إسلام ويب

سلسلة تأملات قرآنية تأملات في سورة الإسراء [1]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما تحدث الله عنه في سورة الإسراء: ما سيئول إليه أمر بني إسرائيل وهو أنهم إن عادوا إلى الإفساد والطغيان فإن الله سيهلكهم وينكل بهم. كما تحدث سبحانه في هذه السورة عن حرمة قتل الأولاد خشية الفقر، وأخبر أن قتل النفس التي حرم الله من كبائر الذنوب، كما تحدث سبحانه عن حرمة القول على الله بغير علم، وأنه لا يجوز للإنسان أن يخوض فيما لا يعلم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    هذه تأملات في سورة الإسراء، وهي سورة مكية إلا ثلاث أو أربع آيات سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى في موضعه، وهذه السورة صدّرها الله جل وعلا واستهلها بقوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].

    وسنقف في هذه السورة مع بعض آياتها تفصيلاً، ونعرِّج على بعض الآيات إجمالاً كفرائد علمية ومعرفية ما بين الآية والآية كما هو المنهج في العادة.

    فنقول حول الآية الأولى من هذه السورة ما يلي:

    التأملات اللغوية

    أولاً: الوقفات أو التأملات اللغوية في قول الله جل وعلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].

    كلمة سبحان تعرب عند النحويين على الأظهر عند جمهورهم على أنها مفعول مطلق لفعل محذوف، وهي في حق الله جل وعلا ملازمة للإضافة؛ فإما أن تضاف إلى الاسم الظاهر فتقول سبحان الله.. سبحان ربي، أو تضاف إلى الضمير فتقول: سبحانه أو سبحانك، على أن هذا اللفظ -أي كلمة سبحانك- معناه تنزيه الرب جل وعلا عن ما لا يليق به؛ وعلى هذا فلا تقال هذه الكلمة إلا مع الرب جل وعلا، أي لا يقال لأحد من الخلق كائناً من كان سبحانك، فلا يقال: سبحان إلا مضافة إلى رب العزة جل جلاله، ولا يقال لأحد من الخلق كائناً من كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، حتى للنبي صلى الله عليه وسلم لا يقال: سبحان الرسول! وإنما تضاف فقط للرب جل وعلا، تقول: سبحان الله.. سبحان ربي، أو أن تتكلم عن الله فتقول: سبحانه، أو أن تناجي ربك فتقول: سبحانك.

    الأمر الأول لغوياً.

    الأمر الثاني: قال الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1].

    جاءت هنا كلمة ليلاً كما هو ظاهر منكَّرة، واختلف العلماء في الغرض البلاغي من كونها منكَّرة، قال بعضهم: المراد بها هنا التقليل، ووجه البلاغة أنهم كانوا يسيرون من مكة إلى بيت المقدس في أربعين ليلة، والتقليل هنا أن الله جل وعلا أسرى بنبيه بجزء قليل من الليل من مكة إلى بيت المقدس، ثم إلى سدرة المنتهى ثم إلى بيت المقدس، ثم إلى مكة في جزء قليل من الليل على هذا قال بعضهم: هذا المراد من تنكير كلمة ليل.

    وقال آخرون: إن المراد من التنكير التعظيم، ويصبح المعنى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1] أي في ليل وأي ليل دنى فيه نبينا صلى الله عليه وسلم من ربه وناجاه فيه، وكلمه ربه وقرّبه وأدناه صلوات الله وسلامه عليه.

    ونقول والله أعلم: لا مانع من الأخذ بكلا الأمرين، ومن قواعد التفسير: إذا كان للآية معنيان لا تعارض بينهما يجوز حمل الآية على المعنيين، إذا الآية هنا احتملت معنيين لا تعارض بينهما كما هو ظاهر.

    تأملات في معنى قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده...)

    إن الله تبارك وتعالى اعتنى بنبيه صلى الله عليه وسلم أعظم عناية، يقول عليه الصلاة والسلام: (إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته) ومن عناية الله بنبيه أن الله جل وعلا ما زال ينقله في أصلاب الرجال وأرحام النساء في نكاح غير سفاح حتى اختاره من خير الناس فبُعث صلى الله عليه وسلم من أعزِّ قبيل: وهم بنو هاشم آله صلوات الله وسلامه عليه، واصطفاه على بني هاشم، ثم ما زال الله يعتني به قبل أن ينبأ كما هو معلوم في السيرة، ثم نبئ صلوات الله وسلامه عليه بإقرأ وأرسل بالمدثر، فما زال الله يحيطه بعنايته وكمال حفظه حتى فقد عليه الصلاة والسلام النصير الداخلي والخارجي: فقد النصير الداخلي من الخلق وهي زوجته خديجة ، والنصير الخارجي وهو عمه أبو طالب ، ثم توجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعو أهلها فرده أهل الطائف، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة.

    والمقصود أنه لما نزل صلى الله عليه وسلم مكة وهو في هذا الوضع من صدود أكثر الناس عنه إلا قلة من أصحابه تولاه الله جل وعلا فكانت رحلة الإسراء والمعراج.

    فمن جملة عناية الله جل وعلا به أن أسرى الله جل وعلا به في برهة من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذه الرحلة في الملكوتين العلوي والسفلي كانت رحلة عظيمة له صلى الله عليه وسلم، ومن خصائصه التي منّ الله جل وعلا بها عليه أن هذه الرحلة وقعت ليلاً، وفي هذا دلالة على شرف الليل، فالليل أفضل من النهار من حيث الإجمال؛ لأن الله أسرى بنبيه ليلاً، ونجَّى لوطاً وبنتيه ليلاً، قال تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [القمر:34]، وأسرى بموسى وقومه من الصالحين ليلاً، قال تعالى: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الدخان:23]، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلوات أي النوافل فقال: (وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر) ثم تلا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17] الشاهد من هذا أن الليل أفضل وأشرف من النهار، على أن لله أعمالاً في الليل لا يقبلها في النهار، وأعمالاً في النهار لا يقبلها جل وعلا في الليل.

    الفائدة الثانية: أن الله تبارك وتعالى أمر جبريل عليه السلام بغسل قلب النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم قبل رحلة الإسراء المعراج، وهذا الغسل ليس غسلاً معنوياً فقط وإنما غسل حسي، فقد شق صدره صلى الله عليه وسلم وأخرج قلبه ووضع في طست ( في إناء ) وهذا الإناء فيه ماء زمزم فغسل قلبه صلى الله عليه وسلم بماء زمزم ثم أعيد إلى مكانه، ولا ريب أن هذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم وإن رده العقل، لكن يثبته النقل، والنقل الصحيح مقدم على العقل.. فالعقل تبع للنقل وليس حاكماً عليه، فنقول: آمنا بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله؛ والمقصود أننا نثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل قلبه بماء زمزم غسلاً حسياً، وهذا يدلنا على فائدة أخرى وهي قضية فضل ماء زمزم، فنقول: إن هذا الماء ماء مبارك، والنبي صلى الله عليه وسلم نقل عنه أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) وقد صحح فريق من المحدثين هذا الحديث أو حسنوه، وعمل الفضلاء من العلماء يدل على صحته وعلى الأخذ به، وقد روي أن الإمام العالم المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى لما حج وأتى البيت ذكر الحديث المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في ماء زمزم فقال: اللهم إن فلان حدثني وساق السند أن نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: (ماء زمزم لما شرب له) وأنا أشربه لعطش يوم القيامة.

    وبعض الفضلاء من العلماء يقول: إن السنة في شرب ماء زمزم أن يشرب وهو واقف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم في حجة الوداع وهو واقف، كما في حديث علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وبعضهم يقول: إنه شرب واقفاً للضرورة حتى لا يزدحم عليه الناس، وهذه مسألة خلافية.

    الذي يعنينا أن ماء زمزم لما شرب له، والشافعي رحمه الله -الإمام المعروف الفقيه- كان في أول حياته يحب الرمي بالسهام، فجاء إلى زمزم وهو شاب فقال: اللهم إني أشرب ماء زمزم للرمي، فهو يحدث رحمه يقول: كنت أرمي العشرة أسهم فإما أن أصيب تسعة من عشرة أو أصيب عشرة من عشرة، يعني إذا رميت العشرة أسهم تصيب كلها أو يصيب تسع منها؛ وهذا كله ببركة ماء زمزم.

    والإمام الخطيب البغدادي رحمة الله تعالى عليه صاحب كتاب تاريخ بغداد المحدث المعروف شرب من ماء زمزم وقال: اللهم إنني أشربه لثلاث: أشربه لأن أملي تاريخ بغداد بها، وأشربه أن أحدث.. يعني يكتب لي درس في جامع المنصور، وأشربه لأن أقبر بجوار بشر الحافي . قال العلماء: فحقق الله جل وعلا له أي للخطيب هذه الثلاث كلها، فأملى كتابه تاريخ بغداد في بغداد، وأصبح يحدث في جامع المنصور، ثم إنه مات وقبر بجوار بشر الحافي رحمة الله تعالى عليهما جميعاً.

    والمقصود من هذا كله بيان فضل ماء زمزم، وقد دلت عليه الكتاب والسنة كما هو معلوم من عموم القرآن في قوله جل وعلا: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97].

    ومما يتعلق بالإسراء والمعراج أن قُدِّم له صلى الله عليه وسلم دابة وهي البراق، ينتهي حافره حيث ينتهي بصره، فركبه صلى الله عليه وسلم وأسري به إلى المسجد الأقصى، وفي المسجد الأقصى صلى صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماماً، وهذا من أعظم الأدلة على علو شرفه وكبير مقامه وفضله وتقدمه صلوات الله وسلامه عليه، ووجه الدلالة هنا أن بيت المقدس وأرض الشام هي أرض الأنبياء من بعد إبراهيم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، فأكثر الأنبياء كانوا في أرض الشام عليهم السلام جميعاً، ومع ذلك هي أرضهم وديارهم ومنازلهم التي ولدوا فيها وهذا مسجدهم ومع ذلك صلى بهم صلى الله عليه وسلم إماماً في موطنهم، فجاءهم في مكانهم وأمرهم الله أن يقتدوا به صلوات الله وسلامه عليه؛ وهذا يدل على رفيع مقامه، وبالتالي على رفيع مقام أمته؛ لأنه وإن كانت أمته آخر الأمم عصراً إلا أنها أفضل الأمم؛ لأنها أمته صلوات الله وسلامه عليه، فهو حضنا من النبيين ونحن حضه من الأمم، ورحم الله من قال:

    ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

    دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبياً

    ربط صلى الله عليه وسلم البراق في مربط موجود في المسجد الأقصى يربط فيه الأنبياء دوابهم، ودخل يصلي بالأنبياء، وهذا من أعظم الأدلة على أن الإنسان يأخذ بالأسباب؛ فهذا نبي الله محفوظ بحفظ الله له، ومعه أعظم الملائكة جبريل، ومعه دابة تأتمر بأمره ومع ذلك ربطها خوفاً من أن تنطلق، وهي لن تنطلق لكن حتى يأخذ الإنسان بالأسباب، ومع ذلك يتوكل على الملك الغلاب، وقد جاء في الآثار أن أبا سفيان بن حرب الزعيم القرشي الذي أسلم بعد ذلك كان بتجارة له في الشام فسأله هرقل عظيم الروم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يتحاشى في جوابه خوفاً أن يجرّب عليه الكذب، وهو في نفس الوقت يريد أن ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل ، فبينما هما يتبادلان الحديث وهرقل يسأله.. فقال أبو سفيان لـهرقل : إنه مما يدل على كذبه أنه حدثنا -أي النبي- أنه رحل من مكة إلى مسجد إيليا -أي المسجد الأقصى- إلى مسجدكم -يخاطب هرقل - في برهة من الليل وعاد في نفس اليوم، هو قالها يريد من هرقل أن يكذّبه فكان بطريق هرقل -رجل الدين عنده- واقفاً عند رأسه، فقال البطريق: والله إني لأعلم أي ليلة تلك الليلة فالتفت له هرقل وقال له: وما يدريك؟ فقال البطريق: إنني كنت كل ليلة أقفل أبواب المسجد حتى كانت تلك الليلة فلما أقفلت الأبواب بقي عليَّ باب، كلما حاولت أن أقفله لا يقفل فاستعنت بعُّمالي فلم يستطيعوا، فأرسلت إلى أهل الصناعة، أي إلى النجارين فقالوا لي: إن هذا الباب سقط عليه شيء فاترك الأمر إلى الصباح فإذا جاء الصباح أصلحناه، فوافقت يقول: فلما جئت في الصباح وجدت أثر مربط الدابة في المربط الذي يربط فيه الأنبياء دوابهم.

    موضع الشاهد: انظر إلى عناية الله جل وعلا بنبيه صلى الله عليه وسلم، إن الله قادر على أن يقفل هذه الأبواب وجبريل يفتحها فيدخل صلى الله عليه وسلم، لكن الله جل وعلا يجري الكرامة لنبيه على سنن الخلق المعروفة؛ لأنه لو أقفلت الأبواب ودخل صلى الله عليه وسلم وصلى ورجع وأقفل الأبواب لما درى أحد، لكن الله جل وعلا يعتني بنيه حتى في أواسط ما يتناقله الناس عن سيرته صلى الله عليه وسلم، ومن هنا ينبغي أن يعلم أن الذي يريد أن يحقق غاية أياً كانت عظمت أو قلت لن يحققها إلا بالله جل وعلا.. فعلى هذا من أعظم أسباب تحقيق الأمان والغايات: التوكل الصادق على ربنا جل جلاله، والله جل وعلا يقول: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ [القصص:61] والله تبارك وتعالى منجز وعده لا محالة لمن وعدهم من عباده، وأعظم ما وعد الله به عباده الجنة، لكن المقصود أن الغايات والأماني والمطالب تتحقق إذا صدق العبد في توكله على ربه جل وعلا. والشافعي رحمه الله يقول: أهمني أمر ذات يوم فنمت فسمعت مناد في المنام يناديني: أن ادع الله بهذه الكلمات: اللهم إني لا أملك لنفسي حولاً ولا طولاً، اللهم إني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً، وإنني لن أستطيع أن أأخذ إلا ما أعطيتني، ولن أتقي إلا ما وقيتني، فوفقني لما تحب وترضى من القول والعمل في عافية.. فيقول رحمه الله: فقمت من النوم فدعوت بها فحقق الله غايتي وأذهب الله جل وعلا همي؛ والمقصود من هذا الأمر عناية الله بنبيه وأن الغايات إنما يطلب تحقيقها من رب الأرض والسماوات.

    فهذا الذي قاله بطريق هرقل جواباً ودفاعاً عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

    وصلى بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، وقد بينا أن في هذا فضله وتقديمه عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء.

    قال الله جل وعلا في الآية: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] واللام جيء بها للتعريف، فقول الله جل وعلا: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] من أعظم الأدلة والقرائن على أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في رحلة الإسراء والمعراج؛ لأن الآية في مقام الامتنان، ولا ريب لكل ذي عقل أن رؤية الله جل شأنه أعظم من رؤية آياته، فلو كانت الغاية من رحلة الإسراء والمعراج أن يرى صلى الله عليه وسلم ربه لعدها الله هنا، ولا مُلزم على الله، لكن نحن نقول هذه من القرائن، وإن كانت مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في رحلة المعراج مسألة اختلف العلماء فيها، لكن جمهورهم وأهل التحقيق منهم على أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في رحلة الإسراء والمعراج بعيني رأسه، وإنما رآه في رؤيا المنام رؤيا قلبية، والله أعلم بذلك، وقد سئل هل رأيت ربك؟ قال: (نور أنى أراه) أي بيني وبينه النور، وقد جاء في الحديث عن الله تبارك وتعالى (حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

    المقصود هذا معنى قول الله لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].

    قول الله جل وعلا: إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] دلالة على فضل المسجد الأقصى وهو أحد الثلاثة مساجد التي أذن الشرع بأن تشد الرحال إليها: المسجد الحرام، ومسجده في المدينة صلوات الله وسلامه عليه، والمسجد الأقصى؛ وهذا المسجد بني بعد المسجد الحرام بأربعين عاماً كما ثبت ذلك عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، والصلاة فيه بمائتين وخمسين صلاة فيما عداه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام خرج على أصحابه كما في حديث أبي ذر وهم يتذاكرون المسجد الأقصى فقال صلوات الله وسلامه عليه: (ولنعم المصلى هو وصلاة في مسجدي هذا) أي المدينة (بأربع صلوات فيه) والصلاة في مسجد المدينة بألف فيما سواه، فمعنى هذا أن الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة قال الله جل وعلا عنه: الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] ولا ريب قطعاً أن أرض الشام أرض مباركة بنص القرآن والسنة، والله جل وعلا قال لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة:21] فسماها الله جل وعلا الأرض المقدسة، وموسى عليه السلام لما دنت منيته وهو في أرض التيه قبل أن يدخل بنو إسرائيل على يوشع بن نون وقبل أن يدخل الأرض المقدسة دعا الله جل وعلا أن يدني قبره ويجعله قريباً من الأرض المقدسة قيد شبر، أو أقل من ذلك أو أكثر، المهم أنه أراد أن يكون قريباً من الأرض المقدسة.

    فهذا كله ذكرناه تعليقاً على قول الله جل وعلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] ودل قوله جل وعلا سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] على أنه صلى الله عليه وسلم أُسري به جسداً وروحاً، ولم يكن الإسراء والمعراج كما قال البعض: إنه رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا محال؛ لأنه لو كانت رؤيا في المنام لما كذبتها قريش، لكنها كانت رحلة بالروح والجسد، وهذا الذي تدل عليه كلمة عبد، كما أنها تدل على أن أرفع مقام المخلوقين مقام العبودية، ولذلك فإن الله جل وعلا في معرض ثنائه على نبينا صلى الله عليه وسلم هنا وإدراجه هذا النبأ العظيم قال جل شأنه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] ولم يقل بنبيه، ولم يقل برسوله، ولم يقل بحبيبه ولا بصفيه دلالة على أن كلمة العبودية هي أرفع المقامات؛ والإنسان إنما يعلو مقامه عند الله بعظيم عبوديته لربه تبارك وتعالى؛ وهذا أمر متفق عليه بين علماء المسلمين قال شوقي رحمه الله جملة:

    يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء

    يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء

    بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء

    تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء

    أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء

    المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء

    صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنَّت بالفلا وجناء

    واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء

    صلوات الله وسلامه عليه.

    هذا هو الموقف الأول في قول الله جل وعلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089181466

    عدد مرات الحفظ

    782507080