الكلام لا يزال على هؤلاء الكفرة الذين أصروا على العصيان والجحود والنكران، إذ يقال لهم يوم القيامة: أين شركاؤكم الذين كنتم تدعون في دنياكم من دون الله؟ ادعوهم لينصروكم، ادعوهم ليؤازروكم ويخرجوكم من عذاب الله وغضبه ولعنته.
قوله: (قيل) أي: تقول الملائكة لهم ذلك عن أمر الله.
قال تعالى: فَدَعَوْهُمْ [القصص:64] أي: دعوا الشركاء، وإذا بالشركاء يتبرءون منهم ويكفرون بشركهم ويقولون لله: إنا برآء منهم، فقوله: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [القصص:64] أي: لم يجيبوهم ولم يلتفتوا لهم.
وَرَأَوُا الْعَذَابَ [القصص:64] وهنا رأوا عذاب الله ولعنته في دخولهم للنار جزاءً وفاقاً على شركهم.
قال تعالى: وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص:64] .
أي: ودّوا إذ ذاك لو أنهم اهتدوا في دار الدنيا كي لا يروا عذاباً ولا يدعوا شركاء، وودوا لو يحصل لهم ما يحصل للمؤمنين التائبين. والجواب مقدّر، أي: ولو أنهم كانوا يهتدون لما رأوا عذاباً ولما دخلوا ناراً ولا عوملوا معاملة الجاحدين الكافرين، فالله يقص علينا حال الكفار يوم القيامة عندما يقومون للعرض عليه جل جلاله، ماذا سيكون لهم ويقص ذلك على الكافرين لعلهم يتوبون ويئوبون، ويقص ذلك على المؤمنين ليزدادوا إيماناً.
أي: يوم يأمر الله الملائكة فتدعو كل واحد باسمه، فيقال لهم: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] أي: عندما جاءت رسلكم وأنبياؤكم ودعوكم للإيمان بالله وعدم الشرك والكفران، ودعوكم إلى الإيمان بما جاءت به كتب الله من أوامر ونواهٍ، وحلال وحرام، ماذا كان جوابكم لهم؟
وسبق أن قال ربنا في الآية السابقة: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62] فالسؤال هنا سؤالان، كسؤال الملائكة للميت في القبر، إذ يكون السؤال أولاً عن الله ووحدانيته: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62] ثم يسألون ثانية: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] أي: وماذا كان جوابكم للرسل عندما جاءوكم؟ هل استجبتم وأطعتم وحللتم ما أحلوا وحرمتم ما حرموا؟
وهكذا الميت عندما يُدفن في القبر يأتيه الملكان فيسألانه، فأول سؤال يسألانه: من ربك؟ ثم بعد ذلك يسأل: من نبيك؟ فإن أجاب جواب المؤمنين المسلمين سئل بعد ذلك عن الصلاة والزكاة وبقية الواجبات، فإن لم يجب رأى العذاب والمحنة، وإن أجاب رأى الرحمة والرضا؛ وهكذا يوم القيامة يُعاد السؤال: أين ما كنتم تزعمون من دون الله؟ ثم يسألون مرة أخرى: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]. فيكون الكافر أخرس لا جواب له؛ لأنه لم يوحد الله بل أشرك به ولم يستجب للرسل في دعوتهم، بل كفر بهم.
قال تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ [القصص:66].
فالجواب عن السؤال يوم القيامة عن الله وعن الإيمان برسل الله تعمى عليهم وتضيع، والأنباء: الأخبار، أي: لا يستطيعون خبراً ولا نبأً ولا جواباً؛ لأنه لا جواب عندهم، فإنهم سيذهلون عن السؤال، إذ لو أجابوا فلن يكون جوابهم إلا أنهم أشركوا بالله ولم يستجيبوا لرسل الله.
قال تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ [القصص:66] أي: ضلوا إلى أن أصبحوا عمياً، وأصبحت الأنباء والأخبار عنهم في عمى وضياع فلا جوا ب منهم ولا خبر يستطيعون الجواب فيه لله أو لملائكة الله.
قوله: يَوْمَئِذٍ [القصص:66] أي: يوم القيامة، يوم العرض على الله.
قوله: فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ [القصص:66] أي: فلا يسأل بعضهم بعضاً، ولا يستخبر بعضهم بعضاً إذ ليسوا في موضع جواب ولا موضع سؤال، وإذا سُئلوا لم يجيبوا لما هم فيه من ذهول الكفر والمحنة والغضب واللعنة من الله، فالله يقص هذا في حال الدنيا على الكافرين لعلهم يتوبون ويذكرون حال الكافرين السابقين لمن لا يزال حياً؛ ليستدرك حياته قبل موته فيتوب إلى الله ويئوب.
أي: من تاب في دنياه من الشرك وعمل صالحاً وقام بالأركان والواجبات فصلى وصام وحج وزكى وقام بما عليه من أوامر وترك ما نُهي عنه من نواهٍ، وتاب من الكفر وصدّق بالله وبرسله وبكتبه، فمن جاء هكذا يوم القيامة فهو من المفلحين كما قال تعالى: فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ [القصص:67]. و(عسى) من الله موجبة وللتحقيق، أي: يكون يومئذ مفلحاً وفائزاً، ويكون يومئذ من القوم الذين يرضى الله عنهم ويقبل توبتهم في الدنيا، حتى إذا أقبلوا عليه جازاهم برحمته وجنته.
يقول جل جلاله عن هؤلاء الذين أشركوا من دون الله إنه ليس لهم خلق ولا أمر ولا اختيار، فالرب هو الذي انفرد بالخلق والحياة والرزق فالخيرة له والأمر له والخلق له، ولا يحتاج لشريك ولا معين ولا مؤازر، والكل عبد لله صاغر في الدنيا والآخرة، لا شريك له في صفات سبحانه ولا في أفعال ولا في ذات، جل عن أن يوصف بما يوصف به الخلق، وجل عن أن يُشبّه بخلقٍ من خلقه، هو الله الواحد الذي لا شبيه له في ذات ولا صفة ولا فعل.
قال تعالى: مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68].
والخيرة: اسم للاختيار، فليس لهم أن يخلقوا وليس لهم أن يختاروا بين الخلق، فلله الاختيار ولله الخلق والأمر، والله قد توحّد وتنزّه وتعالى عمن أشركه به اليهود والنصارى والوثنيون والمعطّلون، فكلهم كفرة فجرة فسقة.
ويكاد جميع التلاوات السبع في القرآن تقف على قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68] ثم تستأنف: مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68] وقلة أيدها شيخ المفسّرين محمد بن جرير الطبري ، فوقف على قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68] فجعل (ما): اسماً موصولاً مفعولاً به، أي وربك يختار لهم ما فيه خيرهم؛ وهذا كلام جعلوه هكذا، فتأيد به مذهب الاعتزال الذي يقول بالأصلح والأكمل، وهو كلام في الأصل لا حقيقة له ولا وجود له وليس له علاقة بالعقائد، فرسول الله فضلاً عن الله جل جلاله يقول تعالى عنه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
إذ لا خيرة لأحد مع رسول الله فهو صاحب الأمر والنهي، والحلال والحرام المبلّغ عن الله جل جلاله، فإذا كان ذلك من رسول الله العبد المخلوق النبي الرسول الكريم فما بالك من الله؟ فالله يخلق ما يشاء، فليس لأحد اختيار قط، فما هنا: نافية وليست باسم موصول ولا تُعرب مفعولاً.
فنقول كما قال ربنا: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) قف إذ تم الكلام، ثم استأنف الكلام: مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68] أي: لم يكن الاختيار لمن أشركوا به من دون الله ولا لهؤلاء الذين يُشركون، لا لملك مقرب ولا لنبي مُرسل، فالكل لله انفرد بالخلق والأمر والاختيار؛ وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي التلاوة كما وردت في القراءات السبع.
ومن هنا سبّح الله نفسه ونزّهها وعظّمها، فهو يعلمنا كيف نعرف الله ونمجده فقال: سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68] أي: تنزّه ربنا وتعالى وانفرد بالخلق والاختيار والأمر، وتنزّه وتعظّم عن شرك المشركين وكفر الكافرين وغثاء الجاهلين.
فقوله: سُبْحَانَ اللَّهِ [القصص:68] أي: أنزِّه الله والله ينزِّه نفسه عن أن يُشبه أحداً من خلقه أو يُشبهه أحد من خلقه، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، وقال تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4].
قوله: وَتَعَالَى [القصص:68] أي: تعاظم وتقدّس وتنزّه عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68] أي: عن شركهم وشركائهم ملائكةً كانوا أو أنبياء، شياطين كانوا أو إنساً، جمادات كانوا أو حيوانات؛ فكل أولئك الذين أشركوهم المشركون مع الله هم أقل من أن يكون لهم خلق أو أمر أو اختيار، فالله الواحد الذي انفرد بالخلق والأمر والاختيار؛ ومن هنا علّمنا صلى الله عليه وسلم أننا إذا أقدمنا على شيء ونحن لا نعلم الخيرة في شيء - هل يكون ذلك لخيرنا وصالحنا؟ أو يكون ضرراً علينا - أن نستخير الله تعالى، ونطلب منه أن يختار لنا ما فيه خيرنا وصلاحنا!
وفي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة كما يعلّمنا السورة من القرآن، أي: أن نستخير ونطلب خيرة الله واختياره لنا، فالغيب لا يعلمه إلا هو، والمستقبل لا يعلمه إلا هو، يقول جابر : كان يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن ويقول - أي: النبي عليه الصلاة والسلام - (من هم بأمر فليصل ركعتين سوى ركعات الفريضة وليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم إنك أنت علّام الغيوب، اللهم إن كان هذا الأمر (ويسميه) خيراً لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري عاجله وآجله فاقدره لي ويسّره لي ثم بارك لي فيه، وإن كان هذا الأمر شراً لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ورضّني به) .
وقال علماؤنا: والاستخارة ينبغي أن تكون في كل شيء فيما أنت متردد فيه، أتفعل أو لا تفعل! أتصاهر أو لا تصاهر! أتشارك أو لا تشارك! أتعمل أو لا تعمل! أما ما وجدته في نفسك إقبالاً وميلاناً وعزماً فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] ولا تكون الخيرة والاستخارة إلا عند التردد والحيرة.
وقالت عائشة رضوان الله عليها: كان نبي الله عليه الصلاة والسلام يُكثر أن يقول عند كل أمر: (اللهم خر لي واختر لي) .
وقال أنس رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من هم بأمر فليستخر الله سبع مرات، حتى إذا وجد من قلبه انشراحاً للأمر فليفعله) وليس الأمر متوقفاً على رؤيا أو ما أشبه ذلك، وإنما هو متوقف على الانشراح القلبي، فما انشرح له قلبك فذاك، وما لم ينشرح فاتركه، وقد تكون رؤيا ولكن ليس ذلك ضرورياً، ولا الاستخارة متوقفة عليها، وقالوا: يصلي ركعتين فيقرأ في الأولى الفاتحة وسورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] ، وفي الثانية يقرأ الفاتحة وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] .
وقال قوم: يقرأ في الأولى الفاتحة وهذه الآية الكريمة: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68] ويقرأ في الثانية الفاتحة وقول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] ألا يكون لهم خيار ولا أمر، هذا مقبول وهذا مقبول، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد ماذا تقرأ وإنما هذا استحبه العلماء، وإنما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليصل المستخير ركعتين من غير الفرائض) وعقب الركعتين يدعو الله بهذا الدعاء وينتظر الانشراح الذي سيلهمه الله إياه وينشرح به خاطره، وقد تكون رؤيا ولكن ليس هذا من اللازم.
هؤلاء الكفرة يعلم الله جل جلاله ما تكنه صدورهم وتكتمه، وما يتكلمون به من كفر ونفاق وانطواء على شر، كما يعلم ربنا جل جلاله ما تنطوي عليه السرائر والضمائر من خير وإيمان، إذ يعلم كل ذلك من المؤمن وغيره والكافر وغيره، قوله: وَمَا يُعْلِنُونَ [القصص:69] أي: يعلم الذي يُعلنونه مع غيرهم في المجالس العامة أو في كتابة أو خطابة أو أي نوع من أنواع الإعلان.
أي: لا شريك له ولا ثاني له، وكل من أشرك به أتى بالزور والباطل والكذب والبهتان، وليس له على ما أتى سلطان ولا دليل لا من عقل ولا من منطق ولا من نقل، إن هي إلا خزعبلات وأباطيل، أتوا إلى حجارة لا تضر نفسها ولا تنفعها فضلاً عن أن تضر غيرها أو تنفعها، أتوا إلى خلق من خلق الله ملائكةً أو رسلاً أو بشراً أو جناً أو حيوانات، فجعلوها شركاء لله وهي جميعها لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، والكل عبد لله خاضع لجلاله تحت أمره ونهيه، ومن أحياه عاش ومن أماته ذهب إلى أمس الدابر.
فقوله: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [القصص:70] أي: هو المعبود بحق، الواحد الذي لا ثاني له وكل ما عداه مما قال الكاذبون وافترى المبطلون وكرره المشركون ليس ذلك إلا باطلاً وكذباً وزوراً وبُهتاناً، فلا إله معبود بحق إلا هو المنفرد بالألوهية والربوبية له الخلق وله الأمر والاختيار، وهو المحيي والمميت.
قال تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ [القصص:70] أي: له الحمد المطلق في الأولى: في الدنيا، يحمده الناس على ما رزقهم سبحانه فالمؤمن يحمده ويشكر على حمده، والكافر يأبى ونعمة الله متجلية عليه ظاهرة وباطنة من صحة وشباب وحواس ورزق وحياة وعطاء، والواجب أن يُحمد الله الفاعل لكل ذلك المتمنن والمتفضّل بكل ذلك.
قال تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ [القصص:70] أي: وله الحمد يوم القيامة كذلك على ما أعطى عباده المؤمنين الصادقين من جزاء بدخول الجنة ورحمة ورضا حتى إنه ابتدأ الأمر بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] وانتهى بقوله: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10] فنبتدئ الحياة منذ أن ندرك ونحس بوجودنا ونستشعر بأنه جل جلاله الخالق الرازق المحيي المميت؛ وهكذا نبقى مدة حياتنا، حتى إذا عُرضنا عليه مرة ثانية وأكرمنا الله برحمته ورضاه تكون آخر دعوانا مرة أخرى: الحمد لله رب العالمين.
ومن هنا فرض علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون الفاتحة المبتدأ بها كتاب الله والمبتدئة بالحمد، وتقرأ باستمرار في جميع الركعات فرائض ونوافل، للإمام والمأموم والفذ، فأول ما نقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] أي: الحمد الكامل لله رب العالمين، فهو ربهم وإلههم وخالقهم وذو الفضل والمن عليهم.
قال تعالى: وَلَهُ الْحُكْمُ [القصص:70] فهو الذي يفصل بين العباد يوم القيامة إما إلى جنة وإما إلى نار، وهو الذي يفصل بين الأديان والأحزاب والملل والنحل، فيقول لهذا: أصبت ويقول لهذا: لم تصب، على أن ذلك قد أرسل به الرسل وأنزل عليهم الكتاب بذلك، ولكن المتشككين الكافرين الذين لا يؤمنون بالغيب ويأبون إلا الجحود والكفران عندما يرون ما كان إيماناً بالغيب شهوداً وحضوراً، ويرون العرض على الله يوم القيامة، وقد كانوا في دنياهم يُنكرون ذلك، ويرون الجنة والنار بأعينهم وكانوا في الدنيا منكرين لذلك، يعلمون أنه له الحكم إذ ذاك، فهو الحاكم الذي سيفصل بينهم، ويحكم لهذا بالجنة ولهذا بالنار.
قال تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70] أي: رجوعنا لله، فقد جاء بنا الله جل جلاله خلقاً من خلقه وسنموت دهراً ثم نعود إليه يوم القيامة؛ ليحاسب المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته.
يعيد الله ويذكر لنا علامات ودلائل وبيّنات وجلال قدرته، وأنه القادر على كل شيء، فيقول: يا محمد! قل لهؤلاء: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [القصص:71] أي: إذا جعل الدنيا كلها والزمن كله ليالي لا نهار فيها ولا ضياء ولا شمس، إذا جعل الكون كله ظلاماً لا شمس ولا ضياء ولا نور ولا نهار.
مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ [القصص:71] يعني: هل هؤلاء الذين أشركتموهم بي يستطيعون أن يأتوكم بالنهار أو يأتوكم بالشمس، أو يستطيعون أن يأتوكم بالنور والضياء؟ الجواب: لا، وكلهم أقل من ذلك وأعجز، فالذبابة لا يستطيعون خلقها، بل إذا أخذت الذبابة منهم شيئاً لا يستطيعون أن يختطفوها منها، وكما قال ربنا جل جلاله: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] فالمطلوب هو المشرك به من دون الله وهو ضعيف ضائع، والطالب ذلك من غير الله ضعيف ضائع، وإذا سألت فاسأل الله، فوحده القادر على كل شيء جل جلاله وعلا مقامه، فلو أن الله جعل سنيَّ الدنيا كلها ليلاً، لا ضياء فيها ولا نهار ولا شمس ولا نور، فهل هذه الآلهة المزيّفة الباطلة تستطيع أن تُنجزكم وتغيثكم وتجعل لكم ضياء ونوراً؟ الجواب: لا، وكلهم أعجز من ذلك.
قال تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ [القصص:71] سماع فهم وقبول وإدراك، فقد عدّهم الله كما وصفهم أكثر من مرة بأن لهم آذاناً لا يسمعون بها، وإذا سمعوا لا يعقلون ولا يدركون ولا يعون.
قال تعالى: أَفَلا تُبْصِرُونَ [القصص:72] أي: أليس لكم بصائر! لم يقل: (أعين) هذه المرة؛ لأن العمى عمى البصر فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] وقد تجد الإنسان مفتّح العينين، لكنه أشد عمى من الأعمى؛ لأن البصيرة عمياء لا تُبصر ولا تُدرك ولا تفهم ولا تعي ما يقال لها، لا بما رأته عيناً ولا بما سمعته أذناً ولا بما أحسّته ببشرتها.
فقوله: أَفَلا تُبْصِرُونَ [القصص:72] استفهام إنكاري توبيخي تقريعي؛ لأن الليل جُعل للسكن والراحة، لتهدأ الروح والحواس، وجُعل النهار للأعمال فتتعب الروح والحواس وتتعب الأيدي والأرجل، فلو لم تسترح هذه الحواس وهذا الجسد وهذه الروح فإنها مع الأيام تهلك وتموت؛ وهكذا لو كان الليل باستمرار ولم تُشرق الشمس فسيكثر أمراض البيت، وتكثر أوبئته، ويكثر فساده، والجسد إذا لم ير الشمس ويسطع عليه نورها وتمسه شعاعاتها يمرض ويكل، والنبات كذلك إذا لم ير الشمس وتشرق عليه فإنه يذبل ولا يكاد يُعطي ثمرة، والليل كذلك، فإن ضياء القمر به يرى الإنسان نفسه ويرى النبات، وهكذا نرى البحار بين مد وجزر تأثراً بالقمر.
فمن رحمة الله بكم أيها الناس مؤمنين وكافرين! أن جعل لكم الليل وجعل النهار، وجمع بينهما ثم قضى عليهما معاً؛ لتسكنوا إليه ولتبتغوا من فضله، وهذا يقال له في علم البلاغة: الطي والنشر، وهو أن يُقال الكلام مسلسلاً ثم يأتي ما يناسبه.
قوله: لِتَسْكُنُوا فِيهِ [القصص:73] أي: لتسكنوا لليل وتستريحوا فيه.
وقوله: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص:73] وفضل الله هنا: الضرب في الأرض من تجارة وسياحة وزراعة وأعمال، ويكون ذلك في النهار، فالله جعل الليل للسكون والراحة ولاطمئنان الجسد واستقراره، ولاطمئنان الروح واستقرارها، وجعل النهار للأعمال والمشاقّ والتجارة والزراعة والضرب في أرض الله الواسعة جبالاً ووهاداً بحاراً وأجواء، والله عندما يذكر لنا ذلك ويعدده ويمتن علينا به، والشيء إذا تكرر تقرر، يعني: هل تكرار ذلك سيجعلنا نفهمه ونعي ونُدرك؟ ولعل الكافر منا يتوب إلى الله ويعود للإسلام، ولعل العاصي منا يتوب من معصيته، ويتذكر إفضال الله عليه فيتوب ويئوب ويعلم ذلك ويفهمه ويعمل بمقتضاه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر