قال تعالى:
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ 
[القصص:58].
هنا النذير والتهديد والوعيد لكفار مكة.
يقول تعالى: يا كفار مكة وغيرها من الكفار السابقين واللاحقين! لا تطغوا ولا تتجبروا، فكم من قرية بطرت معيشتها فأهلكناها، وبطر المعيشة: كفر النعمة، والتعاظم بها والتكبر بما أنعم الله به على الإنسان.
والإنسان عندما يغنى ويكون صغير العقل ضعيف الدين يطغى بماله وبما رزقه الله وأنعم عليه، فكان من الواجب عليه أن يشكر الله على ذلك ويزداد شكراً وحمداً ونشراً للنعمه التي أنعمها الله عليه، فيعطي منها المستحقين من آل وفقراء ومحتاجين وسائلين، فالله وصف المؤمنين فقال عنهم:
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ
[المعارج:24] ، وقال أيضاً:
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
[الذاريات:19].
أما الذين إذا أغناهم الله ورزقهم وأوسع الله عليهم يبطرون ويحصل لهم تيه بالمال وعلو وفساد في الأرض، وكبرياء وجبروت، تكون نهايتهم أن المال لم يكن إلا فتنة وابتلاء، فلم يشكروا الله عليه، فحري أن يسلبوه في الدنيا ويعاقبون على ذلك يوم القيامة، وقد قال ربنا جل جلاله:
لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
[إبراهيم:7]، فمن يشكر النعمة تزدد عنده وتكثر لديه، ومن يجحدها ويكفر بها ولا يعط المستحقين منها ويمنع حقوق الله من زكاة ونفقات في ماله فقمن بأن يسلب النعمة وتزول وكأنها لم تكن، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
فقوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)، أي: تعاظمت بها وتاهت وتجبرت ودخلها طغيان بمالها والنعم المحيطة بها، قال تعالى:
كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى
[العلق:6-7].
فالإنسان يطغى إذا رأى نفسه قد استغنت، وذلك عندما يكون ضعيف العقل قليل الدين.
قال تعالى:
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا
[القصص:58]، ماذا صنع الله بها؟ أهلك أهلها فماتوا وانتهوا، قطعت سلالاتهم وخربت دورهم وسلبوا النعمة في الدنيا، فلا ذرية ولا أحد يأتي بعدهم يقول: كان أبي كذا رحمه الله، أما الصالح والمتصدق والمنفق مما أعطاه الله، يطلب من الفقراء والمساكين، وممن استفادوا بماله، أن يذكروه بخير وأن يترحموا عليه، ماداموا في الوجود ويتسلسل ذلك.
ومن بقاء وتمام النعمة والشكر عليها أن يرزقه الله أولاداً صالحين، وابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، منها: ولد صالح يدعو له، فيقول: كان أبي، وعلمني أبي، وأنفق علي أبي، فيترحم عليه بعد موته، ويكون ذلك من عمله وفي صحائفه.
ومن ذلك أيضاً: العلم ونشره لساناً وكتاباً، ونحن الآن نذكر الأئمة الأربعة والسلف الصالح وشيوخنا ونترحم عليهم وندعو لهم؛ لأنهم خلفوا العلم ونشروه وتركوه في الكتب والصحائف، فتعلمناه منهم أباً عن جد، وشيخاً عن شيخ، فترحمنا على السابقين، وذكرناهم بخير؛ وكان ذلك نتيجة إحسانهم، ونتيجة إيمانهم وعدم بطرهم، لا بعيش من حيث المال ولا بعيش من حيث العلم، فلم يبطروا لا بهذا ولا بهذا.
والمسكن: الدار، فمساكن جمع مسكن، فهذه المساكن الموجودة في جميع بقاع الأرض قد خربت وبادت، وقد كانت يوماً مساكن لملوك ومترفين ولنساء ولرجال ولشباب ولقوة ولمال ولرفاهية، أين هي؟ ذهبت في أمس الدابر وكأنها لم تكن، وصب الله عليهم العذاب، بالزلازل والصواعق الإغراق.
وتلك المساكن سُكنت قليلاً؛ لأنه قد يكون المسافر والرحالة إذا مر عليها يحتاج إلى ماء وراحة واستظلال بسقف أو حائط أو شجرة، فيجد هذه البيوت الخاوية فيدخلها ساعة أو ساعتين من اليوم، وإن أطال بات ليلة ثم ذهب، فكانت السكنة قليلة لعابري السبيل، ولمن لم يجعلوها سكناً ولم يتملكوها ولا حاجة لهم بها؛ لأنها مساكن من غضب الله عليهم وقضى عليهم وقطع دابرهم.
قال تعالى:
وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ
[القصص:58] أي: خربت ولم تسكن ولم تورث.
ومعنى كونها لم تورث: لم يخلفوا أولاداً، وإن خلفوهم هلكوا معهم؛ فانقطعت الذرية والسلالة، فلو أنهم خلّفوا أولاداً لورث تلك المساكن الأولاد وأولاد الأولاد والأسباط والأحفاد ولكن انقطع الكل وكأنهم لم يكونوا، إذ كانوا فبادوا وأصبحوا ورقاً معلقاً يقص عنهم القاص: كان وكان وليس أكثر من ذلك.
فهذه الآية نذير ووعيد من الله جل جلاله لهؤلاء الكفار ولأمثالهم من كفار كل عصر وجيل، وكفّار كل جنس إذا بطروا النعمة واتخذوا منها تيهاً وجبروتاً وطغياناً على الخلق، فيوشك أن يسلبهم الله تلك النعمة فيذهبوا وتذهب دورهم ومساكنهم وما كانوا يتمتعون فيه، ويرث ذلك الله وحده ولا يبقى لهم ولد ولا سبط ولا حفيد.
وهكذا حدث لهؤلاء الذين ماتوا على الكفر انتهوا وبادوا وزالت الأملاك وأُعطيها غيرهم، ومع الأيام لم يذكروا إلا باللعنة والخزي، وفي الفتوح الإسلامية كم من مدن بأكملها وقرىً بتمامها ذهبت وخربت وبادت؛ نتيجة الكفر والعصيان وحرب الله ورسوله والمسلمين.
قال تعالى:
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ 
[القصص:62].
يؤتى بهم يوم القيامة ويناديهم الله، أو يكلّم الله من يناديهم من الملائكة، فيقال لهم: أين ما كنتم تزعمون وأنتم في دار الدنيا من شركاء لي؟ لماذا لم يدافعوا عنكم؟ ولماذا لم يحموكم؟ ولماذا لم يرزقوكم الجنة؟ ولماذا لم يزيلوكم من بين أيدينا؟ أي: يحاسبون حساباً عسيراً.
وتقول السيدة عائشة رضوان الله عليها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن نوقش الحساب عُذِّب)فإذا حوسب المرء يوم القيامة يُحاسب عن النقير والقطمير، وعلى ما أكل وشرب ونطق، والله قد قال:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه
[الزلزلة:7-8].
فالكافر يُحاسب على الذرة من شره وبلائه وكفره، والمؤمن يغفر الله له الكثير، وذلك أنه إذا توضأ ذهبت ذنوبه مع الماء، وإذا مضت الجمعة إلى جمعة أخرى وجدد التوبة تاب الله عليه ما سبق منه في تلك الجمعة، فإن ارتكب ما عسى أن يرتكب ثم تاب إلى الله وأناب وأوفى الوعد مع ربه ولم يعد لتلك الذنوب غفر الله له.
أما الكافر مهما استغفر فلن يُغفر له؛ لأنه لا مغفرة لكافر، ولذلك فإن الذنوب تزداد والآثام تزداد فيُحاسب يوم القيامة على النقير والقطمير وعلى الذرة.
قال تعالى:
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ
[القصص:62] أي: يوم القيامة ينادى الله هؤلاء ويدعوهم ويحاسبهم، وتدعوهم الملائكة بأمر الله، وما أمر الله به فهو قوله وفعله جل جلاله.
قال تعالى:
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
[القصص:62].
أي: أين أولئك الشركاء؟ أين مناة؟ أين اللات؟ أين من كنتم تعبدونه من الجن والحشرات والبشر كـماركس ولينين ، وأمثال هؤلاء الأقذار الأوساخ المشركين، الذين يجب أن تُقدّس الأماكن المحترمة عن ذكرهم؟ ولكن الله ذكر الكثير من هذه الأسماء عظة وعبرة؛ لكي يتلافى الناس ذلك ويبتعدوا عنه.