يصف الله تعالى الجنة التي وعد بها عباده الصالحين، وأنها دار إقامة لا انتقال منها، ولا يسمع فيها اللغو ولا الإثم، ثم يصف الله ملائكته أنهم لا يتنزلون ولا يعلمون أي عمل إلا بإذنه وأمره سبحانه فهم لا يعصون الله أبداً، ويفعلون ما يؤمرون.
قال تعالى:
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا 
[مريم:61].
خلق الله الجنة وأكد أنها جنات عدن، أي: جنات إقامة دائمة، يقال: عَدِنَ في المقام في المكان إذا أقام فيه، فهؤلاء في الجنات سرمداً لا خروج ولا موت أبداً.
والجنة جنات وليست جنة واحدة، وهي جنات عدن مقيمة باستمرار يمتع فيها أهلها وسكانها، تلك الجنة التي وعد الله سبحانه بها عباده بالغيب، والله خير من يوفي بوعده، فقد وعدهم غيباً وهم لم يروها، أي: وعدهم بشيء آمنوا به بالغيب، قال تعالى:
الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
[البقرة:1-3] .
والإيمان بالغيب أصل الدين؛ لأن الذين أخبرونا بذلك عباد لله مكرمون صادقون مصدقون، لا تعرف عنهم كذبة في حياتهم فكيف بالكذب على الله؟! هذه الجنات التي وعد الله عباده غيباً قبل أن يراها أهلها وسكانها سيدخلونها مع الأنبياء والصديقين، وحتى العصاة والمذنبون إذا تابوا وأنابوا وعادوا للطاعة مستغفرين من ذنوبهم نادمين على ما سلف منهم.
قال تعالى:
إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا
[مريم:61] أي: كان موصولاً إليه، وذكر بصيغة اسم المفعول، وذلك أسلوب من أساليب العرب، يكون المفعول فاعلاً ويكون مفعولاً، فتقول: بلغت علي ستون سنة، وبلغت ستين سنة، ووصلني الخير من فلان، ووصلت الخير الذي لفلان، فسواء وصلك أو وصلته فأنت قد أتيته وأتاك، فأنت آت مأتي.
وكذلك وعد الله بدخول الجنان هو آت، بحيث سيبلغك وستكون فيه، وستمتع بما فيه من متع أهل النعيم، من المرسلين والصديقين والشهداء، وستبلغ أنت له فتمتع به، والشيء واحد، أتيته أو أتاك المهم أنه قد بلغك، وبلغت ما وعدك الله به ولقد كان وعد ربنا مأتياً، أي: لا بد أن يؤتى ويأتي، أن يأتي عباد الله الصادقين التائبين ويأتونه.
قال تعالى:
لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا 
[مريم:62].
هذه الجنان عندما يكرمون بالدخول إليها لا يسمعون فيها لغواً، أي: لا يكون فيها من قول الباطل شيء، ولا من الكلام الذي لا يفيد، فهم لا يسمعون لغواً إلا سلاماً، وهذا استثناء منقطع، فالمستثنى من غير جنس المستثنى منه، أي: لا يجدون فيها إلا الأمان والسلام واليقين والراحة والسعادة.
كذلك يسلم عليهم الله جل جلاله فهو السلام ومنه السلام، وتسلم عليهم ملائكة الرحمة، وما السلام إلا العيش في سلام وأمان ويقين وكل ما يريد أن يعيش فيه المتنعم من سكان أهل الجنة.
فقوله:
لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا
[مريم:62] أي: آذانهم لا تسمع إلا الحق والصواب، فلا تسمع اللغو ولا الباطل ولا ما لا يليق سماعه إلا سلاماً، فلا يسمعون إلا الأمان والسلام والتحية من الله ومن الملائكة من حين يصبحون وإلى أن يمسوا.
قال تعالى:
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
[مريم:62] فأهل الجنة يأتيهم رزقهم، ويأتيهم النعيم والطعام والشراب بكرة وعشياً، صباحاً ومساءً، ومع ذلك فالجنة لا بكرة فيها ولا عشي، أي: لا ليل ولا نهار، ولا حر ولا زمهرير، ولا ما يؤذي، إن هو إلا النور والإشراق.
فإذا أرخيت السبل فهو وقت النهار في دار الدنيا، فإذا أرخيت الحجب فذلك معناه وقت الراحة، مع أنهم لا يتعبون ليستريحوا، فهم في راحة أبدية مستمرة، ولكن ذلك باعتبار الدنيا، فقد كان أهل النعيم في الدنيا يأكلون صباحاً ويأكلون مساءً.
فالزمن الذي كانوا يأكلون فيه صباحاً ومساءً في الدنيا يرزقون فيه في الآخرة باعتبار زمن الدنيا، لا أن الآخرة فيها ليل أو نهار أو شمس.
فقوله:
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
[مريم:62] بحسب تقدير البكور والعشايا في دار الدنيا، وإلا فإن الآخرة لا بكرة فيها ولا عشي، فالوقت كله نور وإشراق.