الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلمٍ في مخيلته: ليلة وهو في بيته مع أطفاله وأهله، منعماً سعيداً.. في عيشٍ رغيد، وعافية وصحة، يضاحك أطفاله ويضاحكونه، مع زوجته وأقاربه، والليلة التي تليها مباشرة ليلة أتاه الموت فوضع في القبر لأول مرة يقول الشاعر العربي:
يقول: انتقلت من مكان إلى مكان، وذهبت من موضع نومي في بيتي إلى بيتٍ آخر؛ فما أتاني النوم، فبالله كيف تكون الليلة الأولى في القبر حين يوضع الإنسان فريداً وحيداً إلا من العمل؟ لا زوجة ولا أطفال ولا أنيس:
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ
[الأنعام:62].
أول ليلة في القبر؛ بكى منها العلماء، وشكا منها الحكماء، ورثى فيها الشعراء، وصنفت فيها المصنفات.
أُتي بأحد الصالحين وهو في سكرات الموت، قد لدغته حية، وكان في سفرٍ فنسي أن يودِّع أمه وأباه، وأطفاله وإخوانه، فقال قصيدةً يلفظها مع أنفاسه، وتعتبر أم المراثي العربية في الشعر العربي، يقول وهو يزحف إلى القبر:
يقول: كيف أفارق أطفالي في لحظة؟ لماذا لم أستأذن أبوي؟ أهكذا تختلف الحياة؟ أهكذا أذهب؟ أهكذا أفقد كل ممتلكاتي ومقدراتي في لحظة؟
ويقول عن نفسه: يقول لي أصحابي والذين يتولون دفني: لا تبعد، أي: لا أبعدك الله، وأين مكان البعد إلا هذا المكان؟ وأين الوحشة إلا هذا المنقلب؟ وأين المكان المظلم إلا هذا المكان؟ فهل تصور متصورٌ هذا؟
قال تعالى:
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
[المؤمنون:99-100] كلا! آلآن تراجع حسابك؟ آلآن تتوب؟! آلآن تنتهي عن المعاصي؟!
يا مدبراً عن المساجد ما عرف الصلاة! يا معرضاً عن القرآن! يا منتهكاً لحدود الله! يا ناشئاً في معاصي الله! يا مقتحماً لأسوارٍ حرمها الله! آلآن تتوب؟ أين أنت قبل ذلك؟
حزن زوجة الحسن بن الحسن على زوجها
أبو العتاهية يعظ هارون الرشيد
أتى
أبو العتاهية يقول لسلطان من السلاطين الذين غرتهم قصورهم، وما تذكروا أول ليلةٍ ينزل فيها القبر، ونحن نقول لكل عظيمٍ ومتكبرٍ ومتجبر: أما تذكرت أول ليلة؟
هذا السلطان بنى قصوراً في بغداد، فدخل عليه الشاعر يهنئه بالقصور، ويقول له:
عش ما بدا لك سالماً، عش ألف سنة، أو مليون سنة سالماً معافى مشافى، وما تريد من طعام وشراب فهو عندك، لكن اسمع ما يقول:
فبكى السلطان حتى أُغمي عليه.
أول ليلة في القبر، وأنا أطالب نفسي وإياكم -يا معاشر المسلمين- أن نهيئ لنا نوراً في القبر أول ليلة، فوالله لا ينور لنا القبر إلا الإيمان والعمل الصالح، فلنقدم لنا ما يؤنسنا في القبر؛ يوم ننقطع عن الأهل والمال والولد والأصحاب.
قصة ذي البجادين
عمر بن عبد العزيز وتذكره الموت
كان
عمر بن عبد العزيز أميراً من أمراء الدولة الأموية يغيِّر ثوب من ديباج في اليوم أكثر من مرة، الذهب والفضة عنده، والخدم، والقصور، والمطاعم، والمشارب، وعنده كل ما اشتهى وطلب وتمنى، ولمّا تولى الخلافة، وملك الأمة الإسلامية، انسلخ من ذلك كله؛ لأنه تذكر أول ليلة في القبر، وقف على المنبر -يوم الجمعة- فبكى وقد بايعته الأمة، وكان حوله الأمراء والوزراء، والشعراء والعلماء، وقواد الجيش، قال: [[
خذوا بيعتكم، قالوا: لا نريد إلا أنت]] فتولاها، فما مر عليه أسبوعٌ أو أقل إلا وقد هزل وضعف وتغيَّر لونه، وما عنده إلا ثوبٌ واحد، قالوا لزوجته: ما لـ
عمر قد تغير؟ قالت: والله لا ينام الليل، والله إنه يأوي إلى فراشي فيتقلب كأنه ينام على الجمر، ويقول: [[
آه! توليت أمر أمة محمدٍ؛ يسألني يوم القيامة الفقير والمسكين والطفل والأرملة]].
يقول له أحد العلماء: يا أمير المؤمنين! رأيناك قبل أن تتولى الملك وأنت في مكة في نعمةٍ وصحة وعافية، فما لك تغيرت؟ فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، ثم قال للعالم وهو ابن زياد: كيف يا ابن زياد لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام؛ يوم أجرد عن الثياب، وأوسد التراب، وأفارق الأحباب، وأترك الأصحاب، كيف لو رأيتني بعد ثلاث، والله لرأيت منظراً يسوءك. فنسأل الله حسن العمل.
والله لو عاش ألف سنة وما طرقه همٌ ولا غمٌ ولا حزن، والله لا يفي بأول ليلةٍ في القبر، ووالله لننزلنَّها جميعاً.
القبر أول منازل الآخرة
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أتيت قبور الرؤساء والمرءوسين.. الملوك والمملوكين.. الأغنياء والفقراء، فناديتها: أين المعظم والمحتقر؟
أرأيت أن قبراً مُيِّز عن قبر؟! أأنزل الملك في قبرٍ من ذهبٍ أو من فضة؟! والله لقد ترك ملكه، وقصوره، وجيشه، وكل ما يملك، ولُبِّس قطعة من القماش كما نلبس، وأنزل التراب.
صور من العاملين للآخرة