إسلام ويب

الممتاز في مناقب ابن بازللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذا الدرس بعض صفات العلامة ابن باز، وبديعات مناقبه، وغزارة علمه، وعليات أخلاقه وسماته، وأعماله ومجالاته، مروراً بالتعريف بشخصه ونشأته وطلبه للعلم، خالصاً من ذلك أن شخص الإمام ابن باز يتمثل فيه شخصية الرجل العالم بدينه، العارف بأحول عصره ومصره، الشفيق على أمته، القريب منهم، فحقاً إنه لبقية السلف فلا زالت رحمات الله عليه وابلة ونفحاته إليه واصلة.
    الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وسيد المتقين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    عنوان هذه المحاضرة: الممتاز في مناقب ابن باز " وكانت آخر محاضرة بعنوان أبو بكر في عصر الذرة، رضي الله عنه وأرضاه.

    أسباب اختيار موضوع التعريف بابن باز

    وأنطلق في هذه المحاضرة" الممتاز في مناقب الشيخ/ ابن باز " من خمس قواعد:

    القاعدة الأولى: قاعدة هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فنثبت الليلة فضل أهل العلم، ومالهم من مكانة بما ورثوه من معلم الخير عليه الصلاة والسلام.

    القاعدة الثانية: قاعدة فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] لنرد الأمة إلى علمائها وإلى مثقفيها ومفكريها.

    القاعدة الثالثة: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ونثبت للناس أنهم أقرب الناس إلى الله إذا عرفوا الكتاب والسنة، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد من الله قرباً.

    القاعدة الرابعة: العلماء ورثة الأنبياء، فإذا هم الذين يحملون ميراث محمد عليه الصلاة والسلام، ويبلغونه للناس، وهم أمناء على رسالته، وعلى ميراثه وعلى تركته عليه الصلاة والسلام.

    القاعدة الخامسة: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] فإذا هم أهل الفقه والاستنباط، وأهل الفهم الدقيق لمعاني (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام).

    وقد يسأل سائل -وقد حدث هذا السؤال قبل المحاضرة-: ما الفائدة أن تخبرنا بسيرة شيخ شهير وخطير وكبير عرفناه وعرفه الأطفال والنساء والكبار؟

    قلت: الفائدة من ذلك ثلاثة أشياء:

    أولاً: نحن نعيش فترة حرجة يجب علينا أن نلتف فيها حول علمائنا، وأن نعرف قدرهم ومكانتهم، ومن أئمتهم سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

    ثانياً: توثيق الصلة بين الجيل وبين العلماء.. فجيل بلا علماء جيل ضائع متهور طائش، وعلماء بلا جيل لا مكانة لهم، فإذا التقى العلماء والجيل كونوا مسيرة خالدة وصحوة مباركة، وهي المقصودة بإذن الله.

    ثالثاً: الذب عن أعراض الصالحين، فأنا أحتسبها هذه الليلة..

    لترم بي المنايا حيث شاءت     إذا لم ترم بي في الحفرتين

    أحتسب ذلك ذباً عن الشيخ وعن عرضه؛ لما سمعت من بعض المتعجلين الذين ما أوتوا بصيرة ولا تقوى إذ وقعوا فيه، ومعنى ذلك: أن نضرب على الدماغ مباشرة، وألا يبقى لعلمائنا مكانة.. فأنا محتسب أجرها على الله، عل الله أن يكتبها في الحسنات.

    وسوف أبحر بكم هذه الليلة مع ربان العلم والحكمة، وأستاذه سماحة الشيخ؛ لنعرف؛ لا عرفان من يعرف مجملاً من حياته، ولا أين ولد ومتى ولد، وماذا يأكل وماذا يشرب.. فهذا تاريخ الأموات، لكني سوف أتحدث هذه الليلة عن تاريخ الأحياء.

    ومن الأسباب التي دعتني لهذه المحاضرة: ألا يقول قائل: ذهب العلماء والصالحون، ولم يبق في الناس بركة.. فنقول: لا. بل بقي فيهم خير، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام عند أحمد وغيره أنه قال: {أمتي كالسيل لا يدرى الخير في أوله، أو في آخره} فلا زال فينا علماء وأدباء وشهداء وشعراء وصالحون وأخيار، فهي أمة معطاءة تنتج كل حين ما دامت متمسكة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

    نسب الشيخ وأسرته

    كنية الشيخ: أبو عبد الله.. وهي كنية المحدثين، وكان البخاري والشافعي ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل كلهم أبو عبد الله.

    واسمه: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز؛ أحد الثلة المتقدمة في العلم بالشرع الإسلامي المنزل على خاتم الرسل عليهم الصلاة والسلام، والممثل في شخصه الكريم مشيخة الإسلام في هذا العصر، والذي وصف بإمام أهل السنة في هذه الفترة؛ المحدث الأثري الفقيه النابغة، مفتي الديار أثابه الله وحفظه.

    ولد في الرياض عاصمة المملكة، في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة عام ثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، في أسرة في مجموعها صلاح، ويغلب على بعضها الاشتغال بالزراعة، وبعضها بالحرف، وبعضها علماء.

    هم القوم يروون المكارم عن أبٍ     وجدٍ كريمٍ سيدٍ وابن سيد

    وهزتهم يوم الندى أريحية     كأن شربوا من طعم صهباء صرخد

    ومن أسرته -حفظه الله- الشيخ/ عبد المحسن بن أحمد آل باز؛ تولى القضاء بـالحلوة، والإرشاد في هجرة الأرطاوية في قبيلة مطير، ومنهم الشيخ المبارك/ ابن عبد المحسن؛ تولى القضاء في بلدان كثيرة كـالطائف وبيشة وحريملة والحلوة.

    نشأته وطلبه للعلم

    نشأ الشيخ على رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، ورضع ثدي النبوة على لا إله إلا الله، وأشرقت نفسه على رسالة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب مجدد التوحيد في الجزيرة وفي كثير من أنحاء العالم الإسلامي، فأخذ العلم أولاً على يد المشيخة، فحفظ كتاب الله عز وجل، وأتاه عمى العينين فازداد قلبه بصيرة، وما ضره عمى عينيه بل زاد حفظاً وورعاً وعلماً.. يقول أحد الشعراء العرب وقد عمي صغيراً:

    عميت صغيراً والذكاء من العمى     فجئت همام القلب جم المشاعر

    وأنزلت في قلبي سواد محاجري     فما خفت في الدنيا سواد المخاطر

    يقول: السواد الذي في عيني أنزلته في قلبي..

    واستفاد الشيخ من العمى أموراً أربعةً:

    أولها: الأجر والمثوبة من الله إن شاء الله.. ففي صحيح البخاري في الحديث القدسي أن الله يقول: {من ابتليته بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} والمقصود بالحبيبتين: العينين، وكانوا يقولون لـيزيد بن هارون الواسطي -وهو سيد المحدثين، وقد سئل عنه ابن تيمية فقال: هو أشهر من أن يذكر، وأكبر من أن يتكلم فيه- قيل له: أين العينان الجميلتان؟ قال: أذهبهما -والله- بكاء الأسحار.

    ثانيها: الذكاء المفرط.. فالشيخ حافظ العصر في علم الحديث، واسأله في حديث عند الستة أو عند غيرهم؛ فستجده في الغالب مذياعاً فصيحاً يستحضر سنده ومن تكلم فيه ورجاله وشرحه.

    فأتوني من أهل العيون المبصرة من يكون كالشيخ في علمه..

    وابن اللبون إذا ما شد في قرنٍ     لم يستطع صولة البزل القناعيس

    عذرت البزل إن هي قارعتـني     فما بالي وبال ابن اللبون

    ثالثها: استفاد الشيخ من عمى عينيه إغفاله مباهج الدنيا وفتنتها وزينتها، فزهد وجمع قلبه على الدار الآخرة، وعلى التواضع والاستكانة لله، ولم يتشتت قلبه.

    رابعها: استفاد من مركب النقص في العينين أن ألح على نفسه وحطم نفسه بالجد والمثابرة حتى أصبح من العلماء، وهذه قضية معروفة، ومن قرأ منكم كتاب" دع القلق وابدأ الحياة " لـدايل كارنيجي وهو يتحدث عن ماذا فعل من أصيبوا بعاهات في الدنيا، وكيف أنتجوا؛ أخبرك أن مكتشف علم كذا وكذا كان أصم، ومكتشف علم كذا كان أعمى، ولك أن تراجع الفصل الثالث عشر في هذا الكتاب.

    واستمر الشيخ يطلب العلم بعد أن فقد عينيه، ولكن قلبه يزداد نوراً، وعوضه الله بذكاء في القلب.. يقول أحد الشعراء:

    رأيتك أعمى العين صار ضياؤها     بقلبك حتى صرت فجراً مبلجاً

    فصار سواد العين في القلب فاغتـدى     ينظم من نور الشريعة منهجاً

    وقيل لـابن عباس -عالم الدنيا- وقد عمي: أحسن الله عزاءك في عينيك.

    إن يأخذ الله من عيني نورهمـا     ففي فؤادي وقلبي منهما نور

    عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج     وفي فمي صارم كالسيف مشهور

    وقد تقلى الشيخ علومه على يد مشايخ فضلاء، ومن أبرز مشايخه -حفظه الله ورعاه- الشيخ/ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ؛ من الأسرة العامرة الموجهة الخيرة، والشيخ/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ قاضي الرياض، والشيخ/ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض؛ العز بن عبد السلام في هذا العصر، والشيـخ/ حمد بن فارس وكيل بيت المال في الرياض، والشيـخ/ سعد وقاص البخاري؛ من علماء مكة أخذ عنه التجويد، وسماحة الشيخ العظيم الجليل/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ؛ المفتي الأجل، لازمه عشر سنوات، واستفاد منه فوائد باهرة.

    هؤلاء مشيخة الشيخ، وتستمر الحال بالشيخ، فلا يفتر ليل نهار يبحث عن العلم ويطلبه من مظانه، وفي حياته درس على أن الإنسان بإمكانه مع الفقر والعمى والعوز -إذا صدق مع الله- أن يحصل علماً، وأن يستفيد إذا صدق قلبه.. وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

    يقول الشوكاني عالم اليمن: كنت في أثناء الطلب متهاوناً، فقرأت أبياتاً للشريف الرضى يمدح فيها الهمة العالية، فزادتني همة.. يقول الشريف الرضى متحدثاً عن نفسه:

    أقسمت أن أوردها مرةً     وقاحةً تحت غلامٍ وقاح

    إما فتىً نال المنى فاشتفى     أو فارس زار الردى فاستراح

    وقد قلت في بيتين على بيتي الشريف الرضى:

    إذا سألت الله في كل ما     أملته نلت المنى والفلاح

    بهمةٍ تخرج ماء الصفا     وعزمةٍ ما شابها قول آح

    ومما يذكر في الهمم والإصرار والجد والمثابرة: أن عنترة بن شداد كان يغلب الفرسان، وكان يبطح الأبطال، وكان يذبح الكماة.. فقيل له: كيف تصبر؟ كيف تكون مقداماً؟ فقال للقائل: أعطني إصبعك فأعطاه إصبعه، فأخذها في فمه، وأعطاه عنترة إصبعه فوضعها في فمه، ثم قال: عض إصبعي وأعض إصبعك، والصابر منا من يثبت. فعض هذا وعض هذا، فقال ذلك: آه، فانطلقت إصبع عنترة، فقال: بهذا غلبت الناس.

    قال الله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] وقال: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140].

    سقيناهم كأساً سقونا بمثلها      ولكننا كنا على الموت أ صبرا

    والذي يريد أن يحصِّل عليه أن يقرأ سيرة الشيخ.. وأنا أعلم أن من السلف الصالح من هو أعلم بكثير، لكن علينا أن ننظر إلى رجل حي بين أظهرنا يمثل العلم في القمة، وقد حصل عليه مع فقر وعوز، والكتب ليست متوفرة، والطباعة كانت ضعيفة، ووسائل التنقل ما كانت بذاك، والرجل أعمى؛ ومع ذلك حصَّل وحصَّل حتى وصل إلى ما وصل إليه.. فأين الشباب؟ مع أن العلم متوفر، والطباعة سهلة، والمجلدات كثيرة، والجامعات مفتوحة، والأساتذة كثر، والعلماء متوفرون، وفي الثقافة غزارة.. فأين من يطلب العلم؟

    خرج القفال الشاشي، وفي الطريق أراد أن يطلب العلم وعمره أربعين سنة.. فنحن نطلب العلم في الأربعين وفي الخمسين وفي الستين، وعلينا ألا نصدِّق كانت ولا ديكارت الذين قالوا: لا. العلم في الصغر فحسب.. يقول البخاري في الصحيح في كتاب العلم: وتعلم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام في الكبر.. فنتعلم ولو كنا كباراً.

    ذهب القفال وعمره أربعون، فقال: كيف أطلب العلم؟ ومتى أحفظ؟ ومتى أفهم؟ ومتى أعلم الناس؟ فرجع، فمر بصاحب سانية يسوق على البقر، وكان هذا الحبل يقطع الصخر من كثرة ما مر، فقال:

    اطلب ولا تضجر من مطلـبٍ     فآفة الطالب أن يضجرا

    أما ترى الحبل بطول المدى     على صليب الصخر قد أثرا

    واستمر يطلب العلم وأصبح إماماً شافعياً من جهابذة الدنيا.

    فلا بد من الطموح والهمة العالية، واستعذاب المنايا، والمخاطرة بالنفس؛ حتى تصل إلى المطلوب وإلى الهدف السامي.

    حفظ الشيخ -جزاه الله خيراً- القرآن، وتعلم كتب العقيدة على مذهب السلف الصالح، وهو الذي يمثل الآن من العلماء الوجهة الصحيحة لمذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وفي مجمل وتفاصيل المعتقد، وأكب الشيخ على كتب شيخ الإسلام/ ابن تيمية وابن القيم.. وفيهما النفع الكثير، وهي تغذي طالب العلم غذاءً هائلاً، وهي تختصر المسافات، وفيها بركة من رجلين خطيرين عبقريين أثريا المكتبة الإسلامية والثقافة المؤمنة. وكان الشيخ يعتمد على كتب الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب، وينثرها في محاضراته وخطبه وكلامه، ويدعو إلى المنهج السديد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088526764

    عدد مرات الحفظ

    777137591