو ربيبك يتكلم علي أمام الناس ويذهب هيبة الأمارة، فأراد عثمان أن يعالج الأمر بحكمة فبعث قافلة فيها بعير وهدايا وعطايا لهذا الفتى على أنه يقنع بها ويكف شره عن الأمير؛ إكراماً له أنه ابن زوجته، فأخذ العطايا وأتى بها في صحن المسجد -المكان غير المستور- ونادى الناس وقال: إن عثمان يمالئني في دين الله -يرشيني- حتى لا أنكر المنكر، فازداد الناس قناعة به، فلما ازدادوا قناعة به خرج بهم من أرض مصر وقدم بهم إلى المدينة، وأحاطوا برجل يقول عنه صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: (ألا أستحيي من رجل تستحي منه الملائكة)، ثم دخلوا عليه بعد أن خرج إليهم وهو فوق الثمانين يستعطفهم ألا يقتلوه، يقول: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث: زنا بعد إحصان، ووالله ما زنيت لا في جاهلية ولا في إسلام، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها النبي صلى الله عليه وسلم، والتارك لدينه، فوالله ما تركت ديني، وقاتل النفس، ولا قتلت أحداً)، فما استمعوه، ثم أحرقوا الدار من الخلف ودخلوا عليه، وهو رجل قد جاوز الثمانين، وأنا كنت أقول لطلابي في المدنية: لو قدر لنا أن ندخل بيت المقدس -سندخله إن شاء الله- ووجدنا يهودياً فوق الثمانين لاستحيينا من الله أن نقتله، فهؤلاء دخلوا على عثمان على فضائله، فهو مشهود له بالجنة بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصحف بين يديه، وهو صائم، فقتلوه، فقطرت قطرة من دمه على قول الله في سورة البقرة: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة:137] ومات، ثم دخل عليه رجل يقال له: عمير بن ضابئ البرجمي فوجده مقتولاً، فصعد على صدر عثمان وكسر أضلاعه وهو ميت، ثم نزل وهو القائل من قبل:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
فانتقم الله لهذا الصحابي الجليل، فما عاش أحد من قتلة عثمان إلا وقد مات مقتولاً، حتى إن أحد القتلة ضرب نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان ضربها على عجيزتها من خلف، فقالت: ما لك أبعدك الله، وقطع الله يديك ورجليك، وأدخلك النار، فعاش هذا الرجل فرآه رجل في البصرة -لا يعلم أنه دخل على عثمان - مقطوع اليدين والرجلين ويقول: يا ويلاه من النار، فهذا الذي رآه بحسن نية قال له: وأنت تدخل النار! أنت تدخل الجنة؛ لأنك مبتلى مقطوع اليدين والرجلين، قال: إنك لا تدري، لقد دخلت على عثمان يوم الدار وحصل ما حصل، فدعت علي زوجته، فأنا الآن مقطوع اليدين ومقطوع الرجلين، ولم تبق إلا الثالثة -عياذاً بالله-: أن أدخل النار.
المهم أنهم دخلوا عليه فقتلوه، والذي قتله طعنه تسع طعنات، وهو يقول لما خرج: طعنته تسع طعنات: ثلاث طعنات لله! وطعنته ست طعنات لما في قلبي من الغل عليه.
المقصود من هذا أن استباحة دماء المسلمين ليس بالأمر الهين، والإنسان قد يدخل في الأمر يظنه أول الشأن يسيراً، فيدخل في نفق مظلم يصعب عليه أن يخرج منه، هذا عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم له: (بشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال: الله المستعان).
ورابعهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبو السبطين ، ومن ذريته الحسن والحسين اللذين منهما آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ينتهي نسبهم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أنه قتله عبد الرحمن بن ملجم الفزاري المرادي الخارجي المعروف، وعبد الرحمن هذا كان لا يفتر عن ذكر الله، وأراد أن يقتل علياً فخطب امرأة من الخوارج فقالت له: إن مهرها قتل علي ؛ لأن علياً قتل في حرب يوم النهروان بعض قرابتها، فاتخذ سيفاً يعرضه على الناس، ثم وضعه في طست فيه سم، حتى إن الحديد لفظ السم، ثم خرج على علي وهو ذاهب لصلاة الفجر فضربه، ثم إنه لما هموا بأن يقتلوه كان لا يفتر من ذكر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في السنن بسند صحيح: (أشقى الأولين أحيمر ثمود عاقر الناقة، وأشقى الآخرين من يخضب هذه وأشار إلى رقبة
قال شوقي رحمه الله:
ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
لما رنا حدثتني النفس قائلة يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
جحدتها وكتمت السر في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألم
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعم
الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسم
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما رأوك به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم
جبت السماوات أو ما فوقهن بهم على منورة درية اللجم
ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم
مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم
هذا هو النبي الذي جعله الله جل وعلا حظنا من الأنبياء، وجعلنا حظه من الأمم.
وإنه يحسن في خاتمة هذه الدروس أن ننبه على أن نتعبد الله جل وعلا في محبته صلوات الله وسلامه عليه، واقتفاء أثره، والتزام سنته، والسير على ما أوصى به صلوات الله وسلامه عليه، وتقديم أمره أو نهيه أو وصيته على كل أمر يبدو لنا، فمن أراد أن يعظم الله فليعظم أمره ونهيه، ومن أراد أن يعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم فليعظم أمره ونهيه، وإنما يعرف صدق المحبة من عدم الصدق فيها، أو الإحسان وبلوغ المنزلة العالية في المحبة من عدم بلوغ المنزلة في المحبة من وضعك هواك ورغباتك ومطامعك وآمالك ورأيك أمام أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه من عدمه.
ولقد وجد من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كـابن عمر وغيره ممن نال القدح المعلى في أنهم كانوا عظيمي اقتفاء الأثر بنبينا صلى الله عليه وسلم، فيخرج معه أنس إلى خياط يصنع طعاماً له عليه الصلاة والسلام فيرى أنس النبي يأكل من الدباء، فيرجع أنس فلا يطعم طعاماً بعد ذلك إلا ويضع الدباء فيه؛ اتباعاً لنبينا صلى الله عليه وسلم، مع أن المسألة غير تعبدية.
وعبد الله بن عمر ما طاف بالبيت قط لا في حج ولا في عمرة إلا ويستلم الركنين اليمانيين، وأحياناً كان يضرب وينزل الدم على أنفه وهو يمضي ويقول: ما تركت استلامهما منذ أن رأيت نبينا صلى الله عليه وسلم يستلمهما، كما أنه كان هناك باب في المدينة في مسجده يختلف عليه الرجال حيناً والنساء، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أننا تركنا هذا الباب للنساء)، فما دخل ابن عمر من ذلك الباب -وهو ساكن في المدينة- حياته كلها حتى مات رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو تركنا هذا الباب للنساء)، ولم يقلها أمراً عليه الصلاة والسلام.
ومن أراد جواره عليه الصلاة والسلام في جنات النعيم فليوحد الله ويعبده، وليجعل من رمضان فرصة للتوبة والإنابة إليه، ويسأل الله جوار محمد صلى الله عليه وسلم، وشفاعته يوم العرض، وورد حوضه عليه الصلاة والسلام.
هذا ما تهيأ إيراده، ويسره الله جل وعلا عبر تسعة دروس ألقيناها في هذا المسجد المبارك، ولابد أن يشوبها النقص والعثرات؛ فهذه سنة الله جل وعلا في خلقه، والكمال لله تبارك وتعالى، فإن وجدت خلة أو نقصاً فسده، وإن وجدت أمراً محموداً فاقبله، والله المستعان.
ختاماً:
اللهم لك الحمد لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد.
السماء عرشك، وفي كل مكان رحمتك وسلطانك، ومصير كل أحد إليك، ورزق كل أحد عليك، أنت لا إله إلا أنت، ولا رب لنا غيرك، ولا إله سواك.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، سبحان من يعيش بنعمته كل حي، سبحان من وسعت رحمته كل شيء، سبحان الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا رب غيره، ولا إله سواه.
اللهم لك الحمد سرمداً، حمداً لا يحصيه العدد، ولا يقطع الأبد، حمداً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لك ربنا أن تحمد، اللهم إنا نسألك بمحامدك كلها التي لا يبلغها قول قائل، ولا يجزي بآلائك أحد أن تصلي على محمد وعلى آله، وأن تسلم تسليماً كثيراً، وأن ترزقنا في هذا اليوم المبارك توبة نصوحاً نفيء بها إليك، ومغفرة من لدنك تمحو بها الخطايا والذنوب، ونسألك اللهم الفردوس الأعلى من الجنة، وجوار نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.
اللهم أحينا في الدنيا على سنته، وأمتنا إذا توفيتنا على ملته، واحشرنا يوم القيامة في زمرته.
اللهم أوردنا حوضه، وارزقنا جواره، وأسقنا من يده يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نستجير بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، ونسألك اللهم ربنا الجنة وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم أخلص نياتنا يا ذا الجلال والإكرام، ولا تجعل لأحد من خلقك كائناً من كان في قولنا وعملنا وصلاتنا ونسكنا حظاً ولا نصيباً يا رب العالمين.
اللهم آيسنا من خلقك، وأقلنا من عبادك، واقطع علائق قلوبنا من غيرك يا رب العالمين، واجعل قلوبنا ترضى بقضائك، وتصبر على بلائك، وتشكرك على نعمائك، وتشتاق اللهم إلى لقائك.
اللهم توفنا إذا توفيتنا وأنت راض عنا يا رب العالمين.
اللهم إن لنا من الخطايا والذنوب ما لا يعلمه غيرك، ولا يدري عنه سواك، فاللهم كما سترتها في الدنيا فامحها عنا في الآخرة يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وصلى الله على محمد، وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر