لما آمن السحرة لموسى وما جاء به من الحق عاد فرعون لطغيانه وجبروته وكفره، فاتهم السحرة مهددهم بالقتل والصلب؛ لكنهم كانوا قد عرفوا الحق وخالطت قلوبهم بشاشة الإيمان ففضلوا القتل على الردة.
وإذا بهؤلاء الشهداء وقد أنذرهم وتوعدهم وتهددهم فرعون يتحدونه بكل صلابة وإيمان، فكانوا القدوة والأئمة لكل مظلوم يكره على الكفر وقد بان له الحق وأتته البينات، فيثبت متحدياً الأباطرة والظلمة والجبابرة.
وإذا بهؤلاء السادة الموحدين التائبين العابدين يجيبون فرعون ويقولون:
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
[طه:72] .
أجابوا فرعون محتقرين له أمام هذه الجموع الحاشدة من أهل البلد.
وقولهم:
لَنْ نُؤْثِرَكَ
[طه:72]:
أي: لن نختارك، ولن نقدمك، ولن نعبدك بعد اليوم، ولن نرتكب سحراً حتى ولو عشنا.
لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
[طه:72]:
أي: ما كان لنا أن نختارك ونقدمك بعد اليوم، وقد رأينا هذه البينات الفاضحات، والمعجزات الواضحات، وما أتى دليلاً على صدق موسى وهارون من أنهما نبيان رسولان جاءا ليبلغا الحق والهدى عن الله تعالى.
وكانت البينات بالنسبة لهم هذه العصا التي ازدردت كل العصي والحبال التي جاءوا بها، وهم أعلم بالسحر من فرعون؛ فعرفوا أن هذا لم يكن سحراً أبداً، وأنه دلالة أكيدة صادعة من الله الخالق المحيي المميت، وليس ذلك سحراً، وليس ذلك شعوذة.
وكانوا من قبل عندما حضهم موسى قبل الشروع في السحر ودعاهم إلى الله قائلاً:
لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى
[طه:61]؛ أخذوا يترددون ويقولون: ليس هذا بقول ساحر، ليس هذا بقول مشعوذ، بل هذا الكلام لا يخرج إلا من في نبي، وخاصة في مثل هذه المواقف.
قال هؤلاء التائبون لفرعون الكاذب:
لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا
[طه:72]:
أي: لن نختارك ولن نقدمك على هذه البينات وعلى الله الذي خلقنا وأنشأنا، والذي أرسل لنا موسى وهارون لنعلم الحق من الباطل ونخرج من الوثنية إلى عبادة الله الواحد، ونترك الأصنام حية كانت أو ميتة، ونترك هذا الباطل الذي تعيشون فيه.
وقد يكون قولهم:
وَالَّذِي فَطَرَنَا
[طه:72] قسماً؛ أي: ونقسم على ذلك بالله الذي أنشأنا على غير مثال سابق، وأوجدنا بلا مواد سابقة، وأوجد المواد التي كوننا منها كالتراب.
أو: لن نؤثرك ولن نختارك على البينات الهاديات والمعجزات الواضحات، وربنا الذي فطرنا وخلقنا، فربنا هو المختار لنا والمعبود وحده بعد اليوم.
قولهم:
فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ
[طه:72]: أي: اصنع ما أنت صانعه، وافعل ما أنت فاعله، فاقتل واصلب وقطع.
إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
[طه:72]:
أي: لن يكون لك ذلك إلا في هذه الحياة غير الدائمة، هذه الحياة التي لم تكن ثم كانت، وهي إلى عدم بعد ذلك ويبقى الله الواحد القهار.
فلن نؤثر الفاني على الدائم، ولن نؤثر الباطل على الحق، ولن نؤثر الإله الكاذب على الإله الحق فاطرنا وخالقنا جل جلاله.
وقولهم:
إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
[طه:72]:
أي: لن تستطيع أن تفعل شيئاً إلا في هذه الأيام القليلة التي ابتلي بك قومك، وابتلينا نحن كذلك بك ليختبر الله صدقنا بعد أن أرسل لنا نبيين كريمين، وبعد أن بدت لنا العلامات والبينات على صدقه.
ثم عادوا فقالوا بكل شجاعة وبكل يقين وإيمان بما بقوا به أئمة ورموزاً للحق والدعاة للحق مهما لقوا في سبيل الله من الجبابرة والطغاة، وما أكثرهم قبل وبعد، قالوا له بعد ذلك:
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى 
[طه:73].
فقالوا له: لن نخضع لموسى على أنه رب أو إله فيما تريد أن تزعم وتظن، فما جاء موسى إلا عبداً رسولاً لربه، وما جاء هارون إلا عبداً رسولاً مبلغاً عن ربه، وعندما آمنا لم نؤمن إلا بالله الفاطر الخالق وحده، المرسل لنا عبديه ونبييه موسى وهارون، فقد آمنا بهما رسولين وآمنا بالمرسل الحق خالقاً ورازقاً ومعبوداً وحده لا شريك له.
وكان هذا على الملأ، فأذل الله فرعون وأحقره أمام أتباعه وملئه من الناس، ولم يجد هنا ما يفعله مع هؤلاء المؤمنين التائبين إلا الطغيان والظلم، وإلا التهديد وتقطيع الأيدي والأرجل والصلب، ولكن بقي الحق حقاً ولو صنع ما صنع،
وهكذا يأبى الله إلا أن ينصر الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون، فللباطل جولة ثم يضمحل ولا يدوم إلا الحق.
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا
[طه:73]:
أي: ولا تملك أنت ذلك، آمنا بالله رباً، وبموسى وهارون نبيين رسولين؛ عسى الله أن يغفر ذنوبنا وسيئاتنا الماضية في الشرك وعبادتك واتباعك في الباطل والوثنية.
وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
[طه:73]:
أي: معنى هذا: أن هؤلاء أكرهوا على أن يكونوا سحرة، فقد أتى بهم صغاراً وأجبرهم على تعلم السحر تحت الحديد والنار، فمن عارض قتله، ومن وافق قبله، ولكنه مع ذلك ما وافقه إلا مكره خائف على نفسه وحياته.
فيقولون: آمنا ليغفر الله ذنوبنا ويغفر لنا هذا السحر وهذه الشعوذة الباطلة التي لم تكن من ذواتنا، ولم نكن نعرفها قبل لولا أنك أكرهتنا عليها بالحديد والنار ظلماً وعتواً واستعلاءً في الأرض.
قولهم:
وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
[طه:73]:
هذا جواب على قوله:
وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى
[طه:71] فقالوا له: ربنا هو الأشد عذاباً لمن عصاه، وربنا هو الأبقى نعمة وجزاء وخلوداً في الجنة لمن أطاعه.
كنت تغرينا بقربى منك وهي مضمحلة وفانية، ثم تهددنا بالتقطيع والصليب والتعذيب، وزعمت أن عذابك أشد من عذاب الله، وزعمت أن ثوابك أبقى من ثواب الله، ولكن هيهات، فعذاب الله في ناره أشد وأنكى وأخلد، وجزاء الله بالحسنى وبالجنان أدوم وأخلد وأبقى على مدى الدهور والأزمان.
قال تعالى:
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى 
[طه:75] ثم فسرها الله، فقال:
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى 
[طه:76].
فهذه الدرجات عُلى، ثم شرحها الله تعالى وبين أنها جنان:
جَنَّاتُ عَدْنٍ
[طه:76] أي: جنات إقامة دائمة، ومنه المعدن، أي: النوع المقيم في الأرض قبل أن يستخلص ويؤخذ ويستفاد منه.
فقوله:
جَنَّاتُ عَدْنٍ
[طه:76] أي: جنات دائمة، جنات مقيمة، جنات جعلت للدوام والبقاء الخالد.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
[طه:76]: أي: ومع كونها مقيمة خالدة أبداً سرمداً إلى يوم القيامة فإن الأنهار تجري من تحتها.
وكما أن أهل النار كلما نضجت جلودهم أبدلهم الله غيرها، فالجنة تتجدد خلايا ساكنيها وشبيبتهم وحيويتهم وشهواتهم ورغباتهم وكأنهم لم يكونوا يوماً شيوخاً ولا مرضى ولا أمواتاً.
وهم شباب في سن ثلاث وثلاثين على أجمل ما يكونون شكلاً وقوة ونفساً وراحة.
هكذا يقول هؤلاء الشهداء قبل أن يستشهدوا، فيتحدون الباطل في شخص فرعون، ويتحدون الظلم في شخص قوم فرعون، ويأبون إلا أن يؤمنوا تائبين، عابدين دعاة إلى الله مذكرين.
وكانوا يتحدون فرعون وهامان وموسى ينظر إلى ذلك وهارون وهما قريرا العين، بل في لذة النصر ولذة الاتباع في الإيمان، وأن فرعون الطاغية الظالم قد أخزاه الله وأذله على ملأ من قومه.
وهؤلاء الذين أكرههم على السحر قد تحدوه، وقد حقروه، وقد ازدروه، بل وانقلبوا يقولون عنه فاجر ظالم كاذب.
ثم أخذوا يدعونه إلى الله، وأن الله يقبل التوابين ويغفر للمذنبين إن استغفروا وتابوا وأنابوا، وأن من بقي على كفره إلى الموت لا مكان له في الجنة، بل مكانه جهنم خالداً فيها أبد الآبدين، ومن أتى ربه تائباً مستغفراً فمكانه الجنان والدرجات العلى منها منعماً، مكرماً.