إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
هذه تأملات في سورة الإسراء، وهي سورة مكية إلا ثلاث أو أربع آيات سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى في موضعه، وهذه السورة صدّرها الله جل وعلا واستهلها بقوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
وسنقف في هذه السورة مع بعض آياتها تفصيلاً، ونعرِّج على بعض الآيات إجمالاً كفرائد علمية ومعرفية ما بين الآية والآية كما هو المنهج في العادة.
فنقول حول الآية الأولى من هذه السورة ما يلي:
أولاً: الوقفات أو التأملات اللغوية في قول الله جل وعلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].
كلمة سبحان تعرب عند النحويين على الأظهر عند جمهورهم على أنها مفعول مطلق لفعل محذوف، وهي في حق الله جل وعلا ملازمة للإضافة؛ فإما أن تضاف إلى الاسم الظاهر فتقول سبحان الله.. سبحان ربي، أو تضاف إلى الضمير فتقول: سبحانه أو سبحانك، على أن هذا اللفظ -أي كلمة سبحانك- معناه تنزيه الرب جل وعلا عن ما لا يليق به؛ وعلى هذا فلا تقال هذه الكلمة إلا مع الرب جل وعلا، أي لا يقال لأحد من الخلق كائناً من كان سبحانك، فلا يقال: سبحان إلا مضافة إلى رب العزة جل جلاله، ولا يقال لأحد من الخلق كائناً من كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، حتى للنبي صلى الله عليه وسلم لا يقال: سبحان الرسول! وإنما تضاف فقط للرب جل وعلا، تقول: سبحان الله.. سبحان ربي، أو أن تتكلم عن الله فتقول: سبحانه، أو أن تناجي ربك فتقول: سبحانك.
الأمر الأول لغوياً.
الأمر الثاني: قال الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1].
جاءت هنا كلمة ليلاً كما هو ظاهر منكَّرة، واختلف العلماء في الغرض البلاغي من كونها منكَّرة، قال بعضهم: المراد بها هنا التقليل، ووجه البلاغة أنهم كانوا يسيرون من مكة إلى بيت المقدس في أربعين ليلة، والتقليل هنا أن الله جل وعلا أسرى بنبيه بجزء قليل من الليل من مكة إلى بيت المقدس، ثم إلى سدرة المنتهى ثم إلى بيت المقدس، ثم إلى مكة في جزء قليل من الليل على هذا قال بعضهم: هذا المراد من تنكير كلمة ليل.
وقال آخرون: إن المراد من التنكير التعظيم، ويصبح المعنى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1] أي في ليل وأي ليل دنى فيه نبينا صلى الله عليه وسلم من ربه وناجاه فيه، وكلمه ربه وقرّبه وأدناه صلوات الله وسلامه عليه.
ونقول والله أعلم: لا مانع من الأخذ بكلا الأمرين، ومن قواعد التفسير: إذا كان للآية معنيان لا تعارض بينهما يجوز حمل الآية على المعنيين، إذا الآية هنا احتملت معنيين لا تعارض بينهما كما هو ظاهر.
إن الله تبارك وتعالى اعتنى بنبيه صلى الله عليه وسلم أعظم عناية، يقول عليه الصلاة والسلام: (إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته) ومن عناية الله بنبيه أن الله جل وعلا ما زال ينقله في أصلاب الرجال وأرحام النساء في نكاح غير سفاح حتى اختاره من خير الناس فبُعث صلى الله عليه وسلم من أعزِّ قبيل: وهم بنو هاشم آله صلوات الله وسلامه عليه، واصطفاه على بني هاشم، ثم ما زال الله يعتني به قبل أن ينبأ كما هو معلوم في السيرة، ثم نبئ صلوات الله وسلامه عليه بإقرأ وأرسل بالمدثر، فما زال الله يحيطه بعنايته وكمال حفظه حتى فقد عليه الصلاة والسلام النصير الداخلي والخارجي: فقد النصير الداخلي من الخلق وهي زوجته خديجة ، والنصير الخارجي وهو عمه أبو طالب ، ثم توجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعو أهلها فرده أهل الطائف، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
والمقصود أنه لما نزل صلى الله عليه وسلم مكة وهو في هذا الوضع من صدود أكثر الناس عنه إلا قلة من أصحابه تولاه الله جل وعلا فكانت رحلة الإسراء والمعراج.
فمن جملة عناية الله جل وعلا به أن أسرى الله جل وعلا به في برهة من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذه الرحلة في الملكوتين العلوي والسفلي كانت رحلة عظيمة له صلى الله عليه وسلم، ومن خصائصه التي منّ الله جل وعلا بها عليه أن هذه الرحلة وقعت ليلاً، وفي هذا دلالة على شرف الليل، فالليل أفضل من النهار من حيث الإجمال؛ لأن الله أسرى بنبيه ليلاً، ونجَّى لوطاً وبنتيه ليلاً، قال تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [القمر:34]، وأسرى بموسى وقومه من الصالحين ليلاً، قال تعالى: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الدخان:23]، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلوات أي النوافل فقال: (وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر) ثم تلا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17] الشاهد من هذا أن الليل أفضل وأشرف من النهار، على أن لله أعمالاً في الليل لا يقبلها في النهار، وأعمالاً في النهار لا يقبلها جل وعلا في الليل.
الفائدة الثانية: أن الله تبارك وتعالى أمر جبريل عليه السلام بغسل قلب النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم قبل رحلة الإسراء المعراج، وهذا الغسل ليس غسلاً معنوياً فقط وإنما غسل حسي، فقد شق صدره صلى الله عليه وسلم وأخرج قلبه ووضع في طست ( في إناء ) وهذا الإناء فيه ماء زمزم فغسل قلبه صلى الله عليه وسلم بماء زمزم ثم أعيد إلى مكانه، ولا ريب أن هذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم وإن رده العقل، لكن يثبته النقل، والنقل الصحيح مقدم على العقل.. فالعقل تبع للنقل وليس حاكماً عليه، فنقول: آمنا بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله؛ والمقصود أننا نثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل قلبه بماء زمزم غسلاً حسياً، وهذا يدلنا على فائدة أخرى وهي قضية فضل ماء زمزم، فنقول: إن هذا الماء ماء مبارك، والنبي صلى الله عليه وسلم نقل عنه أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) وقد صحح فريق من المحدثين هذا الحديث أو حسنوه، وعمل الفضلاء من العلماء يدل على صحته وعلى الأخذ به، وقد روي أن الإمام العالم المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى لما حج وأتى البيت ذكر الحديث المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في ماء زمزم فقال: اللهم إن فلان حدثني وساق السند أن نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: (ماء زمزم لما شرب له) وأنا أشربه لعطش يوم القيامة.
وبعض الفضلاء من العلماء يقول: إن السنة في شرب ماء زمزم أن يشرب وهو واقف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم في حجة الوداع وهو واقف، كما في حديث علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وبعضهم يقول: إنه شرب واقفاً للضرورة حتى لا يزدحم عليه الناس، وهذه مسألة خلافية.
الذي يعنينا أن ماء زمزم لما شرب له، والشافعي رحمه الله -الإمام المعروف الفقيه- كان في أول حياته يحب الرمي بالسهام، فجاء إلى زمزم وهو شاب فقال: اللهم إني أشرب ماء زمزم للرمي، فهو يحدث رحمه يقول: كنت أرمي العشرة أسهم فإما أن أصيب تسعة من عشرة أو أصيب عشرة من عشرة، يعني إذا رميت العشرة أسهم تصيب كلها أو يصيب تسع منها؛ وهذا كله ببركة ماء زمزم.
والإمام الخطيب البغدادي رحمة الله تعالى عليه صاحب كتاب تاريخ بغداد المحدث المعروف شرب من ماء زمزم وقال: اللهم إنني أشربه لثلاث: أشربه لأن أملي تاريخ بغداد بها، وأشربه أن أحدث.. يعني يكتب لي درس في جامع المنصور، وأشربه لأن أقبر بجوار بشر الحافي . قال العلماء: فحقق الله جل وعلا له أي للخطيب هذه الثلاث كلها، فأملى كتابه تاريخ بغداد في بغداد، وأصبح يحدث في جامع المنصور، ثم إنه مات وقبر بجوار بشر الحافي رحمة الله تعالى عليهما جميعاً.
والمقصود من هذا كله بيان فضل ماء زمزم، وقد دلت عليه الكتاب والسنة كما هو معلوم من عموم القرآن في قوله جل وعلا: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97].
ومما يتعلق بالإسراء والمعراج أن قُدِّم له صلى الله عليه وسلم دابة وهي البراق، ينتهي حافره حيث ينتهي بصره، فركبه صلى الله عليه وسلم وأسري به إلى المسجد الأقصى، وفي المسجد الأقصى صلى صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماماً، وهذا من أعظم الأدلة على علو شرفه وكبير مقامه وفضله وتقدمه صلوات الله وسلامه عليه، ووجه الدلالة هنا أن بيت المقدس وأرض الشام هي أرض الأنبياء من بعد إبراهيم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، فأكثر الأنبياء كانوا في أرض الشام عليهم السلام جميعاً، ومع ذلك هي أرضهم وديارهم ومنازلهم التي ولدوا فيها وهذا مسجدهم ومع ذلك صلى بهم صلى الله عليه وسلم إماماً في موطنهم، فجاءهم في مكانهم وأمرهم الله أن يقتدوا به صلوات الله وسلامه عليه؛ وهذا يدل على رفيع مقامه، وبالتالي على رفيع مقام أمته؛ لأنه وإن كانت أمته آخر الأمم عصراً إلا أنها أفضل الأمم؛ لأنها أمته صلوات الله وسلامه عليه، فهو حضنا من النبيين ونحن حضه من الأمم، ورحم الله من قال:
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبياً
ربط صلى الله عليه وسلم البراق في مربط موجود في المسجد الأقصى يربط فيه الأنبياء دوابهم، ودخل يصلي بالأنبياء، وهذا من أعظم الأدلة على أن الإنسان يأخذ بالأسباب؛ فهذا نبي الله محفوظ بحفظ الله له، ومعه أعظم الملائكة جبريل، ومعه دابة تأتمر بأمره ومع ذلك ربطها خوفاً من أن تنطلق، وهي لن تنطلق لكن حتى يأخذ الإنسان بالأسباب، ومع ذلك يتوكل على الملك الغلاب، وقد جاء في الآثار أن أبا سفيان بن حرب الزعيم القرشي الذي أسلم بعد ذلك كان بتجارة له في الشام فسأله هرقل عظيم الروم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يتحاشى في جوابه خوفاً أن يجرّب عليه الكذب، وهو في نفس الوقت يريد أن ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل ، فبينما هما يتبادلان الحديث وهرقل يسأله.. فقال أبو سفيان لـهرقل : إنه مما يدل على كذبه أنه حدثنا -أي النبي- أنه رحل من مكة إلى مسجد إيليا -أي المسجد الأقصى- إلى مسجدكم -يخاطب هرقل - في برهة من الليل وعاد في نفس اليوم، هو قالها يريد من هرقل أن يكذّبه فكان بطريق هرقل -رجل الدين عنده- واقفاً عند رأسه، فقال البطريق: والله إني لأعلم أي ليلة تلك الليلة فالتفت له هرقل وقال له: وما يدريك؟ فقال البطريق: إنني كنت كل ليلة أقفل أبواب المسجد حتى كانت تلك الليلة فلما أقفلت الأبواب بقي عليَّ باب، كلما حاولت أن أقفله لا يقفل فاستعنت بعُّمالي فلم يستطيعوا، فأرسلت إلى أهل الصناعة، أي إلى النجارين فقالوا لي: إن هذا الباب سقط عليه شيء فاترك الأمر إلى الصباح فإذا جاء الصباح أصلحناه، فوافقت يقول: فلما جئت في الصباح وجدت أثر مربط الدابة في المربط الذي يربط فيه الأنبياء دوابهم.
موضع الشاهد: انظر إلى عناية الله جل وعلا بنبيه صلى الله عليه وسلم، إن الله قادر على أن يقفل هذه الأبواب وجبريل يفتحها فيدخل صلى الله عليه وسلم، لكن الله جل وعلا يجري الكرامة لنبيه على سنن الخلق المعروفة؛ لأنه لو أقفلت الأبواب ودخل صلى الله عليه وسلم وصلى ورجع وأقفل الأبواب لما درى أحد، لكن الله جل وعلا يعتني بنيه حتى في أواسط ما يتناقله الناس عن سيرته صلى الله عليه وسلم، ومن هنا ينبغي أن يعلم أن الذي يريد أن يحقق غاية أياً كانت عظمت أو قلت لن يحققها إلا بالله جل وعلا.. فعلى هذا من أعظم أسباب تحقيق الأمان والغايات: التوكل الصادق على ربنا جل جلاله، والله جل وعلا يقول: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ [القصص:61] والله تبارك وتعالى منجز وعده لا محالة لمن وعدهم من عباده، وأعظم ما وعد الله به عباده الجنة، لكن المقصود أن الغايات والأماني والمطالب تتحقق إذا صدق العبد في توكله على ربه جل وعلا. والشافعي رحمه الله يقول: أهمني أمر ذات يوم فنمت فسمعت مناد في المنام يناديني: أن ادع الله بهذه الكلمات: اللهم إني لا أملك لنفسي حولاً ولا طولاً، اللهم إني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً، وإنني لن أستطيع أن أأخذ إلا ما أعطيتني، ولن أتقي إلا ما وقيتني، فوفقني لما تحب وترضى من القول والعمل في عافية.. فيقول رحمه الله: فقمت من النوم فدعوت بها فحقق الله غايتي وأذهب الله جل وعلا همي؛ والمقصود من هذا الأمر عناية الله بنبيه وأن الغايات إنما يطلب تحقيقها من رب الأرض والسماوات.
فهذا الذي قاله بطريق هرقل جواباً ودفاعاً عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
وصلى بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، وقد بينا أن في هذا فضله وتقديمه عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء.
قال الله جل وعلا في الآية: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] واللام جيء بها للتعريف، فقول الله جل وعلا: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] من أعظم الأدلة والقرائن على أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في رحلة الإسراء والمعراج؛ لأن الآية في مقام الامتنان، ولا ريب لكل ذي عقل أن رؤية الله جل شأنه أعظم من رؤية آياته، فلو كانت الغاية من رحلة الإسراء والمعراج أن يرى صلى الله عليه وسلم ربه لعدها الله هنا، ولا مُلزم على الله، لكن نحن نقول هذه من القرائن، وإن كانت مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في رحلة المعراج مسألة اختلف العلماء فيها، لكن جمهورهم وأهل التحقيق منهم على أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في رحلة الإسراء والمعراج بعيني رأسه، وإنما رآه في رؤيا المنام رؤيا قلبية، والله أعلم بذلك، وقد سئل هل رأيت ربك؟ قال: (نور أنى أراه) أي بيني وبينه النور، وقد جاء في الحديث عن الله تبارك وتعالى (حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
المقصود هذا معنى قول الله لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
قول الله جل وعلا: إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] دلالة على فضل المسجد الأقصى وهو أحد الثلاثة مساجد التي أذن الشرع بأن تشد الرحال إليها: المسجد الحرام، ومسجده في المدينة صلوات الله وسلامه عليه، والمسجد الأقصى؛ وهذا المسجد بني بعد المسجد الحرام بأربعين عاماً كما ثبت ذلك عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، والصلاة فيه بمائتين وخمسين صلاة فيما عداه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام خرج على أصحابه كما في حديث أبي ذر وهم يتذاكرون المسجد الأقصى فقال صلوات الله وسلامه عليه: (ولنعم المصلى هو وصلاة في مسجدي هذا) أي المدينة (بأربع صلوات فيه) والصلاة في مسجد المدينة بألف فيما سواه، فمعنى هذا أن الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة قال الله جل وعلا عنه: الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] ولا ريب قطعاً أن أرض الشام أرض مباركة بنص القرآن والسنة، والله جل وعلا قال لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة:21] فسماها الله جل وعلا الأرض المقدسة، وموسى عليه السلام لما دنت منيته وهو في أرض التيه قبل أن يدخل بنو إسرائيل على يوشع بن نون وقبل أن يدخل الأرض المقدسة دعا الله جل وعلا أن يدني قبره ويجعله قريباً من الأرض المقدسة قيد شبر، أو أقل من ذلك أو أكثر، المهم أنه أراد أن يكون قريباً من الأرض المقدسة.
فهذا كله ذكرناه تعليقاً على قول الله جل وعلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] ودل قوله جل وعلا سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] على أنه صلى الله عليه وسلم أُسري به جسداً وروحاً، ولم يكن الإسراء والمعراج كما قال البعض: إنه رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا محال؛ لأنه لو كانت رؤيا في المنام لما كذبتها قريش، لكنها كانت رحلة بالروح والجسد، وهذا الذي تدل عليه كلمة عبد، كما أنها تدل على أن أرفع مقام المخلوقين مقام العبودية، ولذلك فإن الله جل وعلا في معرض ثنائه على نبينا صلى الله عليه وسلم هنا وإدراجه هذا النبأ العظيم قال جل شأنه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] ولم يقل بنبيه، ولم يقل برسوله، ولم يقل بحبيبه ولا بصفيه دلالة على أن كلمة العبودية هي أرفع المقامات؛ والإنسان إنما يعلو مقامه عند الله بعظيم عبوديته لربه تبارك وتعالى؛ وهذا أمر متفق عليه بين علماء المسلمين قال شوقي رحمه الله جملة:
يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء
بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء
تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء
أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنَّت بالفلا وجناء
واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء
صلوات الله وسلامه عليه.
هذا هو الموقف الأول في قول الله جل وعلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1].
الموقف الثاني مع قول الله جل وعلا: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:4-8].
هذه الآيات مما اضطرب فيها كلام المفسرين اضطراباً عظيماً، ولن تجد كتاب تفسير بين يديك يغنيك فيها غناء تاماً؛ ولذلك فإن ما أقوله لا يمثل وجهة نظري، فأنا سأنقل آراء الناس في هذه الآية، وكلمة الناس تعني العلماء والمؤرخين والفضلاء وأهل النظر، ولا تعني المفسرين فقط.
أقول: إن العلماء اضطربوا فيها؛ لأن الأقدمين من السلف لم يروا الواقع المعاصر. والناس لا تريد تفسير آيات في القرآن مثل هذه الآيات للواقع المعاصر الذي هو اليوم.
ومعنى هذه الآية عموماً أن الله أخبر أن لبني إسرائيل علوين: علو أول، ثم يُغلبون ويُهلكون، ثم تعود لهم الكرة ثم يُغلبون، ثم قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8] هذه واضحة المعنى من القرآن.
قوله: وَقَضَيْنَا أي أعلمنا وأخبرنا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا [الإسراء:4-5] أي الأولى منهما بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [الإسراء:5] هذا العلو الأول والهلاك الأول، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ تصبح الدائرة لبني إسرائيل وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ [الإسراء:6-7] أي المرة الثانية لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7] أي يهلكونكم، ثم قال عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء:8] وعسى من الله وعد، وقال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8] فوقع الإشكال في قوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8] هذا المفهوم العام.
ووجه الإشكال هو من هم المخاطبون في هذه الآية؟
نقول: أكثر علماء السلف على أن هاتين الواقعتين وقعتا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الهلاك الأول كان على يد بختنصر ملك بابل، ثم انتصروا على يد داود، ثم أهلكوا، ثم عادوا.
ويفسرون قول الله جل وعلا: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8] على أنهم عادوا للإفساد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا عاد عليهم بأن سلط عليهم رسوله وأصحابه من بعده فأجلوهم من جزيرة العرب.
ويصبح معنى قول الله عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء:8]: أن الله رحمهم وجعل منهم ملوكاً وأنبياء كما نص عليه في سورة المائدة، هذا القول ورد في أكثر الكتب القديمة من كتب السلف.
قال فريق آخر: إن الأولى حصلت على يد بختنصر لكن الثانية لم تحصل بعد، وهي المتوقع حدوثها في عصرنا هذا.
اليهود في إسرائيل الآن كما قال الله: أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6] والنفير غالباً يطلق على الإعلام، وهم اليوم أكثر إعلاماً ومعرفة في العالم؛ لسيطرتهم على كثير من الأجهزة والقوة الإعلامية في العالم، وأنه بقيت الثانية وستكون على أيدي المسلمين، هذان تأويلان.
وآخرون يقولون: إن الواقعتين كلاهما لم تحصل إلى الآن، ويقولون: إن جمعهم الآن في فلسطين هو الهلاك الأول؛ لأن الله قال: عِبَادًا لَنَا [الإسراء:5] وهذا لا يكون إلا للمسلمين؛ لأن بختنصر غير مسلم، فيغلبهم المسلمين ويجلوهم عن القدس لا عن فلسطين كلها، وإنما يضيّق عليهم في تل أبيب وما حولها، ثم إنهم ينصرهم العالم والقوى الدولية سواء قلنا أمريكا وبريطانيا ...... وقد يغير الله أمريكا وبريطانيا ويناصرهم آخرون، المهم أنهم سينصرون فيغلبون المؤمنين مرة ثانية ويجلونهم عن القدس، ثم يعود المسلمون فيجلونهم كرة أخرى عن نفس المسجد ليتحقق قول الله: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، لكن الذي يشكل عليه قول الله وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8] وقول الله: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء:8] وعسى في القرآن في حق الله واجبة، يعني أن الله راحم لا محالة.. إذا قال عسى أن يرحم، أو قال: عسى أن يعفو. وبهذا لم يتحقق قول الله: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء:8]. والأولون يقولون: إن كلا الأمرين قد وقعا في الزمن الغابر، وقول الله جل وعلا: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8] تحقق في العصر القديم والعصر الحاضر.. تحقق قديماً على يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنهم عادوا للإفساد مرة أخرى على قول الله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8] وأهلكوا على يد هتلر ، أما صلاح الدين فقد حارب النصارى والصليبيين، وليس له علاقة بالقضية لا من قريب ولا من بعيد؛ لأن الصليبيين الذين غزوا عام 492 تقريباً وسط القرن الخامس أهلكوا اليهود والمسلمين في القدس، ونحن نتكلم هنا عن اليهود، وصلاح الدين لم يجل اليهود. نحن نقول إن الله يقول: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8] أي إن عدتم للإفساد أعدنا عليكم التسليط، ولا يلزم من التسليط أن يكون هتلر مؤمناً؛ فإن هتلر أهلك اليهود هلاكاً عظيماً أهلكهم في ألمانيا، وطاردهم في فلسطين، وأرسل لـأمين الحسيني -وكان زعيماً مسلماً في أرض القدس- عن طريق ليبيا 30.000 قطعة سلاح، وجمّع العرب والمسلمين الذين كانوا في أوروبا، وأمر القواد الألمان أن يدربوهم على القتال، وكان يبعث بهم في السفن إلى فلسطين حتى يقاتلوا اليهود، وقد حرقهم وأهلكهم كما هو معروف.
لكن هتلر انكسرت شوكته في الحرب العالمية الثانية، فلما انكسرت شوكة هتلر بانتصار الحلفاء -بريطانيا وأمريكا- غزا اليهود أمريكا وبريطانيا إعلامياً، فعادت النصرة لليهود؛ لأن خصمهم هتلر غلبه الحلفاء وهزم كما هو معلوم في الحرب العالمية الثانية، وأصبح النفوذ عالمياً لأمريكا والحلفاء الذين خرجوا منتصرين، وهؤلاء كلهم عن بكرة أبيهم أيدوا وجود اليهود في أرض فلسطين، وإلا فاليهود لم يكونوا موجودين في أرض فلسطين، ودولة إسرائيل المعاصرة أعلن عن قيامها رسمياً عام 1948م، وبعد سنتين من إعلانها عام 1950م أعلن بنقريون وكان رئيس إسرائيل آن ذاك أن أي شخص يهودي يدخل فلسطين يُعطى الجنسية الإسرائيلية -لأن كلمة يهودي غير كلمة إسرائيلي- حتى يشجع الهجرة.. فقدم اليهود من كل أنحاء العالم حتى اليمن خرج منها أربعون ألف يهودي ودخلوا أرض فلسطين، وهذا مصداق لقول الله جل وعلا في الإسراء في آخر الآيات: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104] والله جل وعلا جاء بهم من كل جانب، فنحن نقول - والله تعالى أعلم-: إن الهلاك الأول كان على يد بختنصر ، والهلاك الثاني هو الذي سيحصل في هذا العصر، وهذا أقرب القولين والله أعلم، وإن كنت لا أجزم به لعدم الأدلة التي تؤيد ذلك، لكن هذا مختصر حالة اليهود في أرض فلسطين، وهم لم يكونوا محتلين لبيت المقدس ( للمسجد الأقصى ) وإنما احتلوه في حرب 1967م، ولم تكن مدينة القدس داخلة ضمن حدود تلك الدولة.
الذي يعنينا هنا أن هذا مجمل ما قاله العلماء في الآية، والحق لا يعلمه إلا الله، والأيام حبلى بكثير من الأحداث؛ وستقع أحداث كثيرة الله أعلم بها، لكن اليهود عموماً في غالب الظن عندهم علم بما سيكون بما أطلعهم الله جل وعلا عليه، واطلاعهم على الكتب القديمة يساعدهم على معرفة أشياء كثيرة.
فـكعب الأحبار كان يهودياً أسلم في عهد عمر ، ومشهور ذكره في التفسير. وقد لازم عبد الله بن الزبير فكان يخبره بكل شيء مما سيحدث. كما أخبره أنه سيصبح أمير المؤمنين! وسيملك الحجاز، إلى أن جيء يوماً بـالمختار الثقفي من أهل الطائف، وكان قد ادعى النبوة، وهو كذاب معروف، فقتله أحد جند عبد الله بن الزبير ، لعله مصعب بن الزبير أخو عبد الله ثم حُمل رأس المختار الثقفي إلى عبد الله بن الزبير فجيء به وهو يتغدى، ووضع رأس المختار بين يديه وهو خصمه، فقال عبد الله بن الزبير -وهذا يدل على علم اليهود-: كل ما أخبرني به كعب الأحبار رأيته بعيني إلا هذه، قال لي كعب : سيقتلني شاب من ثقيف ولا أراني إلا قتلته. ونسي عبد الله بن الزبير أن الله خبأ له في القدر الحجاج بن يوسف وهو ثقفي، فوقع الذي قاله كعب كما أخبر ولم يصدق ظن عبد الله بن الزبير ؛ لأنه لما رأى رأس المختار فرح فرحاً عظيماً -لأن هذا كان يخاف منه- وقال: كل ما أخبرني به كعب رأيته بعيني إلا أنه أخبرني أنه سيقتلني شاب من ثقيف ولا أراه إلا أخطأ فلا أراني إلا قتلته وهذا رأسه بين يدي، ثم بعد فترة جاء الحجاج بن يوسف وقتل عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى.
موضع الشاهد هنا: ما أعطيه اليهود من علم، ولكن هذا العلم ليس تصدراً للغيب وإنما أخبرهم الله جل وعلا به.
نعود فنقول: الله جل وعلا أعلم بما سيكون، لكن نسأل الله بعز جلاله وكمال جماله أن يرزقنا وإياكم الصلاة في المسجد الأقصى قبل الممات، ولا بد من السعي بكل وسيلة لذلك، فلنرب أنفسنا على تقوى الله وتهذيب من حولنا، وجمع كلمة المسلمين حتى يحقق الله للمسلمين ما يريدون.. هذه الوقفة حول قول الله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ [الإسراء:4] .
هذه الوقفتان التفصيليتان اللتان أخبرت عنهما، وبقي الوقفات العامة..
قال الله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31] .
هذه الآية من بلاغة القرآن اللفظية؛ لأن الله جل وعلا نهى فيها الوالد أن يقتل ولده، وقال: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31] والإملاق هو الفقر، أي: خوفاً من الفقر؛ فالإنسان الذي يخاف الفقر غير فقير لأنه يخاف من شيء غير موجود عنده، فلذلك قال الله: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31] فقدم الولد على الوالد، لكنه قال في سورة أخرى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151] أي: من فقر موجود، فلذلك قال بعدها: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151] فقدم رزق الوالد على رزق الولد؛ لأنه ذكر حالة الرجل الفقير، أما هنا فقد ذكر من يخاف الفقر، فقال جل شأنه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31] وقتل الوالد لولده من كبائر الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وقد خلقك) قيل: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) قيل: ثم أي؟ قال: (أن تزني بحليلة جارك) فهذه أعظم ثلاثة ذنوب يُعصى الله جل وعلا بها.
قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31].
قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33] هذه الآية نظر فيها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فاستنبط منها أن معاوية سيحكم؛ لأنه رضي الله عنه وأرضاه لما قُتل عثمان اتفق المسلمون على أن عثمان قتل ظلماً، فجاء معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وكان والياً على الشام يطالب علياً بقتلة عثمان وعلي يقول: القضية الآن ليست قضية قتلة عثمان ، القضية أن تُقر لي بالخلافة، وبعد ذلك نتكلم عن قتلة عثمان ، ومعاوية يقول: لا أقر لك بالخلافة ولا أدخل في الطاعة حتى تسلمني قتلة عثمان ؛ لأن معاوية يجتمع مع عثمان في جده أمية، فجاء ابن عباس ترجمان القرآن لـعلي ، وقال له: اخرج من هذه الأمر، يعني: لا توافق على الخلاف واذهب إلى مالك في ينبع، فإنك لو دخلت في جحر ضب لطلبتك العرب؛ فإن العرب ستدور دورتها ثم ترجع إليك وتسلمك الخلافة.. لكن بقدر الله عصى علي ابن عباس ولم يأخذ برأيه، ليمضي قدر الله، فلما رفض علي قال ابن عباس : إذاً أقسم بالله ليملكن معاوية ، قال الله جل وعلا: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ومعاوية ولي لـعثمان .
فتحقق نفس الذي قاله ابن عباس ، وحكم معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فكان ابن عباس بعد موت علي واجتماع الكلمة على معاوية يقول للناس: إنني أحدثكم بأمر ليس بأمر سر ولا علانية، فيقول لهم: إنني نصحت علياً لكن علياً لم ينتصح ولم يقبل، وأصر على أن يدخل معاوية في الطاعة ومعاوية أصر على أن يُسلم دم عثمان ، ووقع ما وقع بينهم رضي الله عنهم أجمعين، ثم قال هذه الكلمة المشهورة، وهذه الفريدة في العلم يذكرها المفسرون -أكثرهم إن لم يكن كلهم- كمنقبة لـابن عباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه؛ وفهم القرآن شيء من الله، ولذلك فإن علياً هو نفسه رضي الله عنه وأرضاه من آل البيت وابن عم رسول الله، وزوج ابنته لم يؤت ما أوتيه ابن عباس . لكن الشيعة الآن.. أهل الضلالة يقولون: إن الله استأثر آل البيت ببعض العلم، وهذا باطل، والصحابة سألوا علياً قالوا: هل اختصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم دون الناس؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه -وهو صادق-: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ثم قال: إلا فهماً يعطيه الله جل وعلا من يشاء في كتابه، وهذه ليس فيها قيد، ولذلك ترى بعض المفسرين يجلس وينطق بتفسير آيات ما لو بحثت عنها في الكتب لن تجدها، وهذا فضل الله يُعطيه من يشاء.
من أعظم من منَّ الله عليه في تفسير القرآن الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى، وبعض الناس يأخذ عن الشعراوي ملاحظات، والحقيقة أنه لا يوجد أحد ما عليه ملاحظة، وإن أصاب في أشياء أخطأ في أشياء، كل الناس عندهم إصابات وأخطاء، ونحن لا نتكلم في عقيدة إنسان ميت أو في عقيدة إنسان موجود أو غائب إنما أتكلم عن علم، إن الرجل إذا فسّر القرآن يُفسِّره بأشياء عجيبة.
وأنا أذكر موقفاً حصل لي في الحج: كنت في خيمة فيها بعض العلماء الفضلاء فسألني أحدهم عن المفسرين، قال: أنت تفسّر القرآن في مسجدك وفي الحج وفي كل مكان.. من رأيت من المفسرين؟ قلت، هذا دين أنا لا أجامل أحداً ولا أخشى أحداً؛ قلت: ممن من الله عليهم بتفسير القرآن: الشعراوي ، فتغيرت ملامحهم.. يعني ما هم راضون، فقلت: يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم لي إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ما تفسير هذا الكلام؟ قال: إلا الصوم فهو عبادة ما فيها رياء وإخلاص، قلت: ما فيه عبادة يدخلها الرياء غير الصوم؛ لأن الإنسان إذا صام كل الناس تعرف أنه صام، ثم قلت له: أتدري ما قال الشعراوي فيها؟ قال: ماذا قال؟ قلت قال الشعراوي : إن الله خص الصوم لأنه عبادة لم يُعبد غير الله بها، ومعنى هذا أن الصلاة مثلاً قائمة على السجود والركوع، وكم من ملوك وطواغيت عبر التاريخ سُجد ورُكِع لهم تعظيماً من دون الله.
والزكاة أخذ مال، وكم من ملوك وسلاطين يُجبى لهم المال.
والحج قائم على الطواف، والله يقول: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] وكم من قبور وأضرحة وملوك يُحملون ويُطاف حولهم، لكن يستحيل أن يصوم أحد لأحد، فالمُصام له لا بد أن يراقب الصائم ويمشي خلفه حتى لا يأكل ولا يشرب، ولا يمكن لملك أن يفعل هذا. فلم يُصم إلا لله، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
ومن أدب هذا الرجل الفاضل أن أخرج ورقة وكتبها، وقال: هذه والله فريدة من فرائد العلم.
الحكمة ضالة المؤمن فخذها من أي أحد، فإن قال أحد حقاً فخذه، وإن قال أحد باطلاً حتى لو كنت تحبه ما ترك قوله. فيجب أن نربي الناس على الحق.
ينبغي أن يعلم طالب العلم أن الكلام عن الله جل وعلا ليس بالأمر السهل، فـابن القيم له كتاب مشهور اسمه إعلام الموقعين عن رب العلمين، فالفتوى الشرعية أمرها عظيم. وسأذكر قصة حدثت في العصر الجاهلي، علق عليها الإمام الأوزاعي رحمة الله عليه تعليقاً عظيماً، هذه القصة تقول: كان هناك رجل في الجاهلية قبل الإسلام يقال له: عامر بن الظرب العدواني ، كان هذا الرجل كامل العقل مسموع الكلمة مطاع حكيم، فالعرب إذا اختلفت يأتون إليه؛ فجاءه مرة ستة أو سبعة رجال وسألوه عن قضية في المواريث، وهي أنهم ابتلوا بشاب خُنثى له آلتان: آلة رجل وآلة امرأة، قالوا: أنت حكيم العرب والناس تأتيك فهل نعامل هذا على أنه رجل فنعطيه الميراث، أو أنثى فلا نعطيه ميراثاً؟ على عادة الجاهليين آن ذاك، فقال: والله! ما مرت بي مسألة مثلها، فأخذ يتفكر، وأدخلهم داره فجلسوا في بيته أربعين يوماً، وكان عنده جارية راعية اسمها سخيلة قد ضاق عامر منها، فقد كانت ترعى الغنم ولا تعود إلا متأخرة وهو يريد أن يحلبها فيتأخر عليه اللبن، فكل يوم يعاقبها ويعاتبها، فجاءته وهو متحير فقالت: ماذا بك؟ فضربها وزجرها وقال: ليس هذا إليك. فظل أياماً على تلك الحالة، ثم قالت له الجارية: هؤلاء الضيوف أكلوا الغنم وكل يوم وأنت تذبح لهم، فكأنه رق لها وقال: أنا أقول لك القصة، وأخبرها بالقصة، فقالت: أتبع الحكم المبال، يعني: إذا كان يبول من آلة الرجل فعامله على أنه رجل، وإذا كان يبول من آلة الأنثى فعامله على أنه أنثى، فضع حكمك على بوله وتنتهي القضية. فصار يمشي في الدار ويقول بيتاً من الشعر آخره:
فرج الله عنك يا سخيلة !
وفي معناه أنه لن يعاتبها بعد اليوم.
ودخل على ضيوفه وأخبرهم الخبر، وهذا الحكم الشرعي أثبته الإسلام اليوم، فالخنثى الذي له آلتان يتبع الحكم فيه على مباله، إن كان يبول من آلة الرجل يُعامل على أنه رجل، وإن كان يبول من آلة الأنثى يحكم له بأنه أنثى في الميراث، والذي قال هذا امرأة يقال لها: سخيلة .
والشاهد في هذه القصة قول الأوزاعي رحمه الله: فهذا رجل مشرك لا يخاف الله ولا يرجو الجنة ولا يخاف ناراً يتوقف في حكم أربعين صباحاً يخاف أن يقول خطأ، فكيف بمن يتكلم على لسان الله ولسان رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولهذا من أعظم ما يدل على قوة طالب العلم الحقيقي أن يتريث في الفتوى وأن لا يستعجل، وأن لا يتصدر قبل أوانه، وأن لا يحكم حتى يتبين له الأمر. والله يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]. قال بعض العلماء تعليقاً على هذه القصة: إن الإنسان قد يكون ذا عقل فيخفى عليه شيء، وقد يأتي إنسان ليس له حظ من عقل ولا داع من تجربة فيوفق في أمر. والتوفيق والهداية بيد الرب تبارك وتعالى..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر