إسلام ويب

الحياء من الإيمانللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذا الدرس شرح لحديث: (الحياء من الإيمان) وفيه تعرض الشيخ لكثير من المسائل والأحكام المتعلقة بالحياء، تعريفه، أنواعه، ... ثم تطرق للحديث عن بعض مسائل الإيمان، فذكر أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان وأن الشهادتين مجردة عن الأعمال لا تعصم الدم عند أهل السنة والجماعة خلافاً للأشاعرة وغيرهم، وأن الأحكام للظاهر، والسرائر إلى الله تعالى, وفيه عدم تكفير أهل البدع إلا ما استثني كغلاة الرافضة، وتقديم النفع المتعدي على القاصر, وأن اختلاف إجاباته صلى الله عليه وسلم إنما هو بحسب الأحوال والمخاطبين.
    إن الحمد لله، نحمده ونستيعنه ونستغفرهونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب الحياء من الإيمان.

    حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك بن أنس عن ابن شهاب , عن سالم بن عبد الله , عن أبيه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإن الحياء من الإيمان).

    هذا الحديث، وأحاديث أخرى معه هي موضوع درسنا إن شاء الله.

    ترجمة لرجال السند

    أما رجال هذا السند, فقد مروا معنا, عبد الله بن يوسف هو التنيسي من مصر، وهو من أعظم شيوخ الإمام البخاري.

    ومالك بن أنس يكفي أنه نجم هذا العلم وشمسه.

    ومالك حيث أفتى في مدينته     فلست أرضى بفتوى غير فتواه

    يكفي أنه كالنار على العلم فلا يُعرّف.

    وأما ابن الشهاب فهو الزهري , واسمه: محمد بن شهاب الزهري من بني زهرة.

    وسالم بن عبد الله هو ابن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعاً، وسالم هو من علماء التابعين, ومن فقهاء المدينة السبعة، وكان ابن عمر يقبله وفي رأسه الشيب، ويقول: انظروا إلى شيخ يقبل شيخاً، ولذلك كان سالم إذا فارقه لا يستطيع أن يصبر، بل كان يبكي حتى يعود، ويقول ابن عمر:

    يلومونني في سالم وألومهم     وجلدة بين العين والأنف سالم

    [[دخل سالم البيت الحرام يطوف به معتمراً، فلقيه الخليفة هشام بن عبد الملك، فسلَّم عليه، وقال: يا سالم! ألك حاجة إلي؟ أعليك دين أقضيه؟ وهشام بن عبد الملك كان خليفة المسلمين آنذاك، فقال سالم -وقد احمر وجهه غضباناً-: "أما تستحي تقول لي هذا الكلام في بيت الله" أي: أنه لا يُسأل في هذا المكان إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    فلما خرج هشام بن عبد الملك ومعه موكبه من الحرم تعرض لـسالم، فلمَّا خرج سالم، وحِذَاؤه بشماله؛ قال هشام بن عبد الملك: إنني عرضت عليك قبل فاعتذرت، وأريد أن تخبرني بحاجتك.

    قال سالم: أمن حوائج الدنيا، أو من حوائج الآخرة؟

    قال هشام: وهل أملك أنا حوائج الآخرة؟!

    فقال سالم: "والله ما سألت الدنيا ممن يملكها -وهو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- فكيف أسألها منك أنت؟!]] فكان رضي الله عنه وأرضاه من أزهد الناس، وكان من أجمل الناس، حتى إن هشام بن عبد الملك لما زار المدينة جلس معه سالم، فنظر إليه، فقال: يا سالم! أتأكل اللحم؟

    قال: إن اشتهيته أكلت قليلاً فأصابه بالعين، فمرض؛ فمات؛ فقال أهل المدينة: لا رحم الله هشاماً؛ أخذ جيشنا وأرسله في بلاد الروم حتى قتله عن آخره، وقتل عالمنا بعينه، وهذه أوردها الذهبي وغيره من أهل العلم.

    يقول: عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار، وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال: {دعه، فإن الحياء من الإيمان}.

    مجمل معنى الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل يؤنب أخاه، ويقول: قد أضر بك الحياء، وقد استحييت حتى تركت حقوقك، وتركت ما ينبغي لك، وقد بالغت في الحياء، هذا معنى الحديث.

    وقد يفهم على أنه يقول له: استحي، أو استحي من الله عز وجل.

    وهذا فهم مقلوب، بل الفهم الذي صرح به أهل العلم أنه يقول له: إنك أصبحت تستحي حتى أضر بك الحياء، فما هذا الحياء؟! فيقول صلى الله عليه وسلم ينكر على الناصح الذي يوصي أخاه: {دعه -أي: لا تنصحه- فإن الحياء من الإيمان}.

    أتى الإمام البخاري رحمه الله بهذا الحديث ليدلل على أن أعمال القلوب تدخل في مسمَّى الإيمان، وهو لا يزال يشن حرباً ضروساً على المرجئة من أول الكتاب, فمرة يتجه إلى الخوارج فيرد عليهم، ومرة إلى المرجئة، ومرة إلى الكرامية، فهو بهذه الفصول والأبواب المتأخرة يرد على المرجئة.

    والقضية التي نتكلم عليها هنا هي: ما هو الحياء المطلوب؟ وما هو الحياء المحمود؟ وهل كل حياء يحبه الله عز وجل؟ وهل هناك حياء مذموم لا يحبه الله عز وجل ولا رسوله؟

    أنواع الحياء في الإسلام

    الحياء في الإسلام قسمان: قسم ممدوح، وقسم مذموم.

    فأما الممدوح فهو: ما حملك على الجميل من الأقوال, والأفعال, والأعمال, والأحوال، وكذلك ما ردك عن المنكر، وعن كل ما يدنس المروءة، فهو من الحياء الممدوح؛ لأن المسلمين في الإسلام على ثلاث طبقات:

    1- أناس يحافظون على الفرائض ويستحيون من الله ثم من الناس أن يخلوا بالفرائض، وبعض الناس يحملهم إيمانهم وحياؤهم على ألا يخلوا بالفريضة حياءً من الله عز وجل.

    2- وبعضهم يستحي من الله ثم من الناس أن يخل بالسنن كالنوافل والسنن الرواتب، وغيرها من السنن الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وبعض الناس يرتقي به الإيمان إلى أن يستحي من الله عز وجل فيحافظ على السنن والنوافل.

    3- ثم من الناس بعد أداء الفرائض والنوافل من يحافظ على آداب المروءة؛ فلا تراه يأكل واقفاً في السوق، ولا يمازح في السوق، ولا يأكل وهو يمشي، ولا يرفع صوته، ولا يمدح بمدح لا يليق بالمسلم، فهذا حياء محمود, وإن كان ليس بواجب عليه.

    أما الحياء المذموم: فإنه ما رد صاحبه عن الخير.

    يقول مجاهد رحمه الله: [[لا يطلب العلم مستحٍ ولا مستكبر]] فالحياء إذا منعك من طلب العلم، فهذا مذموم وباطل، وقد يأثم به الإنسان.

    والحياء إذا منعك من حضور مجالس الذكر فهو مذموم؛ لأن بعض الناس يقول: كيف أنا أتواضع وأذهب وألبس بشتي، ثم آتي إلى المجالس؛ وأجلس من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وأدخل مع الناس.

    ذكر الذهبي أن بعض الناس يقول: أنا لا أصلي مع الجماعة في المسجد؛ لأنه سوف يصلي معك الزبالون والبائعون..؛ وأنا مروءتي تمنع ذلك، قال الذهبي معلقاً عليه: "لعنها الله من مروءة!!"

    نعم, إن كانت مروءة تحمل صاحبها إلى أن يترك الأعمال الصالحة والسنن ومجالس الذكر فهذه مروءة ملعونة؛ لأن المروءة كل المروءة في أن تتواضع، وتجلس في حلق الذكر، وتأتي إلى من هو أقل منك علماً وفهماً وديناً واستقامةً فتستفيد منه.

    [[ كان علي بن الحسين (زين العابدين) رضي الله عنه وأرضاه يأتي إلى زيد بن أسلم -وهو مولى- فيجلس بين يديه، فقال له التابعون: يا علي! كيف تجلس لهذا المولى وأنت سيد من السادات؟

    قال: السيد من اتقى الله، وإنما يجلس الإنسان إلى من يستفيد منه، أو يفيده علماً]].

    ومن الحياء المذموم ما منعك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا باطل ويأثم عليه العبد؛ لأنه ليس مقبولاً عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    تعريف الحياء

    تعريفات الحياء عند أهل السنة والجماعة كثيرة أبسط بعضها، وبعضها أتركه اختصاراً.

    قيل: الحياء هو أن تذكر الآلاء والانكسار من عدم القيام بالحق.

    تذكر الآلاء: أي: أن تتذكر النعم التي أنعم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بها عليك؛ فتنكسر وتخجل وتستحي أن تعصي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, هذا من الحياء.

    ولذلك يؤثر أن رجلاً أتى إلى مالك بن دينار رحمه الله فقال: يا مالك! إنني تبت إلى الله من المعاصي إلا معصية واحدة، قال: وما هي؟ قال: كبيرة من الكبائر، قال: تب إلى الله، واتركها، قال: لا أستطيع.

    قال: سوف أعرض عليك أموراً.

    إذا أردت أن تفعل هذه المعصية فلا تعص الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في أرضه.

    فقال الرجل: إلى أين أخرج؟ والأرض كلها أرض الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟

    فقال: كيف تعصي الله تبارك وتعالى على أرضه، أيدخلك داره، ثم تعصيه فيها؟!

    قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تأكل من طعامه، ولا تشرب من شرابه.

    قال: ومن أين آكل وأشرب؟ والأكل والشراب من رزقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    قال: فكيف تستعين بنعمه على معاصيه؟!

    قال: فإن لم تستطع وعصيته فحاول ألا تلقاه يوم القيامة.

    قال: لا أستطيع إلا لقاءه.

    وفي الرابعة قال له: وإذا أردت أن تعصيه، فاختبئ في مكان لا يراك فيه.

    فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأتوب إلى الله.

    فإذا تذكر الإنسان الآلاء؛ فإنه يعود بإذن الله من المستقيمين والتائبين إلى الله عز وجل.

    التعريف الثاني: قالوا: هو انتفاض النفس خشية المكروه.

    بعض الناس يترك أعمال الشر لا ديناً منه، ولكن حياء من الناس، وهذا محمود، ولو أن من تركها مخافة من الله أحمد منه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} وهذا حديث ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.

    قال أهل العلم: الحديث يحمل على معنيين اثنين:

    إما أن المعنى: إذا لم تستحِ من الله عز وجل فما عليك، أي: فقد انفرط حبلك، فافعل ما شئت من الكبائر، وارتكب ما شئت من المعاصي، هذا معنى.

    والمعنى الثاني: إذا لم تستحِ من الشيء، وعلمت أنه حلال، وأنه مباح، وعلمت أنه ليس معصية، فافعله، فإنه مباح وحلال.

    وهذان المعنيان واردان في شرح الحديث.

    أما التعريف الثالث للحياء: فهو حفظ الجميل بترك القبيح، يعطيك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فتكافئه بالطاعة.

    ولذلك ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {عجباً لك يابن آدم! ما أنصفتني، خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إليَّ بالمعاصي وأنت فقير إليَّ، في كل يوم لي إليك رزق نازل، وفي كل يوم لك إليَّ عمل سيء صاعد} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

    يقول: ما أنصفت أي: ما عدلت في الخصومة بيني وبينك، وفي هذا تذكير بالآلاء, وحفظ الجميل بترك القبيح يحمل صاحبه على الحياء من الله.

    والتعريف الرابع للحياء هو: مراقبة القهار مخافة من النار، وبعداً من العار.

    فإن من لم يراقب الواحد القهار، فعليه أن يخاف من النار، فإن لم يخف من النار، فليخف من العار في الدنيا؛ لأن المعاصي تكسب صاحبها ذلة ووصمة لا يعلمها إلا الله، ولذلك يقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه وأرضاه: [[الناس في كنف الله، وفي ستر الله، فإذا شاء أن يفضح أحدهم؛ أخرجه من كنفه ومن ستره، والمفضوح من فضحه الله]].

    وهذا الذي يصاب بالخذلان؛ لعدم إخلاصه في القصد والتوجه إلى الله عز وجل، فإذا افتضح بالمعاصي؛ أصابه الخذلان, نسأل الله العافية.

    حياء الرسول صلى الله عليه وسلم

    أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بالحياء المحمود وترك المذموم، فهو قدوتنا في كل عمل، فمن لا يأخذ قوله وهديه وحاله صلى الله عليه وسلم فقد ذل، فيؤخذ القول من قوله صلى الله عليه وسلم، ويقتدى به صلى الله عليه وسلم بالأفعال والأحوال، ولذلك يقول أبو سعيد رضي الله عنه في الصحيحين: {كان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها}.

    ولا يحمل ذلك بعض الناس على أن يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يرى منكراً أو حقاً لله فيستحي ويحجم، لا. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى حدود الله تنتهك، غضب غضباً لا يقوم له أحد عليه أفضل الصلاة والسلام، لكن حياءه كان حياء عبادة، وحياء تكليف من الله عز وجل, وكان من حيائه إنه ما كان يمد بصره إلى الناس؛ لأنهم يجلسون أمامه صلى الله عليه وسلم في الصلوات, بل كان ينكس رأسه صلى الله عليه وسلم وربما نظر إلى بعضهم.

    قال البراء بن عازب رضي الله عنه: {كنا نصلي على يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم عله أن ينظر إلينا، فيبتسم إلينا ونبتسم إليه}.

    ويقول أنس: {كان صلى الله عليه وسلم يبقى في بيته إلى قرب إقامة صلاة العشاء} أو كما قال.

    فكان لا يخرج صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإقامة، فإذا اجتمع الناس خرج عليه أفضل الصلاة والسلام من الجهة اليمنى؛ لأن بيت عائشة رضي الله عنها كان في الروضة من الجهة اليمنى للمصلي إذا استقبل الناس، قال أنس: {وكان في علية القوم، وفي الصف الأول أبو بكر وعمر، فينظر إليهم صلى الله عليه وسلم، وينظرون إليه، هو مقبل، فيبتسم إليهم، ويبتسمون إليه، ثم تقام الصلاة}.

    كان من هديه صلى الله عليه وسلم: أنه ما كان يبدي للإنسان نظره إذا أخطأ, وما كان يقوم على المنبر، ويقول: أنت يا فلان فيشهره أمام الناس، أو يعلن توبيخه على الناس، لا. بل كان يقول صلى الله عليه وسلم: {ما بال أناس يفعلون كذا وكذا} فيعرف المخطئ، ويعرف العاصي، فيعود بإذن الله ويتوب إلى الله عز وجل، هذا هديه صلى الله عليه وسلم.

    والتشهير بالناس وبأخطائهم مذهب خاطئ، وغلط في المنهج والمبدأ، لا يقبله الإسلام، ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث سلمان أنه قال: {إن الله حيي يحب الحياء} وفي لفظ: {ستير}.

    وقد سألني بعض الإخوة: كيف تورد مثل هذه الألفاظ في صفات الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله نظيف يحب النظافة، وجميل يحب الجمال، وستير يحب الستر} وهل الحديث في ذلك ثابت؟

    فنقول: هذه الألفاظ أطلقت من الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث في الترمذي.

    ويرى ابن تيمية أن هذه الأسماء واردة منه صلى الله عليه وسلم، يقول: لكننا نتوقف فيها، فلا نطلقها حتى نتأكد من أسانيدها هل هي صحيحة أم لا؟ مع العلم أن في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة} قال ابن حزم الظاهري:"أحصيتُ الأسماء الحسنى في الكتاب والسنة، فوجدتها ستة وستين، لا زيادة" فقال ابن تيمية: وجدت أكثر من الستة والستين.

    والواجب في الأسماء والصفات أن نقولها كما قالها صلى الله عليه وسلم، ونقف على ذلك؛ لأن الأسماء توقيفية، وليس لنا أن نزيد في أسماء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, كبعض الناس يسمي ابنه عبد الموجود, وعبد اليقظان، فهذه ليست من الصفات التي ورد بها التكليف والتشريع والاعتقاد.

    وإنما ذكرت هذه المسألة عرضاً واستطراداً، والشاهد عند قولنا: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحب الستر، ولا يحب التشهير بالناس، حتى إنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يكره من الإنسان العاصي أن يجاهر بالمعصية، يعصي بالليل، ثم يخرج بالنهار، فيخبر الناس أنه عصى، وأنه ارتكب، وأنه فعل وفعل، فهذا لا يغفر له { كل أمتي معافى إلا المجاهرين} أي الذين يجاهرون بالخطأ، ولذلك من استصلاح القلوب: ألا يشهر المسلم بالعاصي، بل يأخذه على انفراد وينصحه؛ لأنهم يقولون: إن الدعوة: إما نصيحة، وإما فضيحة.

    وقد سبق لنا أن ذكرنا كلام الشافعي للإمام أحمد في رسالته له، قال:

    أحب الصالحين ولست منهم      لعلي أن أنال بهم شفاعة

    وأكره من تجارته المعاصي      ولو كنا سواء في البضاعة

    تعمدني بنصحك في انفرادٍ      وجنبني النصيحة في الجماعة

    فإن النصح بين الناس نوع      من التوبيخ لا أرضى استماعه

    فإن خالفتني وعصيت أمري      فلا تجزع إذا لم تعط طاعة

    قوة النبي صلى الله عليه وسلم في الحق

    ثبت في سنن أبي داود:{ أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضمخ بطيب -والطيب له لون أحمر، ونحن منهيون جملةً عن الصبغة الحمراء، أو عن لبس الثوب الأحمر الذي ليس فيه أعلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه- فنظر صلى الله عليه وسلم إلى الناس، ثم قال: لو نهيتم هذا} وهو صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وهو المسئول عن إخبار الناس بالأحكام، لكن حياءً ألا يواجه الناس بما يمكن أن يثير في أنفسهم شيئاً، فهو صلى الله عليه وسلم حيي ويستحي, لكنه لا يستحي صلى الله عليه وسلم من الحق، بل تقول عائشة: {كان إذا غضب صلى الله عليه وسلم لله لا يقوم لغضبه أحد} ونحن نعلم أنه ليس هناك أشجع منه صلى الله عليه وسلم، حتى يقول علي رضي الله عنه -وتعرفون من هو علي أبو الحسن -: [[كنا إذا لقينا القوم، واشتد الكرب اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أقربنا إلى القوم]] وكانوا يتقون به من السيوف والرماح.

    ولذلك لم يثبت أبداً -وهذا معروف بالاستقراء- أنه صلى الله عليه وسلم فر من معركة، بل واجب عليه ألا يفر، ويحرم عليه صلى الله عليه وسلم لو فر الناس جميعاً أن يفر، حتى يقول بعض أهل العلم منهم القرطبي وابن العربي: لو قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الدنيا بأسرهم، وكانوا في صف وكان في صف، لما تأخر ولما فر أبداً، لأن الله يقول: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84] فهو لا يكلف إلا نفسه بالثبات، أما غيره فله أن يوصيهم بالثبات عليه الصلاة والسلام.

    ولذلك في حنين، لما أتى مالك بن عوف النصري، واقتحم باثني عشر ألف مقاتل على جيش الرسول صلى الله عليه وسلم، ففر الناس، قال جابر: فأمطرونا بالنبل حتى كأنه الغمام على رءوسنا، ففرت الدواب، والجمال والخيول بأصحابها.

    فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا عباس! نادِ في الناس}.

    فأخذ العباس يرفع صوته -وكان جهوري الصوت حتى كان ينادي أبناءه من بيته في المدينة، وفي الغابة فيسمعون صوته- فيقول: يا أهل سورة البقرة! يا من بايع تحت الشجرة! هلموا رحمكم الله، فلا يجيبون، ومالك بن عوف بهوازن وغطفان تعلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل.

    فقال صلى الله عليه وسلم: {نادِ بالأنصار، قال: يا أيها الأنصار! يا حماة الدار! يا آخذين بالثار! عودوا إلى الرسول المختار، فما سمع ولا رأى صلى الله عليه وسلم أحداً يعود} بل فروا؛ وبعضهم فرت به دابته، وبعضهم متشكك من أول الطريق، ما صمم على القتال أصلاً، منهم مسلمة الفتح.

    وقال صفوان بن أمية: اليوم بطل السحر - نسأل الله السلامة-، لأنه من مسلمة الفتح.

    فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {نادِ بني الحارث، فنادى العباس في بني الحارث، وكانوا أشجع الأنصار من الخزرج، فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم ثمانون- فاجتلدوا أمامه}.

    وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتل من أول النهار، لم يفر أبداً ولم يتأخر، حتى يقول العباس: كنت آخذ ببغلته علها ألا تتقدم، فأبى صلى الله عليه وسلم إلا أن يتقدم، ثم نزل عن بغلته، وسل سيفه، ويقول: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب} حتى رد صلى الله عليه وسلم كتيبة مالك بن عوف النصري على وجهها.

    قال الأنصار -بني حارثة-: ما أتينا إليه صلى الله عليه وسلم إلا وقد انهزم القوم، وأخذ حفنة من التراب فسفا بها في وجوههم، وقال: {شاهت الوجوه} فما بقيت عين إنسان من العدو إلا دخل في عينه من هذا التراب، فأخذت عيونهم تدمع، وأتى بنو حارثة, فقاتلوا أمامه صلى الله عليه وسلم حتى سمع لشظايا السيوف كسير من على رءوس الناس.

    فرفع صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: {الآن حمي الوطيس} وهو أول من قالها من العرب كما يقول أبو قتيبة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول من قالها وتمثل بها, والوطيس أي: اشتد الكرب، واعتلت المعركة.

    المهم أنه صلى الله عليه الصلاة والسلام في وقت الشجاعة، والإقدام، وإقامة الحدود، لا يمكن أن يتأخر، ولذلك يقول فيه مالك بن عوف النصري لما رآه، وهزم جيشه، ورده صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وأنزله مكرهاً مرغماً، قال:

    ما إن رأيت ولا سمعت بمثله      في الناس كلهم كمثل محمد

    أعطى وأجزى للنوال إذا اجتدى     ومتى تشأ يخبرك عما في غد

    وإذا الكتيبة عردت أنيابها      بالزمهرير وضرب كل مهند

    فكأنه ليث على أشباله      وسط الهباءة يخاذل في مرصد

    فحياؤه عليه الصلاة والسلام حياء تعبدي تكليفي، ولو أن الله أعطاه من الحياء الغريزي، لكان المقصود الذي نتبعه فيه صلى الله عليه وسلم هو حياء العبادة التكليفي الذي يحجم صاحبه عن القبيح، وسبق في تعريف لأهل العلم في الحياء: مراقبة القهار مخافة من النار، وبعداً من العار، فهذا هو الحياء الذي يذكره صلى الله عليه وسلم والذي قال للأنصاري: {دعه فإن الحياء من الإيمان}.

    ومقصد البخاري رحمه الله أن يستدل بهذا على أن أعمال القلوب والآداب تدخل في الإيمان، وهو بهذا يرد على المرجئة؛ وقد بدأ الصحيح في الرد على الطوائف المبتدعة, فرد أولاً على الخوارج، ثم على الكرامية، ثم واصل المسيرة في الرد على المرجئة، وسوف يمر معنا أنه سوف يرد على من قال: بخلق القرآن من الجهمية المعطلة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088527022

    عدد مرات الحفظ

    777138984