قال الله تعالى:
يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا 
[الأحزاب:20].
تفرقت الأحزاب من قريش وغيرها وعادت بخفي حنين، عادت خائبة إلى نجد وإلى مكة، أما اليهود فتوجه لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم في حصونهم إلى أن خضعوا لحكم سعد بن معاذ ، فقتل الرجال وسبى النساء والأطفال وأخذ الأموال غنيمة، وكانوا عبرة لكل معتبر من كل منافق وكافر، وكفى الله المؤمنين القتال.
ومع كل هذا الذي رآه المنافقون فهم لا يزالون يظنون أن الأحزاب الذين تجمعوا حول الخندق وحول المدينة المنورة يحسبون ويظنون أنهم لم يذهبوا، وأن قريشاً وغطفان لا تزال محاصرة للمدينة، ولو أن العين قد رأت غير ذلك، ولكنه من رعبهم وهلعهم، وصعود قلوبهم وخروجها من مكانها رعباً وهلعاً ظنوا أن الأحزاب لا تزال ولم يذهبوا.
وقوله:
وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ
[الأحزاب:20] أي: وإن عادوا فهم يظنون أنهم لم يذهبوا أو أنهم ذهبوا ليعودوا.
وقوله:
وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ
[الأحزاب:20].
أي: لو رجع الأحزاب فإن المنافقين يتمنون ويحبون ويودون أنهم لا يكونوا في المدينة، وإنما يكونون في البادية خارج المدينة بعداء عن متناول هؤلاء الأحزاب، وهم مع بعدهم يلحقهم الخوف إلى هناك، فتجدهم يسألون يريدون أن يسمعوا أن المسلمين قد هزموا، ليأتوا وقد ذهب الخوف فيؤذوا المؤمنين بألسنة حداد، وهم أشحة على الخير كما وصفهم الله جلا جلاله.
وقوله:
وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ
[الأحزاب:20] أي: وعلى فرض أنهم عادوا إليكم ودخلوا صفوفكم وتظاهروا أنهم من جندكم،
مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا
[الأحزاب:20] فهم سيعودون إلى حالهم من الجبن والبخل والهلع والتظاهر بالقتال ولا قتال، فهم لا يقاتلون إلا بالألسن فتراهم ينفرون ويعوقون المؤمنين عن القتال، ويفرون عند أول اللقاء مع العدو.
إذاً: هؤلاء لا خير فيهم سوء كانوا في العصور السابقة أو في العصور اللاحقة، فهم في كل وقت وعصر يقولون عن الإسلام ما لا يليق، فتجدهم الآن يقولون: إن أحكام الإسلام فيها قسوة، أو أنها لا تصلح لزماننا هذا، فقائل هذا القول منافق كافر لم يؤمن قلبه، وإن آمن لسانه فهو كاذب مخادع منافق.
قال الله تعالى:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا 
[الأحزاب:21].
أي: يا مسلمون في عموم أقطار الأرض لم لا تتخذون محمداً نبي الله الأسوة والقدوة الصالحة؟!
فنبي الله عليه الصلاة والسلام قد أوذي في مكة وأوذي في المدينة، وحضر هذه المعارك بنفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام فشتم، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه، وهجر سنوات حتى اضطر مع أصحابه أن يأكل ورق الشجر زمناً ودهراً، وقيل عنه: ساحر، وقيل عنه: كاذب، ومع كل هذا لم يزده ذلك إلا رسوخاً في الله وثباتاً في أمر الله وقياماً بدعوة الله، وهاهو في غزوة الأحزاب شارك بنفسه عليه الصلاة والسلام، وأخذ المعول وكسر الصخور والأحجار، وثبت ثبوت الجبال الرواسي، فلم يبخل بنفسه ولا ماله، ولم يخف عدواً مهاجماً أو مترصباً أو محاصراً، فلم لا تتخذون يا هؤلاء نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام القدوة والأسوة؟!
قرئ: (الأسوة) و(الإسوة) وكل ذلك متواتر في القراءات السبع، وهما بمعنى واحد.
(الأسوة) مكان التأسي والاقتداء والاتباع، والله جلا جلاله أمرنا بأوامر ونهانا بنواهٍ، وأنزل علينا الكتاب فيه بيان الحلال والحرام، وفيه بيان الآداب والرقائق، وفيه تفصيل العقائد، وفيه الكلام على الدنيا والآخرة، فيه خبر أهل الجنة وأهل الجحيم، وصفة كل واحد منهم.
ومع ذلك فكل هذه التفاصيل أجملها الله تعالى في أن تتخذوا محمداً نبيكم رسول الله أسوة وقدوة، فانظروا عمله وهديه وعبادته وشجاعته وكرمه فاجعلوه قدوة وأسوة، هذا إن كنتم صادقين في الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر.
أما إذا كان الإسلام باللسان فقط والقلب ينكر ما يقوله اللسان فذاك النفاق، والمنافق لا يأتسي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقتدي به، ولا يصدق رسالته، ولا يخلص لدعوته.
وقوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ).
أي: يرجو رحمته ويرجو جنته ويرجو رضاه، ويخاف عذابه ونقمته، يخاف عذاب الآخرة، يخاف يوم الحساب ويوم العرض على الله، فهو في الدنيا يعيش بين خوف وطمع، يخاف عذاب الله، ويرجو رحمة الله.
وقوله: (وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
أي: هو كثير الذكر باللسان، والذكر بالجوارح؛ ليكون مؤمناً حقاً لا شائبة نفاق فيه.
تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة...)
حكم الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم
اختلف العلماء هنا هل الأسوة بالنبي عليه الصلاة والسلام فرض واجب في الحلال والحرام والآداب وشئون الدنيا والآخرة؟
فقال علماؤنا: الأسوة برسول الله عليه الصلاة والسلام واجب من الواجبات وركن من الأركان، فينبغي أن نرى كيف صلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتكون صلاتنا كصلاته أركاناً وواجبات، وسنناً، وآداباً، وأوقاتاً، فالتأسي به في ذلك واجب وحق، حتى إذا اختلفنا في آية أو في حديث، أو في مفهومهما، كان المرجع في تحقيق ذلك الأسوة المحمدية النبوية.
من باب المثال: نحن نتوضأ في الليل والنهار مرات، ومع ذلك هذا الرأس الذي نمسحه عند كل وضوء اختلف الأئمة الأربعة فيه هل الواجب مسح جميع الرأس أو ربعه أو بعض شعرات منه؟
قال الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد : يكفي مسح بعض الرأس.
وقال مالك منفرداً من بين الأربعة: يجب مسح جميع الرأس، واستدل بقوله تعالى في الآية الكريمة:
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
[المائدة:6]، وقال: الباء للإلصاق، يعني: أمر الله أن نلصق أيدينا برءوسنا جميعاً.
وقال الأئمة الثلاثة: الباء للتبعيض، أي: امسحوا بعض الرأس، والآية الكريمة تحتمل التبعيض والإلصاق، وما احتمل واحتمل سقط به البرهان والاستدلال، فما المرجع؟
يقول بعض علماء الأصول: عندما يختلف في فهم النص ويحتمل نرجع إلى الأسوة والقدوة صلى الله عليه وسلم فننظر كيف قال، وكيف فهم، وكيف نفذ ذلك القول، والنبي عليه الصلاة والسلام توضأ مرات بعدد أيام سنينه منذ نبئ وهو ابن أربعين سنة، إلى أن ذهب إلى الرفيق الأعلى وهو ابن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فماذا كان يفعل؟
أجمع الفقهاء على أنه كان يمسح جميع رأسه إلا في صورة حكيت: أنه كان به وجع في الرأس من شدة برد المدينة، فعندما حاول مسح جميع الرأس أمال العمامة قليلاً ومسح على الناصية، وأتم المسح على العمامة، فالجمهور قالوا: إنه بهذا الفعل يكون قد مسح بعض الرأس.
فقيل لهؤلاء: إن كان هذا الفهم صحيحاً فما باله مسح على العمامة؟
أي: مادام مسح الناصية كافياً فلم مسح على العمامة؟ فهو لم يمسح عليها إلا وقد اعتبرها نابت عن مسح جميع الرأس، وذلك دليل الإمام مالك، وهو الحق، أعني أن مسح جميع الرأس فرض واجب، وأن الباء للإلصاق؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يتجاوز ذلك.