إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب [35]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا ذكر الله المؤمنين في القرآن دخل المؤمنات فيهم بالتغليب، وقد صرح الله بذكرهن في كثير من الآيات الكريمة، وهنا يثني الله تعالى على المسلمين والمسلمات المتصفين بالأوصاف الحميدة اللائقة بهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات...)

    سبب نزول قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات ...)

    قال الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].

    سبب نزول هذه الآية التي ذكر فيها النساء مع الرجال في كل فقرة:

    أن أمهات المؤمنين أم سلمة وعائشة وزينب بنت جحش والكثيرات من النساء الطاهرات من المهاجرات والأنصاريات جئن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن له: (يا رسول الله ما لنا لا نذكر مع الرجال في كتاب الله)، ألا خير فينا؟ ألا نصلح لشيء؟ مع أنهن ذكرن في عدة آيات، من ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى [النساء:124]؛ ولكن هؤلاء النساء تطلعن وتشوفن أن يذكرن في كتاب الله كما يُذكر الرجال، فنزلت هذه الآية الكريمة: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35].

    معنى قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات)

    قوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35].

    المسلم من أسلم وجهه لله جل جلاله، واستسلم لأمره ونهيه، واستسلم لقضائه.

    والإسلام قد يعم الإيمان كما يعم الإيمان الإسلام، ولكن يذكر الإسلام في أعمال الجوارح الظاهرة، كما في حديث جبريل عندما جاء سائلاً رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام: (ما الإسلام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله..) إلى آخر الأركان، ثم سأله عن الإيمان؟ فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته..).

    فكان تعريف الإسلام أنه العمل بالجوارح الظاهرة، من نطق باللسان، وعمل بالأركان من صلاة وصيام وزكاة وحج..، وهي كلها أعمال ظاهرة بارزة تُعمل بالأركان.

    والإيمان: التصديق، وهو عمل القلب، ولا إسلام بلا إيمان ولا يتم إيمان إلا بالإسلام، فقد نافق أعراب وجاءوا نبي الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: آمنا، قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] كانوا كذبة.

    والمنافقون قالوا: أسلمنا باللسان، وجلسوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضروا معه الجمع والجماعات ولكن قلوبهم لم تكن موافقة لأركانهم، فالجنان لم يتفق مع اللسان، وإنما آمن اللسان وكفر الجنان، فكشفهم الله وفضحهم، ولذلك ذكر الله هنا المؤمن والمؤمنة والمسلم والمسلمة، وذكر الإسلام الذي هو عمل الأركان وعمل الحواس، وذكر الإيمان الذي هو عمل القلب؛ ليكون ذلك كاملاً تاماً.

    فقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35].

    أي: هؤلاء أسلموا بأن فعلوا الأعمال بالجوارح من يد ولسان وسمع ورجل وغير ذلك، ثم أكدوا ذلك بالإيمان والتصديق به، فكان الإسلام كاملاً وكان الإيمان كاملاً.

    وقد يؤمن الإنسان ولا ينطق به، فالإيمان غيب من عمل القلب، كما أن من يظهر لنا الإسلام بذكر الشهادتين وبدخول المساجد وبالقيام بالأركان نقول له: قد آمنت حقاً، وإن لم يفعل ذلك نعتبره كاذباً، إلا إذا منع من القول بسبب خرس أو ما إلى ذلك، فالأخرس تكفي إشارته، وتكفي كتابته إن كان يكتب، ويعتبر معذوراً، فيكون مسلماً بالجوارح بما نراه من صلاة، وقد ورد في الحديث: (أن رجلاً نذر أن يعتق رقبة مؤمنة، فجاء إلى رسول الله بجارية فقال: يا رسول الله أتصح هذه أن أعتقها وقد نذرت أن أعتق مؤمنة؟ فسألها عليه الصلاة والسلام من أنا؟ قالت له: أنت رسول الله، فسألها النبي عليه الصلاة والسلام عن الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة)، فاكتفى منها بالإشارة، حيث أشارت بيدها إلى العلو، والله تعالى قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فاعتبر صلى الله عليه وسلم إشارتها إسلاماً كافياً في أن تُعتق، وأن يحقق هذا الذي نذر أن يعتق مسلمة، فكانت هذه مسلمة بالإشارة.

    معنى قوله تعالى: (والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات)

    قال الله تعالى: وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [الأحزاب:35].

    قال تعالى في الآية السابقة: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [الأحزاب:31] والقانتون هم الطائعون الله في كتابه، والطائعون النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فمن أطاع الله في كتابه وأطاع نبيه في سنته وحكمته فهو من القانتين.

    قال تعالى: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ [الأحزاب:35].

    أي: صدقوا الله عندما أسلموا وآمنوا، وصدقوا الله عقيدة وأعمالاً وإسلاماً، وصدقوا الله في كل ما يظهرونه، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) فالصدق سمة المؤمن ولا يليق بالمؤمن أن يكذب.

    والكذب شيمة الكافر والمنافق: (علامة المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) فكان من صفة المنافق الكذب، ولا يزال يكذب حتى يكتب كذاباً.

    وقد عُرف من الصحابة رضوان الله عليهم أنهم لا يكذبون، بل كان العرب في جاهليتهم قل ما يكذبون، وخاصة منهم قريش، فقد كان الرجل يفخر وهو في إسلامه أنه ما كذب في جاهلية ولا إسلام، فهذا عثمان عندما اتهمه خصومه وأعداؤه قال: (والله ما كذبت منذ عرفت الدنيا ولا مست يميني ذكري).

    إذاً: صفة المؤمن الصدق. (وقد سأل أبو ذر الغفاري رسول الله عليه الصلاة والسلام: أيزني المؤمن؟ أيسرق المؤمن؟ فكان يقول: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38] أيكذب المؤمن؟ قال: لا) فالمؤمن ليس بمعصوم في الصفات التي لا تليق به، ولكن سرعان ما يتوب إذا وقع في الخطيئة، وسرعان ما يندم عما كان منه، ولكنه لا يكذب؛ لأن الكذب ذُل وهوان، وقد قال سبحانه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].

    معنى قوله تعالى: (والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات)

    قال الله تعالى: وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ [الأحزاب:35].

    أي: الصابرين على عمل الأوامر، وعلى ترك النواهي:

    الذين صبروا على الطاعات فقاموا بها صلاة، وصياماً، وزكاة، وحجاً، وجهاداً، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.

    وصبروا على ترك المنكرات فلم يفعلوها.

    وصبروا على قضاء الله إن أصيبوا فاستسلموا لأمر الله.

    فكانوا صابرين في الطاعة، صابرين عن المعصية، صابرين على قضاء الله وقدره.

    قال الله تعالى: وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ [الأحزاب:35].

    أي: الذين خشعت حواسهم وأركانهم لله تعالى حال صلاتهم، وحال عبادتهم، وسكنت جوانحهم ونفوسهم واطمأنت ثقة بالله وبوحدانيته وقدرته، وخشعت حواسهم وآمنت من غير شك ولا ريب بصدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين، ما قال إلا صدقاً، وقد بلّغ ما أمره الله به، وكان الصادق في حديثه وفي رسالته وفي جميع أعماله.

    فالخاشعون به خشعت له نفوسهم وحواسهم، وكانوا متواضعين لله غير متعاظمين ولا متعالين، ولا متكبرين على عباد الله مهما كان منصبهم وحالهم، فهم عبيد من عبيد الله، إن كانوا أغنياء فالغنى من الله، وإن كانوا علماء فالذي علمهم رسول الله، وإن كانوا ملوكاً ورؤساء فالملك لله والأمر لله يعز من يشاء ويذل من يشاء، والله هو ملك الملوك، وإن كانوا فقراء فليس ذلك بمسبة ولا بعيب، فهم مع ذلك مؤمنون سادة من سادات الخلق والبشر بإيمانهم وإسلامهم، فلم تقلق نفوسهم ولم تنزعج حواسهم.

    معنى قوله تعالى: (والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات)

    قال تعالى: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ [الأحزاب:35].

    هؤلاء الذين إذا أعطاهم الله يعطون الناس من مال الله الذي أعطاهم، فهم يتصدقون زكاة واجبة، ويتصدقون نفقة واجبة، ويتصدقون صدقة نافلة..

    وكان من وصف المؤمن أنه لا يمنع السائل والمحروم وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، فهم ينفقون من المال على الزوجة والولد والوالدين إن كانا في حاجة إليه، وعلى الإخوة وأبناء العم والأعمام إن كانوا في حاجة إليه، ويعطون السائل والمحتاج والمحروم، ولا يبخلون بما آتاهم الله، وكما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا) وأشار إلى الجهات الست، أي: الذين كثرت أموالهم وجمعوا بعضه إلى بعض، فهؤلاء هلكوا إلا أن يصرفوا هذا المال في فضوله وزوائده في جميع الجهات، فيصرفونه في الأقارب، والسائلين، والمحرومين، وفي الزكاة الواجبة وزكاة الفطر، وصدقات التطوع؛ هكذا صفة المسلم.

    قال تعالى: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ [الأحزاب:35].

    أي: الذين صاموا الفرض، صاموا شهر رمضان، وأمسكوا عن شهوات الفرج والبطن واللسان.

    وصاموا النوافل.. صاموا الإثنين والخميس، وصاموا من كل شهر أيام البيض، وهي اليوم الثالث عشر واليوم الرابع عشر واليوم الخامس عشر.

    ومن صام رمضان وصام ثلاثة أيام من كل شهر كتب في الصائمين والصائمات.

    معنى قوله تعالى: (والحافظين فروجهم والحافظات)

    قال تعالى: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ [الأحزاب:35].

    أصل كلمة (فرج) الشق، وهي في الأصل كلمة قيلت تكنية عن قبل المرأة والرجل، ودبر المرأة والرجل، فكانت بذلك كناية فقط، ولكن مع كثرة الاستعمال نُسيت الكناية وأصبحت تعتبر تعريفاً أصلياً للعورتين والسوءتين.

    وقوله: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ [الأحزاب:35] معناه: أنهم يحفظون فروجهم عن الحرام، وكما وصفهم الله تعالى في غير ما سورة فقال: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:5-6] حفظ الرجال والنساء الفروج عن الحرام، أما على الزوجة والأمة فلا يلام الزوج في زوجته ولا يلام السيد في أمته، ولا تلام الزوجة في زوجها؛ ذاك شيء جعله الله سنة البشرية، سنة الأنبياء والرسل منذ أبينا الأول آدم إلى أبينا المباشر، وبذلك نشر الله تعالى خلقه وعباده من أبناء آدم وحواء، فتناسلوا وكثُرت الذرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

    معنى قوله تعالى: (والذاكرين الله كثيراً والذاكرات)

    قال الله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35].

    الذكر يكون باللسان، بأن تقول: لا إله إلا الله، قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله).

    والذكر يكون بالجنان والقلب، بأن تتذكر قدرة الله، وتتساءل في نفسك وأنت صامت: من الذي خلق هذه السماوات العلا؟ من الذي خلق هذه الأراضي جبالاً ووهاداً وبحاراً، أشجاراً وغابات وصحاري؟ فتجد نفسك تقول: الإنسان والملائكة والجن مخلوقون لا يستطيعون، فتقول في نفسك: الخالق هو الله المستحق للعبادة.

    هذا هو الذكر بالجنان والذكر باللسان.

    ويشمل الذكر جميع وأنواع العبادات، فالمصلي ذاكر، والصائم ذاكر، والحاج ذاكر، والطائف ذاكر، والمزكي ذاكر، ذكر أمر الله في عبادته فامتثل أمره وقام بها، ففعل الطاعة ذكر، وترك المنكرات ذكر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قام الرجل ليلاً أو قامت المرأة ليلاً فأيقظ أحدهما الآخر فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين والذاكرات) .

    قال تعالى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].

    هؤلاء المجموعة من النساء والرجال من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات .. إلى آخره، أعد الله لهم مغفرة لذنوبهم، وأجراً عظيماً يوم القيامة بدخول الجنان التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765798872