إسلام ويب

من أعذب الشعرللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد حديث مقتضب عن قوله تعالى: ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) يذكر الشيخ بعض الفوائد للشعر، وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يتقن صنعته ولا إنشاده.

    وتتنوع المختارات الشعرية في هذه المادة في الموضوع والزمان؛ فهي تشمل المدح والوصف والرثاء وغير ذلك من الأغراض الشعرية، كما أنها منتقاة من مختلف العصور، في الجاهلية، وفي الإسلام، وفي عصر الدولة الأموية والعباسية، وفي العصر الحديث.

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    هذه المحاضرة بعنوان "من أعذب الشعر" في (10/3/1411هـ) مساء السبت في مدينة أبها.

    أرجو من أصحاب التسجيلات، أن يراعوا أرقام المحاضرات، لأن معرفة التسلسل ينفع السامع، فهذه المحاضرة تأخذ رقم (301) في المحاضرات.

    إن الله سبحانه وتعالى ذكر الشعراء في القرآن، فقال سبحانه وتعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:224-227].

    لما أنزل الله عز وجل هذه الآيات، أتى حسان بن ثابت وابن رواحة وأمثالهم من الصحابة الشعراء يبكون عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: مالكم؟ قالوا: يا رسول الله! ربنا يقول: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] ونحن شعراء، فأنزل الله عز وجل قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227].

    وأسباب هذه المحاضرة ثلاثة:

    الأمر الأول: ينبغي للواعظ والخطيب وطالب العلم أن يكون عنده أبيات يتمثل بها، والشعر فيه كمال وارتياح، وفيه حكمة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة).

    الأمر الثاني: الشعر ترويح عن النفوس، فإن المحاضرات إذا كانت كلها جدية وكلها صارمة؛ ملت النفوس، فلا بد من التنويع خوف الملل والسأم.

    الأمر الثالث: حتى يكون هذا الشريط لمن أراد أن يحفظ بعض الأبيات، فإنكم سوف تسمعون أكثر من مائة بيت في هذه الليلة إن شاء الله، تكون للخطيب والواعظ والمعلم والمربي على طرف لسانه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يستشهد أحياناً بالأبيات.

    نعم. لم يكن صلى الله عليه وسلم شاعراً، والله يقول: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] ولماذا؟

    لأنه لو كان ينظم الشعر لقالت سادات قريش: إنه نظم القرآن شعراً، لقد قالوا: هو الذي افترى القرآن، جل كتاب الله عن الافتراء، كما حكى عنهم ربنا في كتابه فقال: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] فكيف لو كان ينظم الشعر؟!

    وكذلك كان إذا استشهد بالأبيات أحياناً يكسرها، ولا يأتي بها مستقيمة صلى الله عليه وسلم، مع أنه أفصح الناس، فقد ذكر أنه صلى الله عليه وسلم قسم بعض الغنائم بين شيوخ ورؤساء العرب، فأعطى عيينة بن حصن سيد غطفان مائة ناقة، وأعطى سيد بني تميم مائة ناقة، وأعطى عباس بن مرداس خمسين ناقة، وهو شيخ مثل المشايخ، ولكن لماذا أنقصه خمسين ناقة، لأنه انتهى العدد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد هذا الرجل في نفسه، فعمل أبياتاً وقال:

    أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

    العبيد: يقصد فرسه لأن فرسه اسمه العبيد.

    وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع.

    يقول: لماذا أعطيتني أقل منهم وأبوهم ما كان يفوق أبي في المجامع العامة؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام وجعل يردد الأبيات ويقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة، والبيت: بين عيينة والأقرع حتى يستقيم، فتبسم أبو بكر وكان رجلاً أديباً فصيحاً، وقال: صدق الله حيث قال: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69].

    وما كان يحفظ الأبيات، إذ هو لا يكتب ولا يقرأ ولا يخط حرفاً، وكان في صدره مع ذلك كل القرآن، يقول سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2]

    ما كان يعرف أن يكتب حتى محمد بن عبد الله، وإذا قلت له: اكتب (باسم الله) لا يعرف، وقد أتى بهذه الحكمة وهذه الشريعة وهذا الدستور وهذا الحديث كله صلى الله عليه وسلم، ولم يسقط حرفاً من القرآن، ومع ذلك ما كان يحفظ الشعر.

    قصيدة حسان في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام

    حسان بن ثابت توعد المشركين بقصيدة رنانة طنانة قوية ساحقة، توعدهم قبل غزوة الفتح، يقول حسان في قصيدته البديعة جمل الله حياته، وقد فعل وبيض الله وجهه، يقول:

    عدمنا خيلنا إن لم تروها     تثير النقع موعدها كداء

    و كداء: جبل في مكة، يقول: اللهم لا تجعل خيلنا تعود علينا إذا لم تنثر الغبار على رءوس المشركين.

    تظل جيادنا متمطرات     تلطمهن بالخمر النساء

    ثم التفت إلى أبي سفيان وقال:

    أتهجوه ولست له بكفء     فشركما لخيركما الفداء

    هجوت محمداً فأجبت عنه     وعند الله في ذاك الجزاء

    وقد كان جزاؤه الجنة.

    وكان عليه الصلاة والسلام يقرب المنبر لـحسان في المسجد، ويقول: {اهجهم وروح القدس معك} يقول: اهجُ المشركين ومعك جبريل يؤيدك، فكان حسان لا يحضر القصائد في البيت، ولا يتذكر، وإنما يجلس على المنبر، فيأتيه الشعر مثل السيل، فلما قال قصيدته القوية ضد المشركين، أتى بعد سنة ففتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وأسقطها في يديه من أربعة أماكن، خالد بن الوليد من جهة، والزبير من جهة، وسعد بن عبادة من جهة، والرسول صلى الله عليه وسلم من جهة، وإذا بخيل خالد تدخل وتخترق مكة، وتخرج النساء مثل الصورة التي ذكرها حسان في الأبيات:

    تظل جيادنا متمطرات     تلطمهن بالخمر النساء

    فخرجت نساء مكة، يضربن الخيول بالأقنعة والخمر فتبسم صلى الله عليه وسلم لما رأى هذا الحادث فيقول لـأبي بكر وهو حوله: كيف يقول حسان؟ قال: يقول يا رسول الله:

    تظل جيادنا متمطرات     تلطمهن بالخمر النساء

    قال: صدق.

    دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن رواحة

    وأتى عبد الله بن رواحة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يا رسول الله اسمع مني أبياتاً قلتها فيك، قال: قل، قال:

    فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

    قال: وإياك فثبت}.

    يقول: أسأل الله أن يثبت ما آتاك من حسن مثلما ثبت موسى عليه السلام، ونصرك مثلما نصر موسى، قال صلى الله عليه وسلم: {وإياك فثبت}.. فثبته الله حتى مات شهيداً.

    الرسول صلى الله عليه وسلم والنابغة الجعدي

    ثم استقبل عليه الصلاة والسلام قبائل العرب، فدخل النابغة الجعدي وكنيته أبو ليلى، وجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الثمانين من عمره، فقال: يا رسول الله عندي أبيات نظمتها فيك، قال: قل.

    إن الرسول صلى الله عليه وسلم واسع الصدر حليم، بعض الناس تجده ضيقاً لا يسمع الدعابة، ولا يسمع القصائد، ولا يسمع سوالف الناس، ولا قصص الناس، ولكن هذا البحر الحليم الذي بعثه الله رحمة للناس يسمع أخبار الناس، لأن الإنسان يتأثر؛ ولذلك الدعوة تستمع للناس ولأخبارهم وقصصهم وأعلامهم، وهذا من اللطائف، يقول جابر بن سمرة: كان عليه الصلاة والسلام يجلس معنا بعد الفجر في المسجد، فنتحدث في أخبار الجاهلية، فيستمع، ونضحك ويتبسم، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن الناس إذا تحدثوا في الدنيا تحدث معهم، وإذا تحدثوا في المال تحدث معهم، حتى تأتي الغيبة فيسكت ويأمر الناس بالسكوت، وهذا هو أدبه صلى الله عليه وسلم، قال النابغة: قلت يا رسول الله أبياتاً، قال: قل، قال:

    تذكرت والذكرى تهيج على الفتى     ومن عادة المحزون أن يتذكرا

    قال: هيه -أي زد-.

    قال:

    فلما قرعنا النبع بالنبع لم تكن     على البعد في عيدانه أن تكسرا

    يمدح قومه، ثم يقول:

    سقيناهم كأساً سقونا بمثلها     ولكننا كنا على الموت أصبرا

    وننكر يوم الروع ألوان خيلنا     من الضرب حتى نحسب الجو أشقرا

    يقول: يوم الهول نضارب الأعداء حتى تتلطخ خيولنا بالدم، حتى نظن أن الجون -وهو الأبيض- أحمر، ثم يقول في قومه:

    بلغنا السما جوداً ومجداً وسؤددا     وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

    يقول: يا رسول الله أنا وقومي بلغنا السماء من الكرم، وعسانا نبلغ فوق السماء، فتبسم صلى الله عليه وسلم وضحك وقال: {أين المظهر يا أبا ليلى؟! قال: إلى الجنة يا رسول الله، قال: لا يفضض الله فاك} والجنة فوق السماء، وسقفها عرش الرحمن، وعسى الله أن يدخلنا وإياكم الجنة.

    ومعنى (لا يفضض الله فاك) أبقى الله أسنانك، وهذه دعوة تقال للشاعر إذا أجاد، فبقي مائة وعشرين سنة ما سقط له ضرس ولا سن، بدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    حديث عمرو بن الشريد

    وعند مسلم في صحيحه عن عمرو بن الشريد قال: ركبت خلف الرسول صلى الله عليه وسلم على بغلته ردفه وراءه مباشرة، يلاصق جسمي جسمه، فلما مشى قليلاً -انظر من هو هذا الراكب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم معلم البشر سيد الخلق شفيع الناس يوم القيامة الذي ما خلق الله أطهر منه- قال لي: يا عمرو تحفظ لـأمية بن أبي الصلت شعراً؟

    و أمية بن أبي الصلت من أهل الطائف مات كافراً، آمن شعره وكفر قلبه، لأنه كان يرجو أن ينزل الله عليه النبوة، فلما جعل الله النبوة في الرسول صلى الله عليه وسلم حسده وكذب دعوته ومات كافراً، قال: تحفظ له شعراً؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: هيه، أنشدني، قال: فأنشدته بيتاً فقال: هيه، فزدته بيتاً، فقال: هيه، فزدته؛ قال: حتى أنشدته مائة بيت.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088538494

    عدد مرات الحفظ

    777202703