إسلام ويب

من آداب النبوة (3)للشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في الحلقة الثالثة من آداب النبوة كلامٌ نفيس حول تكنية الأطفال وتكنية الرجل الذي لم يولد له، وهذا وإن كان محور هذه المادة وموضوعها الأساس إلا أنها احتوت كذلك على العديد من الفوائد الجليلة كآداب الضيافة، ومحبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، وآداب الزيارة، والتواضع وغير ذلك.
    الحمد لله الذي رفع السماوات بلا عمد، والذي بسط الأرض في مدد، الذي خلق الإنسان في كبد، والصلاة والسلام على أبي الزهراء سيد الأولياء، وخيرة الأصفياء، ما ترقرق الماء، وما لمعت النجوم في الظلماء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعــد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    ومع الإمام البخاري في كتاب الأدب، وهو يجدد الأبواب تلو الأبواب، ناقلاً عن المصطفى عليه الصلاة والسلام: هديه، ودله، وشمسه، ونوره، وعظمته، التي ما لحقها أحدٌ من البشرية، ولا أتى أحدٌ من الإنسانية بالخير لأمته، ولا أدخل أحدٌ لقومه بمثلما أتى به محمدٌ عليه الصلاة والسلام.

    يقول البخاري رحمه الله تعالى: باب الكنية للصبي، وقبل أن يولد للرجل.

    ثم قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح، عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخٌ يقال له: أبو عمير قال: أحسبه فطيماً، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ نغرٌ كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا) وهذا الحديث يعرف بحديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير).

    وقد تهجم بعض الزنادقة، وأذناب الملاحدة على أهل السنة ونقلة الحديث، وقالوا: إنهم يروون أحاديث لا فائدة فيها، يقول هؤلاء الملاحدة والزنادقة ومن سار مسيرتهم: المحدثون لا فهم لهم، فهم يروون أحاديث لا تعقل وليس فيها فوائد! مثل حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير) أي فائدة في هذا الحديث؟!

    ومثل حديث: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها) فهذه لا يُستنبط منها شيء، فلماذا يشغلون الناس بالأسانيد وكثرة الكلام، وليس هناك فائدة؟!

    وانبرى لهم الإمام ابن القاص، أحمد بن أبي أحمد الطبري، وأخرج أكثر من ستين فائدة، ثم أتى ابن حجر حافظ الدنيا، وعلامة الزمان وأستاذ القاهرة، وصاحب فتح الباري الذي لا هجرة بعد الفتح، فأخرج فوائد تلحق على تلك فتصبح سبعين فائدة.

    فلنسمع لهذا الحديث وللقضايا التي عالجها العلماء، والتي هي من القضايا الحارة في حياة المسلم، والتي أديرت بكئوس من الفضل بين الفضلاء، وعلى بساط من النبل بين النبلاء.

    جوانب من عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم

    الرسول عليه الصلاة والسلام من عادته أنه سهل ميسر، ولذلك يقول أحد الغربيين في كتاب له: إن محمداً -يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم- سهل في عظمته، بسيط في هيبته. وينقل هذا أبو الحسن الندوي في كتاب السيرة، أي: سهل ممتنع، كيان متحرك، رجلٌ حضاري يقود الأمة من الجاهلية إلى الإسلام، وينقل تاريخاً لم يكن ينقله ألف كسرى وكسرى، وألف قيصر وقيصر، في ثلاث وعشرين سنة يؤسس دولة ينقطع حلق الدهر لا يدرك مداها.

    هذه الدولة الإسلامية التي أخرجت العلماء، والأدباء، والشجعان، والأساتذة، والمعلمين، أسسها صلى الله عليه وسلم بهدوء، وهو جالس في بيت من طين في المدينة، ويأخذ الأمور بالتي هي أحسن وبهدوء وعظمة، ولكنه غَيَّر العالم.

    وكذلك الفرنسي الآخر الذي يقول: كان محمدٌ يصلح بين الشعوب وهو يشرب فنجان القهوة في بيته في المدينة، والقهوة لم تكتشف إلا في القرن السادس، لكنه ظن أن القهوة قديمة، وبعض الناس أتى من بلاد غير بلاد العرب، فرأى العرب يشربون القهوة، فأخذ يشربها، قال: هذه القهوة تؤلمني، لكن -والله- لما علمت أنها من السنة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشربها؛ شربتها، قلنا له: ليست من السنة، قال: لا. أنتم تشربونها وكل شيء تفعلونه من السنة، فهو جاهل.

    فهم يظنون أن العرب إذا فعلوا شيئاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم ليسره وسهولته، يعطي كلَّ واحد حَقَّهُ من الإجلال والإكرام والإعظام.

    ومن يتصور أن رسولاً كالرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الأطفال وقتاً من وقته الثمين الغالي، الذي هو أغلى من الذهب والفضة، ويجلس مع الأطفال، فهذا الحديث قضية كبرى، وقصة يتحدث البخاري عنها في باب هو من ضمن الفوائد الستين أو السبعين من الباب.

    ملخص قصة حديث: (يا أباعمير) وفوائدها

    يقول البخاري -وهو يتساءل- لطلبة العلم وللمسلمين: باب الكنية للصبي. هل يحق لنا أن نكني الصبي فنقول: يا أبا محمد! يا أبا علي! وهو لم يتزوج، ولم يكن له أبناء؟

    ثم قال: وقبل أن يولد للرجل، فالرجل الكبير الذي عنده زوجات لكن ليس له ولد، هل نكنيه أم لا؟ فهذه قضية.

    وملخص الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمع بفاجعة ومصيبة وكارثة حدثت في المدينة، وحلت في بيت من بيوت الأنصار، وهذه الكارثة هي موت طائر صغير كالعصفور لطفل كان يلعب به، وهذا الطفل اسمه أبو عمير، فاسمه كنيته، أي: ليس له اسم إنما الاسم الكنية، وهذا جائز في العربية وعند المحدثين، فأُخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا الطفل مات طائره، وقد كان له طائر فربط رجله بحبل ليلعب به في البيت.

    فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، وأتاه الخبر الفاجع، وانتقل عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبي عمير، وهو أخو أنس خادم الرسول صلى الله عليه وسلم ليعزيه، وليرفع له أسمى آيات العزاء والمواساة على هذا الفقيد الغالي الذي أصيبت به الأمة الإسلامية في عقر دارها.

    ووصل صلى الله عليه وسلم بحفظ الله ورعايته ودخل على الصبي، وقال وهو يظهر الأسى: {يا أبا عمير! ما فعل النغير} قال: مات يا رسول الله.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم أظهر التأسف، ومعه شيء من البسمة الرقيقة التي عاشها صلى الله عليه وسلم، وطالما جذب بها القلوب وسبى بها الأرواح، وسوف يأتي بسط لهذه القضية، وما هو الحوار الحار الذي دار بين المعلم الكريم والزعيم العظيم، وبين هذا الطفل الصغير؟ فهذه قضية.

    وصل عليه الصلاة والسلام، وبعد أن انتهى من مراسيم العزاء، قام إلى بساط هناك، فأشار أن ينضح ليصلي بأهل البيت، فصلى بهم ركعتين عليه الصلاة والسلام، وفيها أكثر من عشر قضايا سوف تأتي معنا.

    الداعي لعقد هذا الباب ومكانة الكنية عند العرب

    ولكن قبل أن نتحدث يحق لنا أن نقف مع البخاري قليلاً، ونقول له: ما هو الداعي من عقد هذا الباب؟ وهل أنكر أحد من العلماء أو أهل العلم أن يكنى الصغير بكنية، أو الرجل الذي لم يولد له؟

    سوف يقول لنا: لا. لم ينكر أحد حتى من الجاهليين، ولكن لا نعمل في أدبنا ولا في سلوكنا، ولا في تعاملنا إلا بسنة.

    فهذا هو مراد البخاري الذي يعرف من سياق كلامه، فنقول له: بيض الله وجهك يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وهذا هو الصحيح، وإلا فالجاهليون متعارفون على الكنية، يقول شاعر اليمن وهو يمدح نفسه بحسن الأدب:

    أكنيه حين أناديه لأكرمه     ولا ألقبه والسوءة اللقب

    كذاك أدبت حتى صار من خلقي     أني وجدت ملاك الشيمة الأدب

    يقول: من أدبي أني لا أنبز الناس بألقابهم: وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [الحجرات:11] ولكنني أتحف الرجال بأسمائهم فأكنيهم، يا أبا محمد، يا أبا علي.

    وقد أثر عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: [[ثلاث تورث لك الود في صدر أخيك:

    أولها: أن تناديه بأحب الأسماء إليه -وأحب الأسماء عند العرب أن تكنيه، يا أبا علي، يا أبا عبد الرحيم، يا أبا فلان، هذه الكنى-

    والأمر الثاني: أن توسع له في المجلس.

    والأمر الثالث: أن تبش وتهش في وجهه]]

    وهذه من مدرسة النبوة، ولا يخرج الكنز إلا من هناك، وكلام عمر رضي الله عنه لم يأتِ إلا من مشكاة محمد عليه الصلاة والسلام، والعرب متعارفة -كما قلت- على الكنية، يقول النابغة الذبياني، وهو يخاطب النعمان بن المنذر ملك العراق:

    نبئتُ أن أبا قابوس أوعدني     ولا قرار على زأر من الأسد

    وهذا النابغة شاعر، قد تكلم في عرض النعمان وهو في الصحراء، فتكلم في الملك واتهمه بأمور، فنقل الوشاة والعيون الخبر للملك، فقال الملك: من وجده منكم فليذبحه ذبح الشاة، فذهب يمشي ولا ينام، حتى خاف أن يموت قهراً وكمداً فعاد وقد نظم قصيدتين -لا بأس من إيراد بعضها- وذهب بهما إلى النعمان، منها هذه القصيدة، ومنها قوله، وهي من أحسن وألطف الأشعار في الرقائق والاستجداء، والتلطف، يقول للملك النعمان:

    كليني لهم يا أميمة ناصب      وليل أقاسيه بطيء الكواكب

    تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ     وليس الذي يرعى النجوم بآيب

    إلى أن يقول وهو يشكي همه وحزنه:

    وصدر أراح الليل عازب همه     تضاعف فيه الحزن من كل جانب

    علي لـعمرو نعمة بعد نعمة      لوالده ليست بذات عقارب

    إلى أن يقول للنعمان:

    حلفت يميناً غير ذي مثنوية      ولا علم إلا حسن ظن بصاحب

    ثم مدحه وقال:

    ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب

    ثم أتى فكناه في القصيدة.

    وقالوا: ليس للنعمان ابن اسمه قابوس، وإنما العرب تكني من لا ولد له، فهذا أمر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088519401

    عدد مرات الحفظ

    777085946