أيد الله رسوله موسى عليه السلام بالمعجزات الواضحات التي تدل على أنه رسول الله حقاً، فلما جاء فرعون وقومه يدعوهم إلى الله اتهموه بالسحر والافتراء واستكبروا عليه تيهاً وضلالاً، فأخذهم الله بالعذاب ولم يبال بهم.
قال الله تعالى:
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ 
[القصص:36].
أي: جاء موسى إلى مصر بعد غيبة عشر سنوات، خرج فاراً بحياته وفاراً من فتنة فرعون وملئه، ترك أمه وأخاه هارون، وترك أخته التي قصت أثره عندما أرسلتها أمها لتتبع أثره عندما قذفته في النيل.
جاء إلى أمه على قدر، وهي تنتظر تنفيذ وتحقيق وعد الله عندما وعدها عند الولادة:
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
[القصص:7] عندما أمرها الله جل جلاله وأوحى إليها بأن تُرضعه فإن خافت عليه فلتقذفه في اليم ولا تخف عليه غرقاً ولا موتاً؛ لأن الله سيرده، بل وسيجعله من المرسلين.
فقد تحقق الوعد الأول فرده الله إليها مع عز وكرامة وأمن، والآن سيعود إليها نبياً رسولاً كريماً،
وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
[التوبة:111] .
قال الله تعالى:
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ
[القصص:36].
أي: ولما رجع موسى إلى مصر دخل على أمه وأقر عينها بعودته وأقر عينها برسالته، وبلغ هارون رسالة ربه وأمره بالذهاب معه، وذهبا إلى فرعون.
فوجئ فرعون بأن موسى قد حضر ولم يكن خائفاً ولا راجياً، ولم يحضر على أنه ابنه الذي تبناه وعاش في بيته، ولكنه جاءه مسفهاً لدينه ومكذّباً بألوهيته، وداعياً له إلى ربه ومنذراً له إذا لم يؤمن، وإذا لم يسلِّم له بني إسرائيل ويترك الاستعباد والاضطهاد والآلام والتذبيح للذكور والاستحياء للنساء منهم، فلا يلومن إلا نفسه بغضب من الله في الدنيا وغرق، وبغضب وعذاب يوم القيامة أشد وأنكى.
فلما جاءه موسى وقابله دعاه إلى الله الواحد القهار، وبين له أنه رسول من الله يدعوه إلى رب العالمين؛ فأخذ فرعون يقول: وما رب العالمين؟ فهو يتساءل في ذلك هازئاً جاهلاً.
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَات) أي: جاءهم بالعلامات والبراهين البيّنة الواضحة المشرقة، إذ عندما قال لـفرعون : أنا رسول ربك إليك، قال فرعون للملأ معه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، جاء بما لم تعرفوه ولم تدركوه.
فقال موسى: عندي ما يصدقني، قال: أبن ذلك وأظهره إن كنت من الصادقين! وإذا به يلقي العصا ويقذفها بينه وبين فرعون ، وإذا بـفرعون يُرعب ويرجع إلى الخلف، ويرجوه أن يُعيدها كما كانت، فيأخذ موسى الحية فتعود عصا.
ثم يدخل موسى يده ويخرجها وهي شعلة من نار، لم ير فرعون في ذلك إلا ناراً ولم ير نوراً، فزاد رعبه وزاد هلعه وزاد فزعه، فأدخلها موسى في جيبه وخرجت كما كانت، لما رأى فرعون وملؤه وجماعته وكبراء دولته وأتباعه من الفجرة الفسقة هذه الآيات البينات ماذا كان جوابهم؟
(قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى) أي: ليس هذا إلا سحراً كاذباً مخترعاً ولا رسالة ولا نبوة؛ لأن السحر كان إذ ذاك في مصر وعند فرعون هو العلامة الكاشفة للأمة المصرية للأقباط والفراعنة، فعندما جاءهم بشيء يشبه ما هم عليه من السحر وتغيير الأجناس وتغيير الطبائع قالوا: هذا شيء، نعرفه وبلدنا فيها الكثير من هذا ليس هذا إلا سحراً مفترى.
قوله: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) أي: لم نسمع عن آبائنا ولا أجدادنا أن هناك رباً غير فرعون أو إلهاً خالقاً غير فرعون .
وهؤلاء البقر يرون فرعون يشيب ويمرض ويعجز ثم يموت، فكيف لرب أن يموت؟ وكيف لإله يعجز؟ ولكنها هكذا العقول إذا ابتُليت بالشرك وبالكفر ذهب نورها وفهمها، وذهب وعيها فكانت كالأنعام، بل الأنعام أشرف وأكمل منهم، بل هم أضل من الأنعام كما وصف الله جل جلاله.
فقولهم: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) كذب وافتراء، بل قد سمعوا بأخبار الأنبياء قبل، فهذا يوسف كانت نبوته في مصر، وكان ملكاً عليها، وكان يوسف يتصرف في مصر وسمعوا به، وسمعوا بأبيه يعقوب، وسمعوا بجده إسحاق، وسمعوا بجد الكل إبراهيم، وسمعوا بنوح، وبالتالي سمعوا بجد البشرية وأبيها الأول آدم عليه وعليهم جميعاً سلام الله، ولكن الفراعنة حكام مصر لا يعلمون إلا أنهم آلهة وأرباب، يقول فرعون وهو يضحك على قومه ويستخف عقولهم:
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي
[الزخرف:51] من يملك هذا الجزء الصغير الحقير من الدنيا كيف يكون رباً وإلهاً؟! هذا أحد خلفاء بني العباس يتذكر قصة فرعون فقال: أنا أملك الدنيا وأتمدد على ظهري وأقول للسحب: صبي هنا أو هنا فخراجكِ سيصل إليّ، ومع ذلك أبيت أبكي ساجداً ممرغاً جبيني ووجهي على التراب أطلب رحمة ربي ومغفرته، ومصر ليست إلا جزءاً صغيراً من مملكتي وأرضي، فيدّعي هذا المجنون الألوهية لذلك، والله لن أولي على مصر إلا عبداً وخادماً من خدمي، فولى كافور الأخشيدي وكان مسلسل الشعر، مشقوق القدمين..، إلى آخر الصفات، ومع ذلك فقد كان ملك كافور وحكمه وولايته من أحسن ما يكون عدلاً وإدارة وإتقاناً، فأين فرعون وما تركه من شرك؟!
قال الله تعالى:
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ 
[القصص:40].
كانت العاقبة الوخيمة لـفرعون المتأله الكاذب أن أخذناه هو وجنوده من ملئه وكبرائه وأتباعه وأشياعه ومناصريه، فقذفناهم في البحر كما يقذف الشيء الذي لا قيمة له ولا شأن له، قذفهم الله في اليم فغرقوا وضاعوا وكأن لم يكن، وأبقى جثة فرعون على حالها؛ لتكون لمن خلفه آية؛ لأنهم زعموا أن الرب انتقل إلى مكان آخر، وأن فرعون لا يموت ولا يقتل، فعندما غرق في النيل أخرج الله جثته من النيل ليصبح جيفة تحتقرها النفوس، وإذا بها بقيت على حالها تعرض على الملأ يراها من يرى فرعون ويعرفه ويعلمه، بحيث تحققوا أن هذا الإله كاذب ليس إلا إنساناً كالناس أحياه الله فأماته، وهذه الجثة لا تزال إلى اليوم في متاحف مصر في الموميات، ولكن لا تعرف بعينها، ويقولون لك: هذه الجثث العشر أو العشرين هي لفراعنة مصر، هذا فلان، وهذا فلان، وهذا فلان، ولكن بالتأكيد القاطع: أن هذا فرعون موسى يحتاج ذلك إلى دليل، وأين الدليل؟ وأين البرهان؟ ولكن لاشك أنه واحد منهم، لأن الله أخبر بأنه سيجعله آية لمن يأتي بعده ولمن يأتي خلفه، وهو آية لا تزال إلى يومنا.
ذهب فرعون كما يذهب البشر وهلك وذهبت دعواه، وذهب قومه، وأورث الله الأرض موسى ومن معه، وأذل أولئك وسحقهم، وكانت العاقبة للمؤمنين،
وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ
[الصافات:173] .
وقوله:
فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
[القصص:40]، أي: انظر يا محمد وانظر يا من آمن بمحمد، ومن جاء بعده وإلى يوم القيامة كيف كانت عاقبة المشركين الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس، والكاذبين على الله المدعين ما ليس لهم.
قال الله تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 
[القصص:43].
بعد ذلك أنزل الله على موسى التوراة فيها الهدى والنور، وفيها التوحيد، وفيها ما في الكتب السماوية السابقة، فهذه هي صفة التوراة عندما نزلت، ولكنّ العبرانيين أتباع موسى بعد ذلك غيروا وبدلوا وحرفوا، فالتوراة التي بين أيدينا والتي كانت منذ عصر الوحي المحمدي قام علماؤهم وكبراؤهم فبدلوا فيها وغيروا وحرفوا وزادوا ونقصوا، وأدخلوا فيها الشرك بعد ذلك، فلقد قال تعالى عنهم:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
[المائدة:18].
فزعموا أنهم أبناء الله، فلم يشركوا بالله واحداً بل أشركوا كل البشر؛ لأن ابن الإله إله إن صح أنه ابن ولا ابن لله، ولا يليق بالله سبحانه أن يكون له ابن، قال تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
[الإخلاص:1-3].
ولكن لشركهم قالوا ذلك، والتوراة بين أيدينا فيها الطعن في جلال الله، وفيها اتهام الأنبياء بالكبائر: بالسكر وبالزنا وبالفساد، وبإتيان المحارم، وفيها ما لم يكد يخطر على بال.
ومن هنا كان اليهودي في دمه وفي عرقه وفي نشأته وفي بيئته عنصراً للفساد، فهم يدينون بشتم الله، ويدينون بقذف الأنبياء، ويدينون بسفك الدماء، ويدينون بنشر الفاحشة ونشر السوء بين البشر، ولذلك هؤلاء الذين يسعون من الحكام إلى فتح الحدود معهم، إنما يزيدون شعوبهم فساداً وفاحشة وكفراً وبلاءً، فإن هذا لبلاء مبين، فأرجو الله تعالى أن يزيله وألا يتمه، وأن يخيب آراءهم، وأن يرد كيدهم في نحورهم جميعاً هم وأنصارهم ومن يريد أن يفعل ذلك منهم.
قال تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى
[القصص:43].
أرسل الله موسى بالتوراة من بعد قرون سابقة عنه هلكت وبادت وانتهت، والقرون هم قوم نوح، وقوم هود وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم إبراهيم، وقد قص الله علينا قصصهم.
والقرن هو المائة من السنين، والقرن هو الجيل بعد الجيل.
وموسى جاء متأخراً بعد ذلك، وقد سبقه هؤلاء كلهم، فـشعيب أرسل إلى مدين، وإبراهيم إلى نمرود ، ولوط إلى أهل سدوم في فلسطين، وهود وصالح إلى عاد وثمود، ونوح إلى البشرية، وكانت لا تزال قريبة العهد بآدم، ليس بينها وبين آدم إلا ألف عام، ولبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فقص الله علينا ما قص مما مضى جميعه بعد هذه القرون الطويلة، وهذه الأجيال المتتابعة التي أهلكها الله وذهبت في أمس الغابر.
وأرسل الله بعد ذلك موسى، وسبقه من بني إسرائيل يوسف وأيوب ويعقوب وإسحاق، بل يعقوب هو إسرائيل وهو كبير أنبياء بني إسرائيل، أما إبراهيم وإن كان أباً لهم فهو كذلك أبو العرب الأول، وهو الذي مكن للعرب هنا، وأتى بولده إسماعيل وأسكنه هنا في هذه الأرض المقدسة، فكان إسماعيل نبي الله ورسول الله الجد الأعلى لنبينا عليه الصلاة والسلام، والجد العالي لجميع عرب اليوم، أما الذين كانوا قبله فيسمون بلغة الأنساب والأحساب: العرب العاربة، وهؤلاء انتهوا ولم يبق منهم أحد، ولذلك الله عندما ذكر إبراهيم قال:
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ
[الحج:78] والخطاب للعرب، فهو أبو العرب، وهم نسله، ولذلك دعا إبراهيم ربه لإسماعيل أن يجعل رسولاً من سلالته، ولذلك كان يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وأنا بشرى أخي عيسى، هو الذي بشر الناس باسمي، وقال لهم في الإنجيل: يأتي من بعدي رسول اسمه أحمد) ومحمد وأحمد اسمان كريمان للكريم خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.