إسلام ويب

تفسير سورة غافر [77-81]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد نصر الله تعالى رسوله والمؤمنين على مخالفيهم من الكفار والمشركين، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض تلك الانتصارات في حياته، وبعضها حصلت بعد مماته كالقضاء على فارس والروم والبربر، ثم أخذ الله تعالى يعدد نعمه على عباده في هذه الأنعام العجماء التي سخرها لهم، فمنها ركوبهم ومنها يأكلون.
    قال ربنا جل جلاله: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [غافر:77].

    الله جل جلاله فيما سبق من الآيات أخبر عن تمرد الكفار والمرتدين وعبدة الأوثان والأصنام، وتكذيبهم للحياة ثانية، وتكذيبهم لنبيهم، فأنذرهم وتوعدهم، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ[غافر:77] أي: اصبر على تكذيب هؤلاء ولأوائهم، فالعاقبة لك كما كانت للأنبياء قبلك، ونهاية الأمر نصرك وذلهم وهزيمتهم وهوانهم، قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ[غافر:77].

    وما وعدك الله به من نصر مؤزر ونشر لدينه وهزيمة لعدوه وقضاء عليهم في حياتك وبعد مماتك كل ذلك حق سيتحقق، فما وعدك الله به هو وعد حق وصدق، كما وعد إخوانك وآباءك من الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا بعدك، وهي تسلية وتعزية للنبي عليه الصلاة والسلام وقد لقي منهم الشغب، وكان ذلك في مكة قبل فرض الجهاد، والسورة مكية، والجهاد لم يشرع إلا بالمدينة المنورة، فكلمات الصبر ودعوة النبي عليه الصلاة والسلام للعفو نجدها في الآي المكية، ولا نجدها في الآي المدنية؛ لأن الله أذن لرسوله وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل أعداء الله وأعداء رسوله وكتابه، فلا حاجة للصبر بعد ذلك، وإن كان الصبر في حد ذاته يؤمر به كل مؤمن قبل وبعد، في الحياة النبوية وبعدها، وأمر به الناس كافة، فلابد من الصبر لبلوغ الدرجات العلى، ولابد من الصبر على اللأواء وبلاء الدنيا وكراهية الأعداء وبغضائهم، ومن صبر نال وظفر.

    قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ[غافر:77].

    يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم إن هذا الذي وعدناك إما أن تراه في حياتك، وتعيش إلى أن يصبح تحت يدك، وترى النصر وتسمعه، ويعزك الله على عدوك وأنت لا تزال حياً، فإما أن يحدث بعض ذلك في حياتك، والبعض الآخر يكون بعد وفاتك، كما قال تعالى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ[غافر:77] و(إن) شرط، و(ما) ويقولون عنها: زائدة، وهي ليست زائدة حتى في غير القرآن، ولا يليق أن يقال عن القرآن: بأن فيه شيئاً زائداً، وإنما هي لمعنى التأكيد، فيؤكد الله جل جلاله مع الشرط بأنه سيرى نبينا عليه الصلاة والسلام بعض ما يعده، فيقول: إما أن نرينك بعض ما نعدك أو نتوفينك فإلينا يرجعون، أي: إن نصرناك عليهم وأنت لا تزال حياً، أو نصرنا أتباعك عليهم وأنت قد مت فمرجعهم إلينا، فنحن الذين سنؤدبهم وننتقم منهم في حياتك وبعد مماتك كذلك.

    نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يتحقق في حياته وبعد مماته

    وأكد الكلام بنون التوكيد الثقيلة، أي: إن نرينك بعض الذي نعدك من النصر عليهم، والنشر لدينك في بقاع الأرض، وهزيمة عدوك، فسنريك بعض ذلك وأنت لا تزال حياً، (وإما نتوفينك) أي: وإن نحن توفيناك وأمتناك فإلينا مرجعهم وعودتهم، وسيرون ذلك لا محالة ولا مفر لهم، فسيعاقبون وسيهزمون إما على يدك وأنت لا تزال حياً، وإما بعد مماتك على يدي خلفائك، وقد كان الأمر كذلك، قال تعالى: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] ففي حياة النبي عليه الصلاة والسلام نصره الله نصراً عزيزاً مؤزراً، وحقق له وعده في نصره على أعدائه خاصة قومه قريشاً، الذين أخرجوه من بلده، وألبوا عليه الأعداء، وتعاونوا مع يهود المدينة ونصارى نجران ومشركي نجد وبقية القبائل الكافرة من جزيرة العرب، وهاجموه وأخرجوه من بلده، ثم هاجموه في المدينة بعد أن خرج مهاجراً، ووقعت هناك معارك طاحنة في غزوة أحد وخيبر وغزوات اليهود والخندق والأحزاب وبدر، وقد تألبوا عليه مع كفار الجزيرة كلها، وكانت النهاية نصر نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد عاد إلى مكة مظفراً منتصراً حاكماً في أعدائه، وعرضوا عليه عرض الأسرى والمستعبدين، فقال لهم: (ماذا ترون يا معاشر قريش! أني فاعل بكم؟)، ثم أطلق سراحهم وعفا عنهم بعد القدرة عليهم، وعاقب يهود المدينة بأن طرد من طرد وقتل من قتل وصادر من صادر، وأوصى -خلفاءه من بعده- بإخراج الجميع من جزيرة العرب، أي: من العالم الإسلامي.

    وما مات النبي عليه الصلاة والسلام حتى دانت له جزيرة العرب كلها، وأصبحوا على دينه ومن أتباعه وجنده، ومن الدعاة إلى دينه، وأصبحوا جميعاً يعتقدون رسالته التي كانوا ينكرونها زمناً، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام خرج الإسلام عن جزيرة العرب في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكانت البداية في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وانتشرت انتشاراً شاملاً عاماً في مشارق الأرض ومغاربها أيام الفاروق عمر رضي الله عنه، فدخل في أرض المسلمين الشام والعراق وفارس ومصر والمغرب، وما بقي بعد ذلك إلا القليل، ثم دخل ذلك القليل فأصبحت رقعة العالم الإسلامي من أرض الصين شرقاً إلى أرض فرنسا قرب العاصمة باريس بنحو مائة ميل فقط غرباً وما بينهما جنوباً وشمالاً.

    فالله وعد نبيه صلى الله عليه وسلم وحقق وعده، قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ [غافر:77] أي: إما أن ترى ذلك رؤيا العين، وإما سيكون ذلك بعد موتك، وإلينا مرجعهم.

    وقد فعل الله كل ذلك، فقد وقع بعض ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورآه وقرت عينه وعين المؤمنين به، ووقع أكثره بعده، ففرحت روحه وهو في الرفيق الأعلى، وسرت بنشر التوحيد والإسلام، حيث قام الذين آمنوا على يده من قريش نفسها وبقية قبائل العرب فتعاونوا واتفقوا على نشر دين الله حتى عم الأرض كلها، وأصبح الإسلام وحده هو الظاهر والغالب والمعمول به إلى قرون وقرون بعد ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088527887

    عدد مرات الحفظ

    777143163