إسلام ويب

أتاكم جبريل يعلمكم دينكمللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حديث جبريل الطويل؛ من أعظم الأحاديث بياناً لأصول الدين، وقد اعتنى العلماء بشرحه والاستنباط منه.

    والشيخ في هذا الدرس شرح لهذا الحديث العظيم، وهو من ضمن شروحه لأحاديث في صحيح البخاري.

    إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة،ونصح الأمة، ورفع راية لا إله إلا الله.

    إن البرية يوم مبعث أحمدٍ     نظر الإله لها فبدل حالها

    بل كرم الإنسان حين اختار من     خير البرية نجمها وهلالها

    لبس المرقع وهو قائد أمةٍ     جبت الكنوز فكسرت أغلالها

    لما رآها الله تمشي نحوه     لا تبتغي إلا رضاه سعى لها

    في الأثر: (إن الله سبحانه نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب).

    ثم أغاث الله الناس بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى أهل البيوت التي بنيت من الشجر، وفي كهوف الجبال ومن الأعلاف، وجاء إلى أهل الثياب الممزقة من الأعراب والقبائل المتناحرة المتقاتلة، فجمعهم تحت راية لا إله إلا الله، فكان صلى الله عليه وسلم يحفر الخندق في غزوة الأحزاب، ومعه المعول بيده الشريفة، وقد ربط على بطنه حجرين من الجوع صلى الله عليه وسلم، وأخذ المنافقون يتسللون لواذاً ويفرون، ويقولون: أيعدنا هذا أن نفتح قصور كسرى وقيصر، ولا يأمن أحدنا أن يبول في هذا المكان، ثم يتضاحكون كلما أخبرهم صلى الله عليه وسلم، فينزل عليه أفضل الصلاة والسلام، فيضرب بمعوله في الأرض، فإذا بنورٍ يلمع فيقول: (أريت قصور كسرى، وقد أرانيها الله سبحانه وتعالى وسوف يفتحها على أمتي، ثم ضرب ضربة أخرى فإذا نورٌ يلمع فقال: وهذه قصور قيصر أرانيها الله سبحانه وتعالى وسوف يفتحها على أمتي).

    ونفذ الله سبحانه وتعالى ما وعد، وصدق الله ورسوله، ففتحنا بلا إله إلا الله ثم بالسيوف المثلمة وبالرماح التي مضى عليها الأمد قصور الدنيا، وعبرنا المحيطات والبحار بلا إله إلا الله، وصار الأعراب أمراء على الأقاليم، حتى إن سعداً رضي الله عنه لما دخل المدائن عاصمة كسرى بكى، ثم قال: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:25-29].

    مرت سحابة على بغداد، فذهبت ولم تمطر فقال هارون الرشيد: أمطري أنى شئتِ؛ فإن خراجك سوف يأتيني بإذن الله.

    فأينما ذكر اسم الله في بلد     عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني

    ونحن في مثل هذه الأوقات نجلس في رياض محمد صلى الله عليه وسلم، مع المعلم الأول، مع الذي رفع رءوسنا يوم كانت مخفوظة، والذي فتح قلوبنا بعد أن كانت غلفاً، وفتح أعيننا بعد أن كانت عمياً، وأسمع آذاننا بعد أن كانت صماً، فرفع رءوسنا على الأمم حتى قال الله فينا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] في تاريخ الإنسان وحياته هم خير أمةٍ أخرجت للناس وذلك إذا كانوا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.

    وكما أسلفنا في بعض الأحاديث التي مرت، وهي من رياض محمد صلى الله عليه وسلم نكتبها في كل درس، والمقصود هو اتصال القلوب بهذا النور الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم؛ التمسوها في السبع والتسع والخمس) وقد أتى الإمام البخاري بهذا الحديث في باب الإيمان.

    من أخبار عبادة بن الصامت

    عبادة بن الصامت أحد الأصحاب الأخيار الأحباب؛ الذين رباهم صلى الله عليه وسلم على عينٍ وبصرٍ وسمع، كان من العلماء بالله، وليس من علماء الدنيا الذين يحفظون المتون، ثم يبطلون مفعولها في الأرض، كان يعلم علماً للآخرة، ولذلك عده عمر رضي الله عنه من الحفاظ، فأرسله إلى الشام معلماً ومربياً هناك، ورسولاً من رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقاليم، فكان يجلس من بعد صلاة الفجر حتى الضحى يعلمهم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان يتعرض للأمراء ويمقتهم في مجلسه، وأمير الشام آنذاك معاوية بن أبي سفيان، فاشتكاه معاوية إلى عمر فاستدعاه عمر وقال: [[ما لك تنقم على معاوية؟ قال: إنه يأخذ المال وينفقه كيف يشاء، ويفعل ويفعل، قال: عد إلى الشام فقبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك]].

    ذلك لأن الأرض التي لا تطلع عليها شمس الرسالة هي أرضٌ ملعونة، فقال عمر [[ قبح الله أرضاً لست فيها أنت وأمثالك، فعد إلى الشام]].

    وكتب إلى معاوية: [[ لك إمرة على أهل الشام جميعاً إلا على عبادة، فليس لك إمرة عليه فهو أمير عليك وأنت لست بأمير عليه]].

    فلما ذهب عبادة إلى هناك كان يقول ويفعل على نور من الله سبحانه وتعالى، يتكلم معاوية وهو مسدد خال المؤمنين رضي الله عنه، ولكن الأنصار ربما لا تعجبهم بعض الكلمات التي تصدر فيتأولون، فيقوم عبادة ويقاطع كلام معاوية ويقول: لا سمع ولا طاعة، فيقول معاوية: ما لك يا عبادة؟ قال: [[إنك ما كنت معنا يوم بايعنا رسول صلى الله عليه وسلم على أن نقول الحق لا نخشى لومة لائم]] فهو من أهل العقبة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت يد الله فوق أيديهم، فصدقوا ما عاهدوا عليه الله عز وجل.

    ولذلك يقول عبد الله بن رواحة: {لما بايعنا رسول صلى الله عليه وسلم قمت من وسط القوم وكنت شاباً، فقلت: يا رسول الله ما لنا إذا بايعناك؟ وما علينا إذا بايعتنا؟ قال: فحصبني الأنصار -يعني: رجموه بالحجارة حياءً من الرسول صلى الله عليه وسلم- فقال لهم صلى الله عليه وسلم: لي عليكم أن تمنعوني مما تمنعوا منه نسائكم وأولادكم وأموالكم؛ فإذا فعلتم ذلك فلكم الجنة، فقام ابن رواحة فقال: ربح البيع؛ لا نقيل ولا نستقيل}.

    فأخذها بيعة عند الله عز وجل، فوفى لله بما بايع: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].

    كراهة الشجار ولو في أمر بمعروف

    أما مسائل الحديث فالأولى منها: كراهية التلاحي والشجار ولو أنه في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر، ولذلك خرج صلى الله عليه وسلم على الصحابة وهم في المسجد مجتمعون ينتظرونه صلى الله عليه وسلم؛ فأراد أن يخبرهم بليلة القدر ويخبرهم بأن وقتها ليلة كذا، حتى لا يتعبوا ولا تصيبهم مشقة في البحث عن ليلة القدر، فتشاجر رجلان من المسلمين وهم جلوس، وهذان الرجلان هما كعب بن مالك رضي الله عنه، وابن أبي حدرد رضي الله عنه وأرضاه من الأنصار، كان بينهم مسألة خفيفة، فارتفعت أصواتهم، فغضب صلى الله عليه وسلم، فعاد ولم يخبر الناس، ولم يحدثهم تلك الليلة، ثم قال لهم: {إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلانٌ وفلان}.

    أخبر بأسمائهم صلى الله عليه وسلم، ولكن الراوي لم يخبرنا بأسمائهم تشريفاً لهم؛ لأنه موطن شجار لا يذكرون فيه، أما لو كان موطن مدح ورفعة وتقدير وفداء وتضحية، لكان أخبرنا بهما رضوان الله عليهم وأرضاهم.

    {فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان -أي تشاجر فلان وفلان- فرفعت}.

    قال أهل العلم: كان يعرفها صلى الله عليه وسلم فأنسيها من الله عز وجل، وقال بعضهم: إنه يعرفها ولا يزال يعرفها، ولكن رفع الأمر بتعريف الناس بها، والصحيح أنه كان يعرفها صلى الله عليه وسلم ثم أنسيها، ولو كان يعرفها لأخبر بها الناس، فإنه يقول: {فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس} السبع والتسع والخمس التي ذكرها صلى الله عليه وسلم من ليالي رمضان، وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم السبع؛ لأنها الراجح، وعليه كلام أبي بن كعب سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه، وكلام ابن مسعود وعائشة، ولكن الظاهر من الأدلة أنها تتنقل، وأنها لا تثبت، ولكن أرجحها وأرجح ما تأتي في ليلة السبع.

    من أدب الجدال خفض الصوت

    الشجار مذمومٌ في كل شيء، وقد نهى الله عن المجادلة إلا بالتي هي أحسن، ومن أدب الجدال الحسن ألا ترفع الأصوات؛ لأن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2].

    قال أهل التفسير: نزلت في أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما عندما أتى وفد بني تميم، واختلفوا أيهم يؤمر على قومه، فقال أبو بكر: أرى أن يؤمر القعقاع بن معيد وقال عمر: أرى أن يؤمر الأقرع بن حابس.

    فلما سمع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم سكت فقال أبو بكر: ما أردت يا عمر إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما على رسول صلى الله عليه وسلم، فلما أنزل الله ذلك، قال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم: والله لا أكلمك إلا كأخي السرار، أي: أخفض صوتي لك، وكان صلى الله عليه وسلم لا يسمع عمر حتى يستفهمه من لطافة صوته وأدبه مع رسول صلى الله عليه وسلم.

    فالمقصود أن رفع الصوت ليس من الأدب في الأخذ والعطاء، ولذلك يقول سبحانه وتعالى في وصية لقمان لابنه: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] لأن صاحب الحق صوته متزنٌ ووقور.

    وإنما يرفع الصوت في مقامات وردت بها السنة، منها الخطابة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته، ويشتد غضبه، وتحمر عيناه الشريفتان كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم.

    ومنها الصوت عند النداء في المعركة، إذا نادى بالإقبال على المعركة؛ فإنه يرفع الصوت كما فعل العباس في حنين رضي الله عنه وأرضاه.

    فمسائل هذا الحديث أن الشجار قد يرفع البركة ولو كان في خير، وأن الاختلاف والتنازع مذموم، فلبركته صلى الله عليه وسلم أتى ليخبر الناس، فلما تشاجروا رفعت هذه البركة، ولعل رفع الله خير من الزهد في العمل في التماس هذه الليلة، ومن أسرار هذا الدين أن بعض الأمور فيه مبهمة، لم يخبرنا الله سبحانه وتعالى بها، فساعة الجمعة لم يخبرنا بها نصاً؛ وإنما تلميحاً، وهي في آخر ساعة من ساعات الجمعة على الصحيح، فبقيت ساعة الجمعة مختفية ومبهمة، لنجتهد ونبذل وسعنا فيما يقربنا من الله عز وجل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088510970

    عدد مرات الحفظ

    777037035