ومن القصص التي ذكر الله في سورة مريم قصة إبراهيم مع أبيه، فقد دعاه إلى الحق فأبى وكان من الكافرين، فلما رأى سيدنا إبراهيم ذلك من أبيه وقومه اعتزلهم وتفرغ لعبادة ربه، ثم وهب الله له إسماعيل وإسحاق، وحفيده يعقوب.
قال تعالى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا 
[مريم:41] .
سميت السورة بسورة مريم من باب تسمية الكل بالبعض، فما قصة مريم في السورة إلا جزء منها، فهي قد تحدثت عن زكريا وعن يحيى وعن إبراهيم وعن موسى وعن أنبياء آخرين، ولكنها سميت بـمريم، وهذه عادة الأسامي سواء في كتاب الله أو في واقع الحال في الدنيا، فنسمي القطر المصري مصر وما مصر إلا مدينة من القطر، ونسمي القطر الجزائري الجزائر وما الجزائر إلا مدينة من مدنها، ويسمي البعض المغرب مراصف وما مراصف إلا مدينة من مدائنها.
قال تعالى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ
[مريم:41] يقول الله لنبيه محمد العربي القرشي الهاشمي صلوات الله وسلامه عليه: كما ذكر لك من قبل في هذه السورة مريم وولدها عيسى وزكريا وولده يحيى، اذكر كذلك إبراهيم، وإبراهيم أحد الخمسة أولي العزم من الرسل، وقد كرمه الله تكريماً انفرد به من بين من جاء بعده من الأنبياء والرسل، فجعل في ذريته النبوءة والكتاب، فما من نبي جاء بعده إلا وهو من أولاده وسلالته، سواء كانوا من بني إسرائيل أو كانوا من العرب، فكان إبراهيم هو والد إسماعيل الجد الأعلى لنبينا العربي صلى الله وسلامه عليهم أجمعين.
وكان هو والد إسحاق الجد الأعلى لجميع أنبياء بني إسرائيل إلى عيسى، فإبراهيم جد مريم، ومريم كذلك من بنات إسرائيل.
وهو خليل الله، وأحد أولي العزم من الرسل، ولا نبي أفضل منه إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو أشرف الأنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) .
وإذا كان إبراهيم خليل الله فقد كان نبينا خليله وحبيبه، ولقد قال عن صديقه وصاحبه أبي بكر الصديق : (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلاً) .
قال تعالى:
إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا
[مريم:41] كان صادق القول والوعد والإشارة، صادقاً في الحرب والسلام، صادقاً في دعوة أبيه وقومه إلى الله، ودعوة أعدائه وخصومه إلى الله، كل ذلك سواء، فلم تشغله حالة عن حالة.
ويذكر الله لنا أنبياءه ورسله وعباده المكرمين ليكونوا أسوة لنا، ولنهتدي بهديهم ونجعلهم أئمة، وقد كانوا قبل ذلك أسوة رسول الله عليه الصلاة والسلام فيما لم يشرعه الله خاصة لنبيه من شريعة وآداب وسلوك، ونحن أسوتنا رسول الله، ومن كان أسوته رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقتدٍ بجميع الأنبياء قبله، قال تعالى:
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ
[الأنعام:90].
قوله تعالى:
نَبِيًّا
[مريم:41] أي: من أنبياء الله الذين أوحى الله إليهم بشريعته وأمرهم بتبليغها، فهو نبي ورسول، وسبق أن قلنا: إن النبي هو من أوحي إليه بشريعة ولم يؤمر بتبليغها، والرسول: من أوحي إليه بشريعة وأمر بتبليغها، فنبينا إبراهيم نبي ورسول معاً، فقد ذكر في هذه السورة بالنبوءة، وذكر في آيات أخر بالنبوءة والرسالة معاً.
فقوله:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
[مريم:41] أي: في القرآن الكريم،
إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا
[مريم:41]، فالصديق صيغة مبالغة من كثرة الصدق والديمومة عليه، والبعد عن كل ما يشينه من الكذب إشارةً أو تلميحاً أو غير ذلك، كل ذلك قد برأ الله إبراهيم منه.
قال تعالى:
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا 
[مريم:49] .
أي: ما سلبه إلا ليعطيه الحكمة، فسلبه أباه وأهله وعشيرته وبلدته، وعوضه الله أرض الشام المقدسة.
وكان قد بلغ عمر إبراهيم مائة وعشر سنين، وبلغ عمر زوجته تسعين سنة، فرزقه الله جل جلاله الولد والحفيد وهو لا يزال حياً، فرزقه أولاً من هاجر إسماعيل، ورزقه بعد ذلك إسحاق، ثم جعل يعقوب نافلة من إسحاق
وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا
[مريم:49].
فالله أحاط إبراهيم بمجموعة من الأنبياء من سلالته، ففي حياته رزقه إسماعيل الجد الأعلى لنبينا صلى الله عليه وسلم، وشريكه ومعينه في بناء الكعبة المشرفة، ورزقه بعد ذلك إسحاق من زوجة أخرى، ثم رزقه حفيداً من إسحاق وسماه يعقوب، فعند اعتزالهم والبعد عنهم أكرمه الله بالذرية الصالحة وجعل فيها النبوة والكتاب.
قوله:
وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا
[مريم:49] التنوين في (كلاً) لغةً ونحواً يقال له: تنوين العوض، والمعنى: عوض عن كلمة، والمعنى: كل ذريته جعلهم الله أنبياء ورسلاً مكرمين.
قال تعالى:
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا 
[مريم:50].
أي: وهب للأب والولدين والحفيد من رحمته، وفسرت الرحمة هنا بالمال والنبوءة والأرزاق والحب والتعلق، وكل ذلك صالح في التفسير، فالذرية الصالحة التي لم تأكل حراماً ولم تأت بحرام رحمة.
وكما قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، والنبوءة والرسالة والعبادة وأنواع الخيرات الأخروية هي كلها بلا شك من رحمات الله.
فقوله:
وَوَهَبْنَا لَهُمْ
[مريم:50] أي: للأب والولدين والحفيد، لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق.
قوله:
مِنْ رَحْمَتِنَا
[مريم:50] أي: من أرزاقنا ونعمتنا.
قال تعالى:
وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا
[مريم:50] أي: خلدناهم في الدهر وفيما سيأتي بعد ذلك إلى يوم القيامة، فكان لهم لسان صدق في كونهم أنبياء الله ورسله، فخلد ذكرهم في التوراة والإنجيل والزبور، مع تغير كل هذه الكتب وتبديلها وتحريفها، كذلك خلد ذكرهم في القرآن الكريم المهيمن على كل الكتب السماوية، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فخلدوا فيه خلوداً أبدياً، فكانوا لسان صدق للعالمين عالياً، وهكذا علا إبراهيم في السماوات، واجتمع به سبطه وحفيده ليلة الإسراء، فخلدوا حساً ومعنىً وذكراً في الصالحين، ونبراساً بين العابدين، وهداية بين كتب السماء التي يقتدى بها ويهتم بها.