إسلام ويب

المسد والنصر والكافرونللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هذا الدرس تفسير لثلاث من قصار السور وهي: سورة المسد، والنصر والكافرون.

    وفي تفسير سورة المسد دروس، منها: أن النسب لا ينفع لدخول الجنة، وأن عداوة القرابة ليس فوقها عداوة.

    وفي تفسير سورة النصر دروس، منها: أن أعظم نصر للعبد أن ينتصر على نفسه، وأن النصر الأكيد هو نصر الله لأوليائه على أعدائه، وأن التوبة فتح من الله.

    وفي تفسير سورة الكافرون دروس، منها: أن على المسلم أن يتميز بمعتقده، ويتبرء من الكفر وأهله، ويعلن أنه لا التقاء أبداً مع أهل الباطل.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    نحن وجه الشمس إيمانٌ وقوة      نسبٌ حُرُّ ومجدٌ وفتوه

    كرب عمي، وقحطان أبي     وهبوا لي المجد من تلك الأبوه

    والسيوف البيض في وجه الردى      يوم ضرب الهام من دون النبوه

    نحن من أحمد صغنا مجدنا      رصع الحق أكاليل علوَّه

    ثمن المجد دمٌ جدنا بـه     يوم حطمنا من الباغي عتوَّه

    في مساء السبت حيينا بكم      مسجد الصديق يزهو بالأخوه

    أيها الأخيار! يا أحفاد من     نصروا الإسلام واجتاحوا عَدُوه

    وأناروا العقل في ليل الهوى      يوم كان الكفر في سبعين هُوَّه

    إنني أحييكم في هذا اللقاء تحية خالدة مباركة.

    وأسأل الله كما جمعنا في هذا المكان الطيِّب بطيبكم والمبارك بوجودكم أن يجمعنا في دار الكرامة.

    والحقيقة: أن هذا الدرس يصل عمره إلى الخمس سنوات، وفي كل مساء سبت أسعد كثيراً، وأجد - يعلم الله - من النشاط يوم السبت والفرحة والبهجة ما لا يعلمه إلا الله؛ لأنني ألتقي بصفوة المنطقة، في العلم، والصلاح، والفكر والأدب والخير، فهم الصفوة الطيبة المباركة، الذين تركوا أعمالهم، وأشغالهم وارتباطاتهم، وحضروا هنا لأربعة أمور:

    الأمر الأول: ليباهي بهم الله عز وجل في ملائكته.

    الأمر الثاني: لتحفهم الملائكة.

    الأمر الثالث: للتتنـزل عليهم السكينة.

    الأمر الرابع: لتغشاهم الرحمة.

    ولعلكم في مساء كل سبت تنصرفون مفغوراً لكم بإذن الله، كما صح في الأحاديث.

    وإن السعادة كل السعادة تغمر الإنسان بقصوره وبما عنده من عجز، وبما عنده من تطفل على العلم، وعلى موائد العلماء، أن يجد مثل هذه الطاقات المباركة من الشيوخ الكبار في السن، الصالحين الذين بلغوا الستين والسبعين، ويأتون من أطراف المنطقة، ومن القرى؛ ليحضروا بشيخوختهم وبكبر سنهم هذه الدروس، فيشاركون الشباب توجههم مع محمد عليه الصلاة والسلام.

    وأجد كذلك الآباء وهم يجلسون أمام أبنائهم وهم يحدثونهم عن محمد عليه الصلاة والسلام وعن ميراثه.

    وأفرح وأنا أجد زملائي من طلبة الجامعات والثانويات والمعاهد والمتوسطات والابتدائيات، وهم يحفون كل مساء سبت فيحضرون فأسعد بهم، وأتمنى من الله عز وجل أن يحشرني معهم، تحت لواء محمد عليه الصلاة والسلام.

    أهلاً وسهلاً والسلام عليكـمُ      وتحية منا تُزَف إليكمُ

    أحبابنا! ما أجمل الدنيا بكـم      لا تقبح الدنيا وفيها أنتمُ

    مرَّت ثلاثة دروس في التفسير:

    الدرس الأول: (قل أعوذ برب الناس).

    والدرس الثاني: (قل أعوذ برب الفلق).

    والدرس الثالث:(قل هو الله أحد) وكان في محاضرة.

    والدرس الرابع هذه الليلة: ثلاث سور: (المسد، والنصر، والكافرون).

    والسبب في إقحام ثلاث سور في درس واحد؛ لما أتاني من بعض الرسائل والاتصالات الهاتفية من كثير من الأحبة، وبعض المشايخ أثابهم الله، منهم من أبدى ارتياحه كثيراً، ودعا، وأشكره على حسن ظنه، ومنهم من لاحظ ووجه، والملاحظ والموجه أحب إلي من المثني والمادح، فرأوا أنه يمكن أن يكون هناك طول إذا أخذت السورة القصيرة من المغرب إلى العشاء، فحببوا لو يختصر في الشرح، ويربط واقع الناس بالقرآن، وتؤخذ سورتان أو ثلاث أو على حسب الحاجة في الدرس الواحد. فاستجبت لرأيهم شاكراً، فالدرس الرابع هذه الليلة سوف يكون في هذه السور الثلاث.

    ونبدأ مع كلام من يحسن كلامه، ومن ترتاح الأسماع لكلامه، وكلامنا مع كلامه بينه بَون، كالبَون الذي بينه وبين خلقه، كلامنا نسبته إلى كلامه كالخزف والفخار إلى الجوهر الغالي الثمين، فكلامه سُبحَانَهُ وَتَعَالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42] أما كلامنا فإنه عرضة للباطل أن يأتيه أحياناً، وعرضة للوهم وللسهو وللغلط، أما كلامه، فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى شرفه أن يعترضه غلط أو وهم أو سهو.

    أولاً: سورة المسد.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5]

    خبث أبي لهب

    سمعتم جميعاً هذا الكلام وتسمعونه في كل يوم، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور.

    من هو أبو لهب؟ أبو لهب: هو عم محمد عليه الصلاة والسلام، عمه في نسب الدم والطين، لا في العقيدة ولا في الدين، عمه من أسرته (بني هاشم) الأسرة الماجدة عبر الكرة الأرضية طولاً وعرضاً ومع ذلك بدأ به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى باسمه فمرغه في التراب، فلا عمومة إلا عمومة الدين، ولا خئولة، إلا خئولة الدين، ولا نسب إلا نسب الدين، ولا محبة إلا محبة الدين.

    من هو أبو لهب؟

    أولاً: أبو لهب: أستاذ للجهالة وللإعراض وللعناد وللقوى الشريرة في العالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

    ثانياً: أبو لهب: رجل تكبر بجاهه وأسرته، ورفض الحق ورفض (لا إله إلا الله، محمداً رسول الله).

    ثالثاً: أبو لهب: رجل كتب الله عليه ألا يسلم، ولا يؤمن ولا يعرف الحق، ولا يسجد لمن أنزل (لا إله إلا الله).

    رابعاً: أبو لهب: عنده بيت، هيأه بأبنائه وبزوجته وبماله وبإرادته لحرب محمد عليه الصلاة والسلام.

    خامساً: أبو لهب: يقف في الصف المعارض والمعسكر المحايد لمحمد عليه الصلاة والسلام.

    زوجته (حمالة الحطب) هي أم جميل، تحمل الحطب في طريق محمد عليه الصلاة والسلام تحاربه صباح مساء.

    أحد أبنائه اعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم وبصق في وجه محمد أشرف الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: {اللهم سلط عليه كلباً من كلابك} لم ينتصف عليه الصلاة والسلام منه ولم يمد يده، ولم يطلب الثأر لنفسه، بل قال: {اللهم سلط عليه كلباً من كلابك} فخرج هذا في سفر إلى الشام، ونام في وسط القافلة، فقال له أصحابه: ما لك تتخفى وتختبئ وسطنا؟! قال: أخشى أن يُرسل عليَّ كلبُ محمد في الليل، ولكن هل يحميه من الله حامٍ؟ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21] فجعله رفقته وأصحابه وسطهم، وفي وسط الليل الدامس أرسل الله عليه أسداً وهو من كلاب الله، فقام الأسد يتشمشم الناس ليتعرف على ذاك الجسم الخبيث الذي بصق في وجه محمد عليه الصلاة والسلام، فاستيقظ الناس وهم مضطجعون على ظهورهم ونظروا وإذا الأسد ملك الحيوانات يبحث عن فريسة، فكان الرجل يُخْلَع مكانه، وكان عرقه يتصبب، فيشمه الأسد، وينظر إلى خياشيمه فيتركه؛ لأنه ليس الفريسة، إنما أرسله الله على رجل باسمه وبعينه، حتى أتى إلى هذا الابن الضال المجرم للأب الضال المجرم، فالتَقَمَ رأسه لقمة واحدة.

    سبب نزول قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)

    ما سبب السورة؟ ولماذا نزلت؟ لماذا هذا الهجوم الصاعق فيها، حتى قوافيها صواعق تلتهب كالقذائف، لهب وأبو لهب، ونار ومسد، وحبل وحمالة حطب، كلها وقود ونار وقذائف وألغام وديناميت، لماذا؟

    قام عليه الصلاة والسلام على الصفا بعد الأربعين من عمره لما أنزل الله عليه: (اقْرَأْ) وأنزل عليه (لا إله إلا الله، محمداً رسول الله) فجمع كفار قريش جميعاً وجمع بني عبد مناف، وجمع بطون قريش في الحرم، حتى اكتظ بهم الحرم من أوله إلى آخره، رجالاً ونساءً وأطفالاً ليقرأ عليهم منشوراً إلهياً خطيراً لم يسمع الناس بمثله.

    يقول أحد المفكرين العصريين: إن أعظم مفاجأة طرقت العالم مفاجأة الرسول عليه الصلاة والسلام، والله يقول: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ [النبأ:1-2] أي نبأ أعظم من نبأ إرساله عليه الصلاة والسلام؟ هل سمعت خبراً أعظم من إرسال هذا الأمي؛ لينقذ الدنيا ويقودها إلى الله؟ لا.

    فلما اجتمعوا جميعاً قال عليه الصلاة والسلام: {يا معشر قريش! أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً في بطن الوادي تريد أن تُصَبِّحكم، أمُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً…}.

    يقول: لو أخبرتكم أن جيشاً يريد اجتياحكم، وغزاة يريدون تحطيمكم، أتصدقوني؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً.

    قال: {…إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا: (لا إله إلا الله) تفلحوا}.

    فمن الذي يرد؟ أبو لهب، العم أخو الوالد.

    وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً      على النفس من وقع الحسام المهندِ

    تستطيع أن تتحمل كل إساءة من البعيد، إلا القريب هذا أخو الوالد، في سن الرسول عليه الصلاة والسلام، شيخ شابت لحيته، لكن:

    ويقبح بالفتى فعل التصابي      وأقبح منه شيخ قد تفتى

    ***

    هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها      ما بال أشيب يستهويه شيطان

    قام وراء الرسول عليه الصلاة والسلام وجرجره بثيابه وقال: تباً لك سائر اليوم، ألهذا دعوتنا؟

    يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: تباً لك وخسارة لك، ضيعتنا من أشغالنا وأعمالنا، وقطعت علينا راحتنا، لتدعونا إلى هذا الأمر البسيط السهل، فسكت عليه الصلاة والسلام، فتولى الله من فوق سبع سماوات الرد عليه.

    بيان قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)

    قال: اتركه، سوف يعلم من المتبوب والخاسر والهالك، فقال سبحانه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].

    قال أهل العلم: كرر في البدء التباب توكيداً وحثاً على أنه سوف تتب يده لا محالة، (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ).

    ماتبت يدك يا محمد: لكن تبت يدا أبي لهب؛ لأنها يدٌ خائنة عميلة، مرتزقة، عدوة لله ورسوله، أما يدك يا محمد! فهي نظيفة بيضاء نقية طاهرة، كماء الغمام.

    والله لا تخسر، ولا تهلك مبادؤك، ووالله لتنتصرن، أما هو فـ (تَبَّتْ).

    قالوا: ذكر يده كناية عن سعيه، وكسبه، ومنهجه، ومبادئه.

    والحقيقة: أن كل من سلك طريق أبي لهب من الناس سواءً كان صاحب منصب، أو صاحب فكر، أو قلم، أو علم، أو أدب، أو موهبة يفعل فعله سوف ينال جزاءه لا محالة من الله.

    كنيتُه: أبو لهب، وهي في الحقيقة: كنية استحقت أن يذكره الله عز وجل باللهب في الآخرة، وسوف يصلى اللهب ويذوقه.

    قال ابن كثير: فيها معجزة ظاهرة، فإن الله أخبر أنه لا يتوب ولا يسلم، فما تاب ولا أسلم بل مات على كفره.

    (وَتَبَّ): التباب هو الخسار والهلاك والدمار والانسحاق والضياع، ولك أن تختار من هذه الكلمات الخمس ما شئت، لكنها لا ترقى إلى مسألة (تبَّ).

    بيان قوله تعالى: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)

    كان أبو لهب صاحب مال، وكان من تجار قريش، وكان يلبس الذهب؛ لكنه بعيد عن الله عز وجل ولا ينفعه ذلك، قال: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2] قالوا: سمى ماله وما يكسبه في المستقبل لن ينفعه أبداً، فليس له رصيد عند الله، ولذلك ترى بعض الناس يتعزز برصيده أحياناً، وتجده يكون لنفسه مكانة اجتماعية، إما بمنصبه، وإما بماله، أو بولده، أو بأسرته، أو بجاهه، وهو عدو لله، فنقول له: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2] وما أغنى عنه ولده وما كسب، وما أغنى عنه جاهه ومنصبه وما كسب.

    بيان قوله تعالى: (سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ)

    هذا قسمٌ من الله عز وجل أن يصليه النار جزاءاً لهذه المواقف المخزية منه، كان عليه الصلاة والسلام يشكو إلى الله عز وجل، ما يصيبه، يقول: {إلى من تكلني؟ إلى قريب ملكته أمري؟ أم إلى بعيد يتجهمني؟}.

    يقول: يا رب! امنعني واحمني، البعيد يتجهمني، والقريب تملكه أمري، مثل أبي لهب، يسومني سوء العذاب.

    كان يقف صلى الله عليه وسلم في الأسواق يعلن دعوته، يقف في سوق عكاظ يقول: {يا أيها الناس! قولوا (لا إله إلا الله) تفلحوا} ويأتي أبو لهب وراءه، ويقول: لا تصدقوه، هذا مجنون من بني هاشم، هذا ابن أخي قد جُنَّ، هذا ساحر، هذا كاهن، وكان يأخذ التراب ويحثوه على وجه الرسول عليه الصلاة والسلام، ويسكت عليه الصلاة والسلام.

    يدخل صلى الله عليه وسلم الخيام على الحجاج يعلن دعوته، وتوحيده، يقود القلوب إلى الله، وهذا يدخل وراءه في الخيام يكذبه، لا إله إلا الله!

    أي صبر يتحمله الإنسان! حتى أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] أي أنه قد ضاقت قلوب الناس إلا قلبك.

    فتأمل هذا، فلا يعاقبه صلى الله عليه وسلم ويوكله إلى الله.

    سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3].

    وتهدأ مشاعره عليه الصلاة والسلام وتخمد ثائرته؛ لأن الإنسان مهما أوتي من الصبر والحلم، إلا أنه قد يبلغ في درجة أن يغلي دمه على البغي والعدوان والطاغوت؛ لكن الله عز وجل يسليه.

    قال: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]

    بيان قوله تعالى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)

    حتى امرأته المجرمة سوف تذوق ما ذاق، هي مخزومية، وكانت تدخل الحرم وتقول: أين مُذَمَّم، تعني الرسول صلى الله عليه وسلم، دخلت وفي يديها، في يدها اليمنى حجر، وفي يدها اليسرى حجر، تريد أن تضر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقتربت واقتربت، وأبو بكر جالس بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، فجعل الله من بين يديها سداً ومن خلفها سداً فأغشاها فلم تبصر، فتقول لـأبي بكر: أين صاحبك؟ قال: التمسيه، وهذا جواب سديد، بمعنى: ابحثي عنه، قال: ولَمَ؟ قالت: يسبني، وهو لم يسبها ولكنه بعد هذه السورة سبها الله، الله الذي تولى سبها وهددها، قالت: لقد علمت قريش أني ابنة سيدها، وماذا يغني عنك أيتها الفتاة! أنك ابنة السيد؟! ماذا يغني عنك وأنت كفرت بـ(لا إله إلا الله) وكفرت بتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم وكفرت بالحجاب، وبالبيت الإسلامي، وبالكتاب والسنة، ثم كانت تنشد وتقول:

    مُذَمَّمَاً أبَيْنا      ودينَه قلينا

    وأمره عصينا

    وهي تقصد محمداً، يقول صلى الله عليه وسلم: {انظروا كيف يخرس الله ألسِنة قريش عن اسمي فيسموني مذمماً، وأنا محمد}.

    ثم تعود إلى البيت.

    يخرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام في الليل في صلاة العشاء وصلاة الفجر، فتأخذ هي الشوك في حزم الحطب وتنثره في طريقه، فيصيبه الشوك، وتدمى عقباه، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.

    فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: حبلها هذا الذي تحمل به الحطب، وحطبها هذا سوف نوقد عليه وعلى رأسها وشحمها ودمها في نار جهنم.

    وأعظم العقوبات أن تعذب العاصي بآلته، وأن تدمره بسلاحه.

    وبعض أهل العلم من أهل التفسير يرون أن حمالة الحطب: هي التي تمشي بالنميمة بين الناس، وهي بالفعل كذلك، كانت تفعل هذا وهذا، كانت تذهب إلى البيوت تستثير الناس ضد الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان زوجها يستثير الرجال ضد محمد صلى الله عليه وسلم.

    وامرأة أبي لهب هذه موجودة، توجد في الأندية، وفي المسارح، وفي الأقسام العلمية، وفي المستشفيات، وفي أقسام الإعلام، وهي تمثل تلك المرأة القديمة التي تعارض منهج الرسول عليه الصلاة والسلام، فهي تمشي بالنميمة في سب أهل العلم والفضل، وأهل الدعوة، والصلاح، وهي تمشي بالخزي والعار في عداء هذا الدين, وهي تمشي بالهدم والتدمير في معارضة كلما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم.

    امرأة أبي لهب موجودة.

    فمن تحارب الحجاب: فهي امرأة أبي لهب.

    ومن تحارب الدعوة: فهي امرأة أبي لهب.

    ومن تدعو إلى الاختلاط والسفور: هي من جنس امرأة أبي لهب.

    ومن تستهزئ بأهل الفضل والعلم والدعوة: هي من جنس امرأة أبي لهب.

    وسوف تصلى ناراً ذات لهب.

    (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): قال الشافعي -وهذا من استنباطه-: يقر المشركون إذا أسلموا، يقصد: على عقد النكاح فإذا أسلم الرجل المشرك مع امرأته أقروا يقرون على العقد الأول ولا يُنقض نكاحهم، فإن الله أقر أن امرأة أبي لهب امرأة له، فسماها وقال: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4] وهذا من فقه الشافعي؛ لأن الله سماها امرأة.

    وكان عليه الصلاة والسلام يقر من أسلم على العقد الأول، ولم يكن ينقضه.

    وقول آخر لأهل العلم: إن من كان كافراً وأسلم فإنه يجدد العقد، أو من ارتد فترك الصلاة مثلاً ثم عاد فيجدد العقد، والقول الأول هو الأسلم وهو قول الشافعي وغيره.

    (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): قالوا: لم يسمها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى استهجاناً لذكرها، وقيل: لأنه اكتفى بتسمية زوجها، فألحقها به، واسمها: أم جميل.

    وقالوا: إن العقد سوف يستمر إلى النار، أي: سوف يبقى عقد الزوجية هذا ونعوذ بالله إلى النار.

    قالوا: وما سمعنا أن زوجين قرن بينهما إلى المطاف الأخير في مقعدين في النار إلا هذه وذاك، وتجد بعض المجرمين مقروناً بإجرامه هو وزوجته حتى يلقوا الله في نار جهنم.

    وبعض الأحيان يفترق الزوجان هذا عن هذا، كنوح وزوجته، هذا من معسكر (لا إله إلا الله) وهذه من معسكر الضلالة والخزي، ولوط وزوجته، وفرعون وزوجته، فرعون في النار، وزوجته في الجنة, رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11] قال ابن القيم: سألتِ الجار قبل الدار، قالت: عندك، فبنى الله لها قصراً في الجنة عنده.

    بيان قوله تعالى: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)

    في جيدها: في عنقها، وذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الجيد، قالوا: لأنه موطن الجَماَل، والعرب إذا أنشدت شعراً في الجمَاَل ذكرت الجيد، فذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن هذا الجيد الذي كانت تتجمل به هذه المرأة، وكان يسمونها أم جميل سوف يلطخ بالنار، وسوف يجعل فيه حبل من مسد، قيل: من ليف، وقيل: من حديد والعياذ بالله فتجرجر به في نار جهنم، حبلها الذي تربط به حزمة الحطب هذه، يربط بعنقها وتجرجر على وجهها وظهرها في نار جهنم يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

    وقال بعض المفسرين: في رجلها، وفي يدها.

    وأقول في جيدها، الأحسن في عنقها.

    الدروس المستفادة من سورة المسد

    في السورة دروس:

    الدرس الأول: معجزة له عليه الصلاة والسلام، كما سلف معنا:

    أن الله عز وجل ذكر أن هذا لن يهتدي وسوف يعذب وبالفعل مات هو وزوجته وهما كافران.

    الدرس الثاني: أن هذا أسلوب أدبي مطلوب، وهو الإغلاظ على أهل الكفر والنفاق، قال تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73] فلا يعترض معترض، كما يكتب بعض الكتبة -الآن- ويقولون: إن بعض العلماء وبعض الدعاة تناولوا بعض الفجرة والمنافقين والكافرين والمرتدين بشيء من التجريح، وهذا لا ينبغي، فيرد عليهم أن أسلوب القرآن أحياناً قد يغلظ على الفاجر والمنافق وعلى الكافر تأديباً وترغيماً وتقويماً وتعنيفاً له.

    الدرس الثالث: أن على العبد أن ينجو بأسرته من نار جهنم، وليعلم أن النسب لا يكفي، فإن أقرب الناس من الرسول صلى الله عليه وسلم هو أبو لهب، ولكن لم تنفعه هذه القرابة، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56] بينما بلال مؤذن أهل الحبشة، وداعي السماء أتى من الحبشة فأسلم على (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وله قصر في الجنة كالربابة البيضاء.

    فـبلال نحبه، ويحبه مسلمو اليونان، ومسلمو اليابان، ومسلمو الصين، ومسلمو المغرب، ومسلمو الجزيرة، وكل مسلم يحب بلالاً، وكل مسلم يكره أبا لهب، فهذا قريب أصيل قرشي، وهذا بعيد في النسب لكنه عبد حبشي، فرفعه الله بـ(لا إله إلا الله) وأخزى الله هذا؛ لأنه كفر بـ(لا إله إلا الله).

    الدرس الرابع: أن عداوة القرابة ليس فوقها عداوة، ولذلك ابتلى الله رسوله؛ ليرفع درجته بعداوة القرابة، وعداوة البعيد، وعداوة المرأة، وعداوة الرجل، وعداوة الغني، وعداوة الفقير، ثم نصره الله نصراً مؤزراً.

    الدرس الخامس: أن من المؤسسات المحاربة للإسلام، مؤسسات المرأة، وهي التي تنشأ على غير تقوى من الله ورضوان، وتصد عن منهج الله، وهي خلايا أقامتها الصهيونية العالمية وأذنابها الذين تأثروا بالاستعمار وبالكفر، لحرب الدين بواسطة المرأة بما تكتب، وما تنشر وما تقرر وما تربي فلينتبه لهذا.

    وهي مدارس توجد في المستشفيات، وفي الأندية، وفي المدارس، وفي المحافل، وفي الجمعيات، وعدد بلا حرج، وهي مدرسة أم جميل.

    ومدرسة الضلال لأولئك هي مدرسة أبي لهب.

    ومدرسة محمد صلى الله عليه وسلم هي مدرستكم أنتم.

    نسب كأن عليه من شمس الضحى      نوراً ومن فلق الصباح عمودا

    وذكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الظلال وهو ينقل مشاهد يوم القيامة، وجمال السورة، قال في جمالها: أنها متناسقة العبارات، وصدق! بل هي بديعة كل الإبداع، ورائعة كل الروعة، وفيها من أسلوب الهجوم المؤدى الذي ينتهي بوصم القذائف، فإن فيها قلقلة، تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَـبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5].

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088532277

    عدد مرات الحفظ

    777168699