بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا واحد من اللقاءات المتجددة مع كتاب ربنا جل وعلا، وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي مما أردنا أن نعلق عليه من سورة التوبة، ونشرع اليوم إن شاء الله تعالى في تفسير سورة يونس وسنختار بعض الآيات منها للتعليق عليها كما جرت العادة.
وقبل أن نشرع فيها نستذكر بعضاً مما ذكرناه في سورة التوبة، فقد بينا أن الله جل وعلا قال فيها: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [التوبة:60].
وقلنا: إن (إنما) أداة من أدوات الحصر، وقلنا: إن الله جل وعلا هنا جعل الزكاة الشرعية منصرفة إلى ثمانية أقسام، وعدى بعضها باللام وعدى بعضها بفي، والفرق في التعدية باللام والتعدية بفي أن اللام تقتضي التمليك، وأما في فلا تقتضي التمليك، وحتى تظهر المسألة: لو أن إنساناً أراد أن يخرج زكاة ماله فأراد أن يعطي فقيراً فإنه يلزمه شرعاً أن يسلم الفقير المال بنفسه. يعني: يصل المال إلى الفقير بأي واسطة كانت، فلا بد أن يملكه الفقير حتى تكون هذه الزكاة قد وصلت، وهذا مقتضى قول الرب جل وعلا: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60] .
وأما التعدية بفي فلا يلزم أن يقبضها من صرفت له بنفسه، فمثلاً: لو وجد مجاهدون متطوعون كما في الزمن القديم فأراد إنسان أن يزكي فاشترى بزكاة ماله فرساً، فوضع الفرس في حظيرة تعطى للمجاهدين فهذا يكفي، ولا يلزم تسليمها إلى مجاهد بعينه، هذا الفرق بين الأمرين.
وذكرنا اختلاف العلماء في قوله جل وعلا: وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، ورجحنا أنه المجاهد المتطوع في أصح أقوال العلماء، وللعلماء في ذلك - كما قلنا - أقوال عدة.
وتكلمنا عن مسجد الضرار وقلنا: إن الله يقول: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107] .
وقلنا: إن المعتبر في الشيء هو أصل تأسيسه، فالمسجد هذا رغم أنه بني مسجداً لكن لما أسس لغير الغاية المنشودة من المساجد وأسس ضراراً وكفراً لم ينفعه أنه مسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وإحراقه، ولا يقال: إنه تغير نيته، فلو كان كذلك لبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو غيرهما من وجهاء الصحابة وأقاموا فيه الصلوات وغيروا الطريقة التي من أجلها أنشئ، لكن ما أنشئ على باطل يبقى منشأً على باطل، وما أنشئ على حق يبقى منشأ على حق، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].
وقلنا: إن الصحيح أن المقصود هنا مسجد قباء، مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة:108] أي: من أول يوم في الهجرة، وليس معناه أنه أول مسجد أسس في العالمين، فإن أول مسجد أسس في العالمين هو المسجد الحرام، لكن أول مسجد أسس في الإسلام هو مسجد قباء.
ومن الفوائد اللغوية: أن الله قال: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108]، وبعدها: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108]، وهاتان (فيه فيه) كلمتان متشابهتان لم يفصل بينهما فاصل، فهذه إحدى الفوائد اللغوية في القرآن.
ومثلها قول الله في الأنعام: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124] وبعدها: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فجاء لفظ الجلالة مكرراً لا يفصل بينهما فاصل إلا المعنى، فتقف عند قول الله جل وعلا: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124] ثم تقول: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].
الفائدة الثالثة: جاءت ثلاث هاءات في القرآن متوالية لا يفصل بينهما فاصل، وهي في قول الله جل وعلا: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] فإلهه مختومة بهاءين، والكلمة التي بعدها مبدوءة بها، فأصبحت ثلاث هاءات جاءت وراء بعضها البعض.
فهذه الفوائد تعينك وتحفز همتك على تدبر كلام الله، وتدبر كلام الله أياً كان فهو نافع؛ لأن الإنسان لا بد أن يشغل نفسه بحق أو بباطل حتى ولو فكر ذهنياً، فلأن تنقضي الأعمار في التفكر في كتاب الواحد القهار خير من أن تنقضي في شيء آخر أياً كان. وهذا سر أن علم القرآن أشرف العلوم.
هذا ما تكلمنا عنه في الأسبوع الماضي.
واليوم نتكلم عن سورة يونس، وسورة يونس عدد آياتها فوق المائة، وكنا قدمنا في الدرس الأول أو الثاني من هذه اللقاءات: أن العلماء يقسمون القرآن جملة كسور إلى أربعة أقسام:
الأول: ويسمى السبع الطوال.
والقسم الثاني: ويسمى المئون، وهو جمع مائة.
والثالث: ويسمى المثاني.
والرابع: ويسمى المفصل، ويقال له: المحكم.
هذه الأربع الأقسام العلاقة بينها وبين سورة يونس أن سورة يونس عند قوم من السبع الطوال، وعند آخرين من المئين، فسورة يونس لا تنفك إما من المئين وإما من السبع الطوال.
وقلنا في دروس سابقة أن السبع الطوال هي ترتيب المصحف: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف. فهذه الست متفق على أنها من السبع الطوال.
وأما السابعة فمن العلماء من يرى أن التوبة والأنفال سورة واحدة كما مر معنا، فهذا يجعل التوبة والأنفال هي السابعة، وعلى هذا يكون عدد سور المصحف بهذا الترتيب مائة وثلاث عشرة.
ومَن لا يرى أن التوبة والأنفال سورة واحدة - وهذا هو الذي عليه الجمهور أن التوبة والأنفال ليست سورة واحدة - يجعل السابعة من السبع الطوال يونس، فيقفز التوبة والأنفال.
وبعد الطوال تأتي المؤون، والمئون عند العلماء ما جاوزت أو قاربت المائة آية، سميت بذلك لأنها جاوزت أو قاربت المائة آية.
ومن طرائق العلم أن الإنسان لا بد أن يتصور ويفهم العلم الذي يريد أن يدخل فيه عموماً، وأما الاكتفاء بالجزئيات فلا يمكن أن يبني علماً، فلا بد أن تتصور المسألة عموماً، والجهل بالجزئيات هنا لا يضر، لكن إذا كان الإنسان يفقه الجزئيات ويجهل الكليات فهذا ليس بعلم، فالعلم أن تفهم الأمور بكلياتها.
مثلاً: رجل غريب من غير السعودية تريد أن تصف له المسجد الذي على الطريق ويسمى جامع النزاوي، فتقول له: عند دوار القبلتين مثلاً، فهذا ليس بجواب، فأول شيء تبين له في السعودية، ثم تذكر له أنه في المدينة، ثم تقول له: في الجهة الغربية من المدينة، ثم تقول له: عند دوار القبلتين. فلا تبدأ بالجزئيات؛ لأن الجزئيات لا تقدم علماً.
فإذا أردت أن تعرف كلام الله فيجب أن تعرف أولاً أنه مائة وأربع عشرة سورة، وأنه مقسم إلى أربعة أقسام من حيث جمع السور بعضها إلى بعض، وأنه مقسم من حيث النزول إلى مكي ومدني، ومقسم من حيث الحكم إلى ناسخ ومنسوخ، ومقسم من حيث الإيمان إلى محكم ومتشابه، ومقسم من حيث الجملة إلى عام وخاص. فإذا فهمت هذا فإنك ستفهم القرآن.
وأما أن يدخل الإنسان للجزئيات فلن يفقه شيئاً في دين الله، فهذه معلومات تقال في كتب مسابقات ثقافية، فيجيب عليها إنسان قرأ ورقة تقويم فاستفاد معلومة، فيدخل المسابقة فيأتي السؤال الذي قرأه في التقويم فيجيب، فيقول الناس: فلان عالم أو هذا مثقف، هذا ليس بعلم. العلم الشرعي هو الذي يتصدر به الإنسان للناس، فينبغي أن يكون مؤصلاً بهذه الطريقة.
فقلنا: إن القرآن يقسم إلى السبع الطوال وذكرناها، ثم المئين، ثم يقسم إلى المثاني، وقد عرفنا لماذا سميت بالمئين، لأنها تصل إلى المائة، والطوال سميت كذلك لطولها، وأما المثاني فسميت كذلك من التكرار، لأنها تقرأ في الصلوات أكثر من غيرها، فسميت مثاني.
والقسم الرابع: المفصل، وقد بينا اختلاف العلماء في بداية المفصل، فقيل من (ق)، وقيل: من الحجرات، الذي يعنينا أن المفصل سمي بالمفصل لأنه كثيراً ما يفصل فيه ما بين سوره بقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
جاء في مسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بسند صحيح: أن المفصل يسمى المحكم. فلماذا المفصل يسمى المحكم؟ لأنه لم يدخله النسخ كثيراً، فمسائل المفصل في الأخير مسائل عقدية كما لا تقبل النسخ، والنسخ إنما يأتي في الأحكام، والأحكام هي في السور المدنية: في البقرة وفي الأعراف، وفي الأنعام وأمثالها.
أما أحكام العقائد: أن الله جل وعلا واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم رسول، واليوم الآخر بعث فهذا ما يقبل النسخ، فيسمى محكماً أو يسمى مفصلاً.
وسورة يونس ذكرها أن العلماء يتأرجح قولهم ما بين أنها من السبع الطوال أو من المئين، وهي بحسب ترتيب المصحف.
وهي أول سورة في القرآن سميت باسم نبي بحسب ترتيب المصحف لا بحسب النزول، والقرآن بالنسبة للأعيان ورد فيه أسماء سور بأسماء أنبياء، وسور للقرآن بأسماء قوم صالحين لم تثبت نبوتهم.
فمما ورد بأسماء أنبياء أول سورة هي يونس، وتعقبها مباشرة سورتان: هود ويوسف، ثم بعدها قد يقال: طه وياسين؛ لاختلاف العلماء في طه وياسين.
وبعدها إبراهيم وهو الرابع، بقيت اثنتان: سورة محمد صلى الله عليه وسلم، ولها اسم ثانٍ سورة القتال، وسورة نوح.
إذاً فأسماء الأنبياء التي أطلقت السور بأسمائهم ست، وهي: يونس وهود ويوسف، وهذه الثلاث متتابعة، وهناك ثلاث متفرقة حسب ترتيب المصحف وهي: إبراهيم ومحمد ونوح، عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
ثم جاءت سور بأسماء قوم صالحين لم تثبت نبوتهم مثل أول سورة: آل عمران، فإنهم قوم صالحون بالاتفاق، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ [آل عمران:33]، وسورة مريم ، وسورة لقمان ، فـمريم ولقمان وآل عمران هؤلاء قوم صالحون وليسوا بأنبياء، اللهم إلا أن يقال: إن من آل عمران عيسى فممكن، لكن إذا قلنا بالجملة فإنهم قوم صالحون.
ومما يتعلق بالسورة أنها سميت باسم نبي اشتهرت قصته وهو يونس عليه السلام، وقصته معروفة، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98].
وقد ذكرنا في دروس سبقت: أن سنن الله لا تتبدل ولا تتغير، فإذا استثنى الله شيئاً فإنه ينبه على أنه خارج عن سنته، فإذا خرج الشيء عن سنة الله التي جرت في الخلق فلا يجوز لأحد أن يستشهد بها، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة -في أصح قولي العلماء- حارب وقاتل، ومكة في سنة الله في خلقه أنها محرمة، فقال صلى الله عليه وسلم يرد هذا الباب ويردم هذه الفجوة، قال: (إن الله حرم القتال فيها، وإن الله أحلها لنبيه ساعة من نهار ولم يحلها لأحد)، فهذا دلالة على أن الخارج عن السنة لا يستشهد به.
وذكرنا مراراً: أن الإيمان إيمان اضطراري وإيمان اختياري، وقلنا: إن الله لا يقبل الإيمان الاضطراري أبداً، والإيمان الاضطراري له حالتان:
الحالة الأولى: عامة لم تأت، وهي طلوع الشمس من مغربها، والدليل عليه قول: الله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا [الأنعام:158] فنفساً مفعول به مقدم.
إِيمَانُهَا [الأنعام:158] فاعل، يعني: لا ينفع الإيمانُ النفسَ.
والحالة الثانية: إذا حق العذاب ونزل فلا يقبل، كما قال فرعون: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، ومع ذلك لم يقبل الله منه إيماناً.
وهذه السنة الكونية العامة أخرج الله منها قوم يونس؛ لحكمة أخفاها الله، لكن أثبتها الواقع، قال الله: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا [يونس:98]، ومعنى الآية: إذا آمنت قرية وقت حقوق العذاب فلا يقبل منها.
فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ [يونس:98] يعني: لا يوجد قرية آمنت فنفعها إيمانها.
ثم استثنى ربنا فقال: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، ولهذا اختلف العلماء هل إيمانهم هذا يقبل في الآخرة أو لا يقبل؟ والصواب إن شاء الله أنه يقبل، فما دام أن الله أكرمهم في الدنيا فسيكرمهم في الآخرة.
وقلنا: إن يونس أحد أنبياء الله من بني إسرائيل، ولا حاجة للإخبار عن قصته لاشتهارها.
ذكرنا أن هذه السورة هي أول سورة بدأت باسم نبي، كما أنها أول سورة ذكر فيها الحلف الذي أمر الله به نبيه، وقد أمر الله نبيه أن يحلف في ثلاثة مواضع في القرآن على شيء واحد وهو: تحقيق البعث، وهذا فيه دلالة لقول من قال: إن كثرة الحلف ليست بقادح. فبعض الناس يقول: كثرة الحلف لا تصلح، لكن هذا فيه رد على ذلك، قالوا: إن الله أمر نبيه أن يحلف ثلاث مرات، فأول مرة في سورة يونس: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53]، وأمره أن يحلف في سبأ. والثالثة في التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]، وكل القسم جاء بكلمة وربي، إلا أنه في يونس قال الله: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53]، وإي عند النحويين حرف جواب بمعنى: نعم، إلا أن النحويين يقولون: إنها لا يؤتى بها إلا إذا جاء بعدها قسم.
هذا ما يتعلق بالسورة إجمالاً، وسنختار كالعادة آيات منها.
الآية الأولى قوله جل وعلا: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس:2] .
فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والبشارة أمر معروف، لكن العلماء رحمهم اختلفوا في معنى قوله جل وعلا: قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس:2] على أقوال وكل يعضدها دليل.
قال بعض العلماء: قَدَمُ الصدْق المقصود به الجنة، يعني: المكان أو المقام أو المدخل، وحجة هؤلاء قول الله جل وعلا: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء:80]، فقالوا: إن المدخل والقدم كلها بمعنى واحد، والمقصود بالآية هنا الجنة. وهذا يظهر أنه بعيد.
الأمر الثاني قالوا: إن المقصود بها شفيع قبلهم، وهذا الشفيع هو الذي يجعل هؤلاء المؤمنين يتكئون على شيء قبل أن يصلوا إلى ربهم، وهؤلاء قالوا: إن المقصود به شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
واحتجوا بما جاء في السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض) أي: سابقكم إلى الحوض. فهذه حجة من قال: إن القدم هي الشفيع.
وبعضهم أبعد قليلاً -وهو قول الحسن البصري رحمه الله أبو سعيد الإمام المعروف- قال: إن قدم الصدق هي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ووجه الدلالة عنده أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصيبة، وصبر المؤمنين على هذه المصيبة هي قدم صدق عند الرب. فالقول الثاني تفرع عنه قول الحسن البصري .
القول الثالث: أن قدم الصدق هي ما كتب الله في الأزل أن هؤلاء لهم الجنة، وهؤلاء حجتهم آية الأنبياء: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101]، فقول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء:101] دليل على أن الحسنى سبقت لهم من قبل، فقالوا: إن معنى قول ربنا جل وعلا: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ [يونس:2] أن المقصود بها ما كتبه الله جل وعلا في الأزل من أن لهم الجنة، وهذا قول قوي جداً.
القول الرابع: أن المقصود بقدم الصدق العمل الصالح، وهذا قول مقاتل بن سليمان وهو من كبار المفسرين، واختاره الإمام الطبري رحمه الله. وحجة هؤلاء: أنه جاء في كلام العرب أنها تكني عن النعمة باليد، وتكني عن الثناء باللسان، وتكني عن السعي بالقدم، فتقول: فلان له علي يد، يعني: له علي نعمة. وتكني عن الثناء باللسان، جاء في القرآن: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84] ومعنى لسان صدق هو الثناء الحسن في الآخرين.
ويكنى بالقدم عن السعي، وهذا ثابت عندهم وفيه أشعار لهم كقول حسان :
لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
فالمقصود منها أن السعي هو القدم، لكن لما قال: قَدَمَ صِدْقٍ [يونس:2] أصبح السعي بالعمل بالعمل الصالح.
إذاً تحرر من هذا أربعة أقوال وهي: المدخل، ودليلهم: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء:80] .
والثاني: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وحجتهم من السنة: (أنا فرطكم على الحوض)، وقلنا: إن الفرض بمعنى السبق.
الثالث -وهو متفرع من الثاني-: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إن هذا هو قول الحسن البصري رحمه الله.
الرابع: ما كتبه الله في القدم، وقلنا: هذا قول قوي جداً، ويؤيده آية الأنبياء: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101] .
والخامس: وهو الذي رجحه الطبري : الأعمال الصالحة. وهذا الذي يظهر، والله تعالى أعلم. لكن قلنا: إنك لست ملزماً بقول من يملي عليك، فما تختاره أنت لك فيه إمام سابق. هذه الآية الأولى.
ثم قال سبحانه وتعالى لما ذكر أهل الجنة قال: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]، دعواهم هنا بمعنى: دعاؤهم.
وهنا يأتي الإشكال من جهتين:
الإشكال الأول: أن الجنة بالاتفاق ليس فيها تكليف، وليس فيها عمل، فكيف يقال: دعواهم فيها؟ وهذا أجابت عنه السنة: أنهم (يلهمون التسبيح كما يلهم أحدكم النفس) فالإنسان يتنفس بصورة طبيعية، ويلهم ذلك بصورة طبيعية، وليس هناك واحد يتكلف النفس، فهذا شيء يقع بصورة طبيعية من الله، فأهل الجنة يلهمون التسبيح من غير كلفة كما يلهم أحدنا النفس، لكن قال بعض العلماء -وهذا لا دليل عليه لكنه موجود- قالوا: إنهم إذا اشتهوا شيئاً يقولون: سبحانك اللهم فيأتيهم ما يشتهون. وهذا غير بعيد لكن ما نملك دليلاً على صحته أو رده، وقلنا: إن الغيب لا يتكلم فيه إلا بنص بظاهر.
الإشكال الثاني: وهو أننا عندما نقول: سبحانك اللهم هل أنت طلب شيئاً؟ لا، ومع ذلك سماه الله جل وعلا دعاء. وهنا نأتي إلى مسألة تقع في رمضان سنوياً وهو أن الإمام إذا أثنى على الله يقول: اللهم اهدنا فيمن هديت، إلى أن يقول الإمام: إنه لا يعز من عاديت، ولا يذل من واليت، أو يقول: ربنا وجهك أكرم الوجوه، أو يثني على الله، فيقول من في الحرم: سبحانك، وقد قلنا مراراً: إن هذا القول لا يوجد أي دليل عليه؛ لأن الثناء على الله نوع من الدعاء، وإذا دعا الإمام فإن موقف المأموم واحد من اثنين: إما أن يسكت وإما أن يؤمن، ولا يوجد شيء في الدعاء أن يقول الإمام شيئاً ويقول المأموم: سبحانك، لا يوجد في السنة فيما نعلم ولا في القرآن دليل على أن الإمام إذا قال شيئاً يقول المأموم سبحانك، المأموم حاله مع إمامه واحد من اثنين: إما أن يؤمن وإما أن يسكت.
أما قول سبحانك، أو حقاً، أو نشهد كما يقول بعض إخواننا المصريين فهذا لا يوجد عليه دليل.
ومن أدلتنا عموماً على أن الدعاء يأتي بمعنى الثناء هذه الآية، فإن الله قال: دَعْوَاهُمْ فِيهَا [يونس:10] أي: دعاؤهم فيها.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ[يونس:10] وهذا ليس فيه طلب.
ومن السنة كثير، منها: أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند حلول الكرب بهذه الكلمات: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم)، وليس فيه طلب، فلا يلزم من الدعاء أن يكون طلباً، بل إن من الطلب أن تثني على الله حتى مع العامة، فقد تخرج من المسجد فتقابل رجلاً يشحذ، فيقول: أنا مسكين، أي: أنه يريد ريالاً، وتجد آخر يقول: أعطني ريالاً، وآخر يقول: أعطني لله ما يسمي، وآخر يقول لك: أنت رجل كريم، أنت طيب، وما معنى أنت طيب وأنت كريم؟ أي: أعطني. فالثناء نوع من الدعاء.
ومما يدل عليه من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في الترمذي : (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، فلم يقل: هذا مدح وثناء على الله، وإنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء.
الثالث: ما ثبت بعدة طرق عند النسائي وعند أحمد في المسند: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مر على عثمان بن عفان ، فلما مر سلم، فلما سلم نظر إليه عثمان وحدق فيه النظر ولم يرد السلام، فذهب سعد إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! هل حدث في الإسلام شيء؟ قال: لا. لماذا تسأل؟ قال: إنني مررت على عثمان فسلمت عليه فملأ عينيه مني ولم يرد السلام، فبعث عمر إلى عثمان واستدعاه وقال له: ما منعك أن ترد السلام على أخيك؟ قال: ما سلم، فحلف سعد أنه سلم وأن عثمان رآه وحلف عثمان أنه لم ير سعداً ولم يدر أن سعداً سلم عليه. ولا يمكن أن يكون أحدهما كاذباً، فحلف الاثنان، ثم تراجع عثمان وقال: أستغفر الله وأتوب إليه؛ تذكرت الآن. وهذا دليل أنك لا تعجل على الناس، قال: تذكرت الآن لكنني كنت أفكر في مسألة إذا تذكرتها تصيبني غشاوة. قال: إنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أدلكم على دعوة) وسكت فكمل سعد قال: أنا أكمل لك القصة: فقد أراد أن يقول لنا الدعوة فجاء أعرابي فشغله فمضى قبل أن يخبرنا بها، فأسرعت وراءه -أي: سعد يسرع وراء الرسول- فلما أراد أن يدخل الدار ضربت بقدمي على الأرض بقوة حتى أشعره أن أحداً وراءه، فلما ضرب سعد الأرض بقوة التفت صلى الله عليه وسلم قال: (مه)، ومه كلمة للاستفهام تقولها العرب ( أبو إسحاق
وموضع الشاهد من القصة: أن النبي سمى قول ذي النون دعاء، وقد سماه الله من قبل في القرآن دعاء، قال الله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى[الأنبياء:87] سماه الله نداء.
ودعوة ذي النون هذه ليس فيها طلب، وإنما فيها ثناء على الله.
يتحرر من هذا كله: أن دعوة: (سبحانك اللهم) فيها نوع من المسألة، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ[يونس:10].
وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ [يونس:10] هذه التحية المقصود بها إجمالاً، لكن قلنا: إن القرآن ما يجمل في موقف يفسره في موقف ثاني. والسلام هنا تحية الله لهم، والدليل قوله: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] .
وهي وتحية الملائكة لهم، والدليل: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24] .
وتحيتهم في بعضهم، وهذا دليله حياتهم في الدنيا؛ لأنهم إذا كانوا يسلمون على بعضهم في الدنيا فمن باب أولى أن يكون بينهم سلام في الآخرة.
وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10] وقلنا: إن الرجل إذا أراد أن يحرر خطبة أو أراد أن يحرر محاضرة فمن المناسب أن يقول: الحمد لله الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته.
أي: في الفاتحة. وآخر دعاء لأهل جنته كما في: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].
والآية الثالثة التي سنقف عندها قول ربنا جل وعلا: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12] .
بالاستقراء نقول: إن كلمة الضر إحدى كلمتين في القرآن جاءت في آية واحدة ومرت عليها الأحوال النحوية الثلاثة، قال الله: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ [يونس:12]، فهي هنا فاعل.
وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ [يونس:12] وقعت مفعولاً منصوباً.
مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ [يونس:12]، وهي مجرورة هنا، فمر عليها الرفع والنصب والجر، ولا يوجد حالة للاسم غير هذه الثلاث فإما أن يرفع، وإما أن ينصب، وإما أن يجر.
والكلمة الثانية الحج في البقرة، قال الله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، فهذا فائدة نحوية، وقد تجد أنت في القرآن غير هذا لكن هذا الذي وجدته أنا.
نعود للآية السابقة، فهي تتكلم عن الإنسان، وهنا أل للاستغراق للجنس، وقلنا: إن أل إما أن تأتي للاستغراق والجنس، وإما تأتي للعهد، فإذا جاءت للعهد فإنها تنقسم إلى قسمين: عهد لفظي وعهد ذهني.
وأما مجيئها للجنس فهو أكثر ما تأتي في القرآن ويقصد بها استغراق جنس الإنسان، فكلام الله هنا عن كل إنسان، فالله يقول: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا [يونس:12] يعني: لا يفتأ يدعو ربه على كل حال.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ [يونس:12] أي: رفعناه.
مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12]، وهذا يسمى إطلاق.
فهل كل أحد إذا مسه الضر ودعا الله وكشف الله عنه ضره يغفل عن الله؟ مستحيل، ليس كل واحد، فالمؤمن الصادق في إيمانه لا يمكن أن يغفل.
وإذا احتج عليك أحد بالآية فإنك ترد عليه بالقرآن، وقلنا: إنه يجب أن ينظر إلى القرآن على أنه كله كلٌ لا يتجزأ، فما أطلقه الله هنا قيده في سورة هود، قال الله: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود:10]، فهذا نفس الإطلاق الذي في يونس.
ثم استثنى جل وعلا وقال: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود:11]، فما أطلقه الله في يونس قيده في هود، وهذه نظرة للقرآن بكله، فيصبح هذا المؤمن مستثنىً من هذا الإطلاق الذي في يونس، أي: مستثنىً بالقرآن، ومستثنى بالسنة كما في حديث: (عجباً لأمر المؤمن! إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء -فاعل- صبر فكان خيراً له).
نأتي للمعنى، والمعنى أن الإنسان بطبيعته كافراً كان أو مؤمناً إذا جاءه الضر فإنه يلجأ إلى الله، وهذه حالة يستوي فيها أهل الكفر مع أهل الإيمان، ولكن الابتلاء يكون بعد رفع الضر، فالله يقول عن جنس الإنسان عموماً: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس:12] نسأل الله العافية، فمن الناس -أعاذنا الله وإياكم- من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه.
والمؤمن يعبد الله على كل حال مؤمناً بالله، راضياً بقضاء الله وقدره، ويعلم أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما كان لك فسيأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك لن تناله بقوتك، جفت الأقلام وطويت الصحف.
وحرم النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة أن تقول لو؛ لأن لو تفتح عمل الشيطان، والمؤمن يرضى بقضاء الله وقدره، والرضا بالقضاء والقدر هو الحياة الطيبة التي قال الله عنها لأهل الإيمان: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
فالرضا بقضاء الله وقدره هو معنى الإيمان الحق، وكم من منحة - يعني عطية - في طي محنة، والحبل إذا اشتد انقطع، والسحاب إذا تراكم همع، يعني: ينزل منه الماء. فالأمور كلما ازداد ضيقها دل على قرب الفرج، والإنسان لا يدري ما هو مكتوب، لكن يستقدر الله الخير ويرضى بقدر الله، ويأخذ بالأسباب، ويتوكل على الله، فإن جاءه ما يؤمل فالحمد لله، وإن لم يأته ما يؤمل فكذلك الحمد لله لكن لا يعمم، يقول: الحمد لله على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار، ويعلم أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه. هذا فائدة إيمانية.
فائدة دنيوية: لا تؤمل في الناس خيراً أكثر من اللازم، فقد تحسن إلى إنسان فلا يكافئك على إحسانك، فلا تتعجب، فمن الناس من يكشف الله عنه الضر فيمر كأن الله لم يكشف عنه شيئاً، فإذا كان هذا تعامله مع خالقه فمن باب أولى أن يكون تعامله مع عبد مثله ومخلوق مثله أردى من ذلك وأسوأ.
والعاقل أصلاً لا يؤمل مما في أيدي الناس شيئاً، وإنما يزرع الجميل ولو في غير موضعه، فإن الجميل يحصد في أي مكان وينفع، والعرب تقول: لا يذهب العرف بين الله والناس، فإن أضاعه الناس فإنه يبقى عند الله، لكن الذي يعنينا في الآية أن من دلائل أهل الإيمان أن لهم مع الله طريقين، وكل طريق لهم فيه مطية، فطريق الابتلاء مطيتهم فيه الصبر، وطريق النعماء مطيتهم فيه الشكر والحمد، وهما في كلا الحالتين معترفون مقرون لله جل وعلا بالحمد والفضل والمنة.
هذا ما أردنا بيانه هذه الليلة على عجل حول سورة يونس، فعسى أن أفرغ فيما بقي من الوقت لأسئلتكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر