معنى قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم)
معنى قوله تعالى: (ولا نساء من نساء)
قال تعالى:
وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ 
[الحجرات:11].
المعلوم في اللغة أن كلمة (القوم) تعم الرجال والنساء.
وقال قوم: كلمة (قوم) تخص الرجال دون النساء، واستدلوا بهذه الآية، والصحيح أنها تعم الرجال والنساء، كما في النداءات النبوية بـ (يا قوم) من أنبياء الله السابقين، فالخطاب فيها للرجال والنساء، والنساء شقائق الرجال.
ولكن هنا عندما قال تعالى: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) دخل الرجال والنساء، ثم خص تعالى النساء بالذكر لأن الهزء يكون من النساء أكثر، فلا يفلت من النساء أحد من الهزء، حيث يهزأن بقصره وبلونه، وبكلامه، وبفقره، فالنساء لا يكدن يجتمعن إلا على الشتم والتنقيص والهزء، وإذا افترقن عادت كل واحدة بالهزء على الأخرى، فالله عمم عندما قال:
لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ
[الحجرات:11] ثم خص فقال:
وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ
[الحجرات:11]، وكأن النساء خوطبن مرتين؛ لأن ذلك من لوازم مجالسهن ولوازم أحاديثهن.
معنى قوله تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم)
قال تعالى:
وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ 
[الحجرات:11].
أي: لا يلمز بعضكم بعضاً، يقال: الهمز واللمز، فاللمز: العيب في شخص آخر بالقول، والهمز يكون بالفعل، وقد لعن الله فاعلي ذلك وهددهم بالويل، وهو الصديد في جهنم، حيث قال تعالى:
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ
[الهمزة:1]، فيا ويله ويا حقارته من عذاب الله يوم القيامة، فشرابه من الويل، وهو صديد أهل النار.
فقوله تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) كقوله تعالى:
وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ
[النساء:29]، أي: لا يقتل بعضكم بعضاً.
فالمراد هنا: لا يعب أحدكم الآخر، ولا ينتقصه بكلمة، ولا يعبه بكلمة، فإن فعل كان من اللمازين الهمازين الذين قال الله عنهم:
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ
[الهمزة:1].
ونحن لا نتكلم عن المزاح بالشتائم، فالمزاح بالعيب وبالشتائم من أخلاق الفاسقين التي ذكرت عن قوم لوط الذين كانوا يرتكبون المنكر في مجالسهم بالقول والفعل، والذي يتأدب بآداب الإسلام لا يكون مزاحه إذا مزح إلا حقاً، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً.
فاللمز والهمز -سواء أكان مزاحاً أم كان جداً- يعتبر من أخلاق المنافقين وأخلاق قوم لوط أقبح الأمم الذين ارتكبوا البلايا التي ما سبقوا بمثلها قط.
وهناك كثير من الآباء غير مهذبين بالتهذيب الحضاري ولا بالتهذيب الإسلامي، فيريدون أن يلاعبوا أولادهم الصغار فيجرئونهم على الشتائم باسم المزاح، وقد يجرئون أولئك الأطفال على الضيفان، فإذا حاول الضيف أن يستنكر أو أدب ذلك الولد بلطمة أو صفعة صاح ذلك الأب وقال: هو يمزح معك، فهي قلة أدب من الكبير، وهي أخلاق المنافقين وقوم لوط، وتلك اللطمة ينبغي أن تكون للأب قبل أن تكون للولد، فينشأ الولد من الصغر وهو هماز لماز شتام.
معنى قوله تعالى: (ولا تنابزوا بالألقاب)
قال تعالى:
وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ 
[الحجرات:11].
النبز بالألقاب: أن تنبز أخاك المسلم بلقب يكرهه، كأن تقول له: القصير، أو تقول له: الأعمى، أو تقول له: الأعرج، أو تقول له: البليد، أو أي لقب مما يكرهه، وهو مما حرم الله تعالى.
إلا إذا كان اللقب قد غلب حتى صار علماً، فهنا لا يكون قصد قائله العيب ولا الغمز، وقد نقل من ذلك لقب الأعرج ، والأعمش، ونحوهما، فشهروا بالألقاب، بحيث لو قلت في الأعرج : عبد الرحمن بن هرمز فإنه لا يكاد يعرف إلا عند المحدثين.
وهناك ألقاب كثيرة غير مقبولة، والقليل منها تجده مقبولاً يحبه صاحبه ولا يتأذى من اللقب، فالألقاب الفاضلة فعلها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد لقب أبا بكر بـالصديق ، ولقب عمر بـالفاروق ، وعثمان بـذي النورين ، ولقب خالداً بسيف الله، ولقب أبا عبيدة بأمين هذه الأمة، وهذا لم يمنعه الشارع، وإنما منع الألفاظ التي هي للعيب وللمز وللتحقير والتصغير.
معنى قوله تعالى: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)
قال تعالى:
بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ 
[الحجرات:11].
فما أقبح أن ينتقل المرء من مؤمن إلى فاسق؛ لأن لمز أخيك المسلم، والهزء بأخيك المسلم يجعلك تكون فاسقاً، ولا يليق بمسلم أن يقبل مثل هذا اللقب.
فذاك جزاء من يفعل مثل هذا، ولما كانت الألقاب ليست بالأمر الهين كان الجزاء بها عقوبة قائلها بغير صدق، فلو قال إنسان: هذا زانٍ وكان الأمر كذلك فهو قد لقبه بما يستحق، وإن كان الأمر على غير ذلك فإنه يكون قاذفاً، وحد القذف أن يجلد صاحبه ثمانين جلدة، وهو كبيرة من الكبائر،
وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ
[الحجرات:11].
فما أقبح وأهون أن ينتقل المرء من الإيمان إلى الفسوق؛ لأنه ارتكب أفعال الفساق الخارجين عن العدل والحق، العصاة لله فيما به أمر، والعصاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما به أمر، أو عنه نهى.
فالله تعالى ينفر المؤمن من هزئه بإخوانه المسلمين بأن يقول الناس عنه: إنه فاسق؛ لأنه هزأ بأخيه ولمزه وتنقصه.
قال تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
[الحجرات:11]، فهؤلاء الذين يفعلون ذلك وقد نهاهم الله عنه وأعلن شين ذلك وقبحه دعاهم ربهم إلى التوبة، فإن تابوا تاب الله عليهم وغفر ذنوبهم وكفر عنهم سيئاتهم، فإن لم يتوبوا فأولئك هم الظالمون.
ومن كان ظالماً استوجب عقوبة القاضي بالتأديب والتعزير وعقوبة الله باللعنة ودخول النار وتعذيبه بها جزاءً وفاقاً على ما آذى به أخاه المسلم وأنكر أخوته وأنكر حقه، والجزاء بحسب العمل.
فالله حكم عليه بالظلم إذا لم يتب، والظلم تترتب عليه عقوبات في الدنيا، وعقوبات في الآخرة، فعلى الحاكم أن يتولى عقوبة الظالم، وإن شاء الله تعالى بعد ذلك زاده عذاباً على عذاب، وإن تاب وأناب غفر الله وهو خير من يغفر وخير من يعفو جل جلاله.
معنى قوله تعالى: (اجتنبوا كثيراً من الظن)
معنى قوله تعالى: (ولا تجسسوا)
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا 
[الحجرات:12].
وجاء التجسس بعد الظن لتأكيده، فقد يظن إنسان شيئاً بالإنسان فيريد أن يحقق ظنه فيتتبعه، من سمع لغطاً في دار ليلاً فقال: لا بد أن هناك أجنبياً، فذهب يتجسس وجلس يسترق السمع خلف الأبواب، فهذا تجسس حرمه الله.
ويروى أن عمر بن الخطاب كان يقوم بالعس في الليل بنفسه، فخرج يوماً ومعه عبد الرحمن بن عوف ، فسمع أصواتاً فجاء ومعه عبد الرحمن فتسور الجدار ودخل على أهل البيت وفاجأهم فوجد غناء ونساء، وكان صاحب البيت كبيرهم، فقال: يا فلان! أمثلك يفعل هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت قد أسأت مرة فقد أسأت ثلاثاً، فالله يقول:
وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا
[البقرة:189]، وأنت تسورت علينا الجدار، ويقول:
لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
[النور:27]، ودخلت بغير إذن، ويقول:
وَلا تَجَسَّسُوا
[الحجرات:12]، وأنت تجسست!
فالتفت عمر إلى عبد الرحمن وقال: أكذلك يا ابن عوف ؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، فخرج، فلما زالت السكرة عن صاحب البيت وجاءت الفكرة أصبح يخجل من أن يرى عمر رضي الله عنه، فكان إذا ذهب للصلاة يختفي بين أركان المسجد.
فـعمر لم يعاقبه؛ لأن الطريقة التي اطلع بها على منكر هؤلاء لم تكن شرعية، ولم تكن مأذوناً بها، ولذلك ألغى عقوبته، ومن جانب آخر أراد منه أن يقلع بلا تهديد ولا إنذار، فقال له: يا فلان! السر الذي بيني وبينك ما أخبرت به أحداً؛ لأنه سيكون غيبة، ولكن إياك أن تعود لمثل ذلك، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فبعد ذلك إن عاد سيعتبره فاسقاً، وفي حديث نبوي: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، ولو تكرر ذلك منه لكانت صفته صفة الفساق الذين لا يصلحون، وقد ثبت عنه أنه لم يعدها قط.
فقوله تعالى:
وَلا تَجَسَّسُوا
[الحجرات:12].
قال بعض أهل اللغة: تجسس وتحسس بمعنى واحد، وهو أنه ذهب يستطلع الأسرار ويستخبر المكتوم.
وقال بعضهم: التجسس يكون في السوء، والتحسس يكون في الخير، ومنه قوله تعالى حكاية عن يعقوب حين أرسل بنيه إلى مصر:
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ
[يوسف:87]، أي: ائتوني بخبر تبشروني به بأن يوسف لا يزال حياً، وأن أخاه الذي لحق به لا يزال حياً.
والجاسوس إن تجسس على الناس فإنه يعزر بعشر جلدات، وقد يرى الحاكم أكثر من ذلك، وإن ذهب يتجسس بالنظر في ثقوب الباب فلصاحب البيت إن رآه أن يفقأ عينه، وقد فعل هذا أحد قليلي الأدب من ضعاف الإيمان مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بما كان يريد أن يفقأ به عينه فوجده قد رفع رأسه، فقال: (لو ثبت لفقأت عينك) .
وهذا الأمر اعتبره جمهور الفقهاء تهديداً، ولكن الظاهرية الشافعية قالوا: ليس هو بالتهديد، بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مطاع، ولذلك فجزاء كل من تجسس بالنظر في ثقوب الأبواب أن تفقأ عينه.
وعقوبة الجاسوس من المسلمين على عورات المسلمين ليبلغها للكافرين هي القتل؛ إذ قد استباح أعراض إخوانه المسلمين، وأعان الكافرين عليهم، فمن فعل ذلك فعقوبته الموت، إذا علمنا أنه فعله وقد ارتد عن الإسلام بقول أو فعل فإنا نقتله على أنه مرتد، ونعامله معاملة المرتدين، بحيث لا نغسله ولا نكفنه ولا نصلي عليه ولا ندفنه في مقابر المسلمين.
أما التجسس بالفضول فصاحبه مرتكب ما يعتبر عيباً وعاراً، فيعزر، والتعزير عند جمهور الفقهاء يكون بعشر ضربات، وعند المالكية يصل التعزير إلى الموت إن رأى الحاكم ذلك لمصلحة الأمن العام.
معنى قوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً)
قال تعالى:
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا 
[الحجرات:12]، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة، فقيل: يا رسول الله! أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ فقال: (
إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) أي: قد كذبت عليه ببهتان.
والغيبة: هي ذكرك أخاك المسلم بما يكره مما هو قائم به، إلا إذا كان قد جاهر بالفسق وبالمعاصي، ففي الحديث النبوي: (اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس)، كأن يجاورك جار أنت تعلم فسقه وتعلم فساده، فلك أن تحذر أهل الحي والجيران منه فتقول عنه: هذا فاسق. ولا تكون هذه غيبة.
وقد قال الحسن البصري رضي الله عنه: من ارتكب المعاصي وجاهر بها سقطت حرمته من الغيبة؛ لأنه أعلن المنكرات بنفسه ولم يرع حرمة، لأن الحرام هو حرام في حد ذاته، فإذا أعلن فقد أصبح حرامين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من ارتكب إثماً فليستتر).
فالستر في الآثام مطلوب في حد ذاته، أما إذا جوهر به فذلك إثم آخر، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من ارتكب الحرمتين فاقتلوه)، وقد كنت أفتيت مرة وأنا في الشام بأن الآكل في رمضان علناً في الشوارع يقتل، لأنه ارتكب الحرام الأول بأن انتهك حرمة رمضان، فأفطر في رمضان بدون عذر ولا سبب من سفر أو مرض، ثم بعد ذلك جاهر بهذه الجريمة وأعلنها بين الناس، ولسان حاله يقول: من أنتم؟ وما دينكم؟ وما رمضان؟
وقد كنت مرة في آخر أيام رمضان ذاهباً إلى المدينة، فوقفت بالسيارة لأملأها بالوقود، فإذا بي أجد اثنين مفطرين في رمضان، فتقدمت إليهما وقلت لهما: أأنتما من اليهود؟ فقالا: نعم، فقلت: كيف تدخلان مكة وأنتما يهوديان؟! وهذا منهما استهتار، وبعد ذلك قرأت فتوى لمفتي الشام الشيخ عبدين يقول: إن منتهك حرمة رمضان جهاراً نهاراً قد ارتكب حرمتين: الجهر بالمعصية والكبيرة، وانتهاك حرمة الشهر، فمن فعل ذلك فقد ارتكب الحرمتين، وفيها يقول عليه الصلاة والسلام: (من ارتكب الحرمتين فاقتلوه).