إسلام ويب

رسالة إلى المصطافينللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الكون مليء بالأسرار والعجائب، والسفر والنزهة والاصطياف وسيلة إلى معرفة أسرار الكون، والتفكر في مخلوقات الله عز وجل ، وللسفر آداب وأحكام، لابد على المسافر أن يعرفها ويفقهها.

    وفي هذه المادة عرض لآداب وأحكام السفر.

    الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.

    أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أيها المصطاف الكريم! حللت أهلاً، ووطئت سهلاً بين إخوانك ومحبيك، سعدنا بك وسعدت بنا يوم جمعتنا بك لا إله إلا الله وقد قال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].

    أيها المصطاف الكريم! إنك في رحلتك هذه إلى أماكن النزهة تحمل رسالةً ربانيةً خالدة، إنها رسالتك التي شرَّفك الله بها؛ رسالة الإيمان والتوحيد والطهر والعفاف، رسالة لا تغيب عنك أبداً إلا يوم تغيب أنت عن إيمانك وتوحيدك وإسلامك، يوم تشتري الدنيا بالآخرة وتقبل على غير الله.

    هذه الرسالة هي معك وأنت في المسجد، والمكتب والحانوت والحديقة والجبل والبستان، إنها أمانة لا إله إلا الله ولقد قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].

    أيها المصطاف الكريم! إن للاصطياف آداباً وأخلاقاً لعلها لا تغيب عنك، فمن هذه الآداب:

    التفكر في مخلوقات الله

    اغرس في نفسك توحيد الباري تبارك وتعالى، وأنت تنظر في بديع صنعه ولطيف خلقه. قال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:60].

    من الذي أنبت الشجر؟

    من الذي جعل القُمري يهتف على الأغصان؟

    من الذي أسرى بالنسيم على الماء؟

    قال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5] إنه كتاب الكون.

    وكتابي الفضاء أقرأ فيه      صوراً ما قرأتها في كتاب

    وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10].

    من الذي رسم هذا الجمال؟ وأبدع هذا الكمال؟

    من الذي جعل الرابية تشكو إلى الجبل، والماء يتمتم بالإسرار إلى الزهر، والبلبل ينشد قصيد الشكر على أغصان الشجر؟

    انظر لتلك الشجرة     ذات الغصون النضرة

    من الذي أبدعها     من حبة مندثرة

    ذاك هو الله الذي     أنعمه منهمرة

    ذو حكمة بالغة     وقدرةٍ مقتدرة

    أيها المصطاف! إن الدرس العظيم الذي تستفيده وأنت تجوب بسيارتك في هذا الإقليم الجميل، أن تتزود من التوحيد في كل ما ترى وتشاهد قال تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20].

    مالهم لا ينظرون؟!! مالهم لا يتفكرون؟!! مالهم لا يعتبرون؟!!

    ما للناس يعجبون من صنع الناس، ومن إبداع الناس ولا يعجبون من صنع رب الناس؟!

    تأمل في نبات الأرض وانظر     إلى آثار ما صنع المليك

    عيون من لجين شاخصات     بأحداق هي الذهب السبيك

    على قضب الزبرجد شاهدات     بأن الله ليس له شريك

    بم عرفت ربك؟ بالآيات، بالعظات، بالعبر في الكون، بالجمال، بالجلال.

    إن عليك أيها المصطاف أن تقرأ أسماء الله عزوجل في سمائه وأرضه، وإبداعه وتصويره.

    إن أول سورة نزلت على الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم هي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] فأين يقرأ الأمي الذي ما كتب، ولا قرأ؟

    إنه يقرأ في الكون؛ في الشمس الساطعة وفي النجوم اللامعة، في الليل والنهار، في الجدول والغدير والماء النمير.

    وفي كل شيء له آية     تدل على أنه الواحد

    فيا عجباً كيف يعصى الإله     أم كيف يجحده الجاحد

    حسن الخلق والكف عن أذى الآخرين

    أيها المصطاف الكريم! إن من حقوق الإنسان التي أجمع عليها عقلاء العالم قاطبة: احترام مشاعر الآخرين، وتقدير مكانة المسلمين، والاعتراف بحقوق المؤمنين، فلا يضايق المسلم بكلمة نابية؛ بل لا يضايق غير المسلم، فكيف بالمسلم؟!

    ولا بتصرف أهوج، ولا بأذىً متعمد، قال سبحانه: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83] وقال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب:58] يقول ابن المبارك:

    إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ     فكن لهم كذي الرحم الشفيق

    ولا تأخذ بزلة كل قومٍ     فتبقى في الزمان بلا رفيق

    وإن من احترام مشاعر الآخرين: صون أعراضهم عن النظر الحرام، وعدم الإزعاج بالتصرف الأهوج من مضايقة في أماكن النزول، أو رفع صوت، أو منعهم من مرفق عام أو منفعة مباحة مشتركة ليست خاصة بأحد.

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    أيها المصطاف! إن من فرائض الله عزوجل على عباده: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل زمان ومكان، ويوم تترك الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تصبح أمة أشبه شيء بالدواب؛ أمة بهيمية لا قداسة لها ولا روح، حينها ينزع عنها الله جلباب الوحي، ويخطب الدجالون من على منابرها، وتضيع كرامتها، ويتهدم تاجها، ويتزلزل بنيانها، وتصبح في آخر الأمم، وفي سياق الركب قال تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)) [آل عمران:110] لكن متى؟! قال تعالى: ((تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110]. وقد نعى الله على قوم خسروا وخابوا، إنهم اليهود، عملاء الخيانة، بنو إسرائيل، كانوا لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فلعنهم الله بصنيعهم الخائن الخائب قال تعالى: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) [المائدة:78-79]. إنك أيها المصطاف في رحلتك هذه داعية إلى الله، تدعو من ضل إلى سبيل الله، وتُبصر من عمي عن منهج الله، قال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)) [النحل:125].. ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي)) [يوسف:108] قل يا محمد للعالم وللدهر وقل للإنسانية، وللتاريخ ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي)) [يوسف:108] هذه طريقي، ما هي؟ ((أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) [يوسف:108] قال أهل العلم: البصيرة: العلم، وقيل: الحكمة، وقيل: اللين، وقيل: التدرج، والصحيح: أن الجميع هو البصيرة، ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33] تدعو من في أماكن الاصطياف وفي النزهات، تدعو من تهاون عن الصلاة؛ إذ كثير من الناس أصبحت الصلاة في حياته ثانوية، بل بعضهم أكل نعم الله وكفر بفرائض الله، فلا يسجد ولا يركع ولا يسبح ولا يقرأ القرآن؛ كأنه دابة في مسلاخ إنسان. تدعو من رفض الحجاب الشرعي؛ وأذعن لنعرات وصيحات الغرب وعملاء الضلالة، فرفض الحجاب وكفر به، وآمن بالاختلاط، وسفك مروءته وصيانته واحترامه وعرضه أمام الآخرين. تدعو من شغل وقته وعمره بالغناء الماجن؛ فهو لا يعيش إلا على اللهو، قد امتلأ قلبه من اللهو والعبث، وقسا قلبه، وأعرض عن ربه.

    تقدير نعم الله

    ومن الآداب أيضاً: أن تقدر نعم الله، فلا تصرفها في غير ما تصرف له، ولا تسرف في الإنفاق، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء:26-27].. وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] إن الموائد التي تعرض تكفي عشرات الناس.

    إن بطون المجاهدين والفقراء واللاجئين بحاجة ماسة إلى ما يلقى في القمائم من الفضلات.

    فيا مسلمون! يا مصطافون! ويا أهل الدار! أنتم مدعوون لشكر نعمة الله، فإن نعمة الجو نعمةٌ امتن الله بها على من سبق، قال عن بني إسرائيل: وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ [الأعراف:160] فلا تحرقهم الشمس، ولا يلهبهم النسيم، وإنما يعيشون في رغد من الجو، وفي سعادة من العيش.

    وامتن الله عزوجل على قوم بالحدائق والبساتين قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088527022

    عدد مرات الحفظ

    777138984