في هذه الآيات يذكر الله تعالى موعظة ونصيحة مؤمن آل فرعونه لفرعون وقومه، فقد وعظهم موعظة بليغة جليلة أخلص لهم فيها بالنصح، وبذل وسعه وقدرته فيها، فبين فيها عظمة ما يدعوهم إليه في الدنيا والآخرة وآثاره الجميلة، وحذرهم من مغبة ما هم فيه، ومن آثاره المشئومة السيئة عليهم في الدنيا والآخرة، ومع ذلك لم يستجيبوا له وعصوه، فكانت العاقبة أن فرعون وقومه يعرضون على النار غدواً وعشياً، ويوم تقوم الساعة فمآلهم إلى النار خالدين فيها وبئس المصير.
ثم قال تعالى:
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ 
[غافر:42].
فسر هذا المؤمن النار التي دعاه إليها قومه فقال:
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ
[غافر:42] أي: تدعونني يا فرعون ويا هامان ويا قارون ويا هؤلاء المشركون من القبط، أتدعونني إلى الكفر بالله، والجحود برسوله، وتكذيب الكتاب المنزل عليه؟ وأنا أدعوكم إلى الله الواحد، وأنتم تدعونني إلى آلهة مزيفة لا حقيقة لها ولا واقع، وتدعونني لأن يعبد فرعون، وتعبد الأوثان والأصنام، وهذا ما حرمه الله!
وقد ذكروا عن فرعون أنه كان دينه في الأول أن يعبد البقر، فكان يعبد البقرة الشابة ويدعو لعبادتها كما يفعل المشركون البراهمة، أي: مشركوا الهند في عبادتهم البقرة، ولكنه يعبدها ما دامت صغيرة حتى إذا كبرت ذبحها، ثم عبد أخرى أصغر منها، ثم بدا له أن يصنع أصناماً فيعبدها، ثم بدا له أن يدعو لعبادة نفسه وتأليهها.
ومن رأى آثار الشرك والوثنية في أرض مصر وفي متاحفها، وما احتفظوا به ودعوا إليه، وجمعوا من خلفه مالاً، فإنه يؤكد هذا، فهناك صور من البقر التي كانت تعبد، وهناك أوثان من الأصنام التي تعبد، وهناك صور الفراعنة وهي تعبد.
والحاصل: أن كل ذلك سواء، أي: كله شرك وكفر بالله، وجحود بوحدانيته.
فمؤمن آل فرعون يقول لقومه: أتدعونني للشرك وللجهالة بما لا يعلمه الناس والموحدون! وتدعونني للشرك والباطل، وما لم ينزل الله به من سلطان ولا علم لا من عقل أو نقل من كتاب أو رسالة، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار.
وشتان بين مؤمن وكافر، وبين داعية لله وداعية للشيطان، فأنا أدعوكم إلى النجاة وإلى العزيز الذي من اعتز به عز، ومن اعتز بغيره ذل، أدعوكم إلى العزيز على عزته، والغفار الذي يغفر ذنوب من تاب إليه، ويغفر ذنوب من استغفره، والإسلام يجب ما قبله، ومؤمن آل فرعون يدعو قومه بهذا.
وقد حاولوا قتل نبي الله موسى عند أن جاءهم بالبينات من ربه، يقول لهم: يا قوم! كل ما تدعون إليه باطل ما أنزل الله به من سلطان، فدعوني أهدكم وأوصلكم إلى طريق السلامة والرشاد والصواب، فأدعوكم إلى النجاة من عذاب الله والنار، وإلى عبادة الواحد العزيز الذي لا ينال الغفار الذي يغفر ذنوب عباده.
ثم قال تعالى:
لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ 
[غافر:43].
(لا جرم) أي: حقاً، والمعنى: حقاً أن ما تدعونني إليه لا تقبل له دعوة، ولا يستجاب لقوله، ولا هو يستطيع ذلك؛ لأنه جماد وصنم، ولا يستطيع دعاء، وإن استطاع ولم يكن جماداً كأن يكون من نوع المعبودات الملائكية أو الجنية أو البشرية، فلا يجاب له لا في دنيا ولا في آخرة.
والمعنى: أن ما تدعون إليه كافة من عبادة فرعون -أي: من عبادة نفسه- أو من عبادة الأصنام والبقر أو أي شيء دون الله، دعوته تلك لم يستجب لها لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنها كلام باطل، وهراء وشرك ما أنزل الله بها من سلطان.
وفسر ابن عباس رضي الله عنهما: (لا جرم) فسرها بمعنى: الحق، وبمعنى: يقيناً أقول لكم، والمؤدى والمعنى والتفسير واحد، أي: أحدثكم بما لا يكون كذباً، وإنما أحدثكم بالحق المبين، وبقول الصدق، وقوله تعالى:
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ
[غافر:43] أي: لا إجابة له لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا ينفع أحداً في دنياه ولا في أخراه.
وقوله تعالى:
وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ
[غافر:43] أي: يا هؤلاء فكروا هل خلد لكم أب أو أم؟ وهل خلد لكم ملك؟ وهذا الذي تدعونه إلهاً هل سيخلد؟ وهل يموت الإله؟ إن الإله لا تليق به إلا الحياة الدائمة الأبدية، فلا تأخذه سنة ولا نوم، وهو الحي الدائم جل جلاله وعز مقامه، وإنما تدعون إليه من عبادة الأوثان والأصنام هو باطل لا حقيقة له، ولا جواب عليه لا في دنيا ولا في آخرة.
وقوله تعالى:
وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
[غافر:43] يخبر هنا مؤمن آل فرعون، بعد أن كتم إيمانه دهراً، وبعد أن رأى أنه لابد من الجهر أمام فرعون وقبيله، أعلن إسلامه ودعوته، وهو غير خائف من فرعون وبطشه وظلمه وإذايته، فقدم حياته رخيصة في سبيل الله، ولكن الذي قدم له حياته ودعا إليه، سيحميه من فرعون وبطشه، كما يحمي الدعاة إلى الله، وأن المسرفين على أنفسهم بالذنوب، واتبعوا الشهوات والنزوات، فادعوا ما لله العلي العظيم الكبير لأنفسهم، فهؤلاء أصحاب النار، هي جزاء كل من تجرأ على مقام ربه، فادعى له الصاحبة والولد، أو يقول: إن الله لا يقدر وحده إنما اتخذ أعواناً وشركاء، تعالى الله عن كل ما يقول المبطلون والمشركون علواً كبيراً.
تفسير قوله تعالى: (فستذكرون ما أقول لكم...)