يوم القيامة يتمنى الكفار لو كان لهم ملء الأرض ذهباً ليفتدوا به من العذاب الذي كانوا به يكذبون، ولكن هيهات! فإنه ليس هناك إلا حساب ولا عمل، وقد فاتهم الأوان حين لم يتعظوا في الدنيا بمن كان قبلهم من الظالمين فعاقبهم الله.
قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ 
[الزمر:47].
يقول الله عن هؤلاء الكفرة المشركين: يوم القيامة عندما يصبحون أمام العذاب وجهاً لوجه، ويسحبون إلى النار فإنه في تلك الساعة يتمنون ويرجون، ولات حين مندم، إذ يندمون على ما فات منهم، ويتمنون لو كان لهم ملء الأرض؛ بشرها وجنها وأرضها وجبالها وبحارها وخيراتها وأرزاقها وجيوشها ودولها ومثل هذا معه ليفتدوا به من عذاب الله، وأن الله يقبل ذلك لافتدوا به ولكن هيهات! فأين الأرض يومئذ، وأين كنوزها وجيوشها، وأين دولها؟ قد أصبحت في أمس الدابر، قد فنيت فيما فني، وذهبت الدنيا بما فيها؛ من خيرها وشرها، وفقرها وغناها، ولم يبق إلا الله والدار الآخرة، من جنة أو نار.
فهم يخوضون في الأماني الباطلة والخواطر الزائفة، ويخوضون في أشياء لا تفيدهم، وإنما تزيدهم حسرةً وألماً وهواناً وعذاباً نفسياً، وعذاباً جسدياً، فهم إذ ذاك من سوء العذاب يتمنون ولات حين أماني، يندمون ولات حين مندم على ما صدر عنهم في دار الدنيا من شرك وكفر، فلو أنهم يقدمون كل ما في الأرض فداء لأجسامهم ولأرواحهم من عذاب الله الذي أصبحوا بمواجهته، ولكن هيهات.. هيهات!
قال تعالى:
وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ
[الزمر:47]، أي: وظهر لهم من الله وعقابه وحسابه وعذابه، ما لم يكونوا يحتسبون، وما لم يكن يخطر لهم ببال، وما لم يقبلوه في دار الدنيا وما لم يصدقوه وهم أحياء، فقد كانوا يعملون ويظنون أنهم يحسنون صنعاً، كانت تضيع أيامهم وسنواتهم، وحياتهم في عمل الباطل وهم يظنون أن ذلك العمل هو الذي يفيدهم وأنه سيكون لهم أجره وثوابه يوم القيامة إن كان ثم قيامة، فهم لا يعتقدون بها، ولا يدينون بكينونتها.
ولذلك فإن ما كانوا ينفونه ويكفرون به يجدونه إذ ذاك مواجهة وأمام أعينهم وهم في ذل وهوان، فيسحبون على وجوههم إلى النار، ولا يفيد منهم قول ولا عمل، ولو ردوا إلى الحياة الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، وإنما هي أباطيل منوا بها أنفسهم، وهيهات هيهات أن يكون لهم من هذه الأماني شيء! وقد بدا لهم وظهر ما لم يتوقعوه، مع أن ذلك قد أخبرتهم به أنبياؤهم، ونزلت به عليهم كتب ربهم، وبُين ذلك تفصيلاً للعمل في الدنيا والعمل للآخرة، كل ذلك بُين وفُصل، وهانحن لا نزال أحياء، ومثل هذا الذي سيقولونه نسمعه وندرسه ونفهمه عن ربنا جل جلاله وعن نبينا صلى الله عليه وسلم.
فلا يمكن أن تقول نفس عند البعث والنشور: لم يبلغني ذلك، ولم أسمع ذلك إلا الآن!
فقوله:
وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ
أي: ظهر لهم ما لم يكونوا في دنياهم يحسبونه ويظنونه أو يخطر لهم ببال؛ وذلك من ضلالهم وجهلهم ومن جعل الرصاص في آذانهم، وإلا فالقرآن قال ذلك:
مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ
[الزمر:23] القرآن قرر ذلك وقرع أسماع المؤمنين والكافرين صباحاً ومساء، وقد جاءت بهذا الأنبياء منذ آدم إلى خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فاعتذارهم وظنهم الواهي بأن ذلك لم يكن يخطر لهم ببال، ذاك من شركهم وجهلهم.
قال تعالى:
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون 
[الزمر:48].
أي: ظهر لهم ما كانوا يظنونه من أعمال صالحة، أنها أصبحت سيئات وضلالات، وبدا لهم أنه شرك ووثنية، وأنه لا ينفعهم بل ضرهم.
قال تعالى:
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون
أي: كانوا يستهزئون ويتضاحكون من المؤمنين والصالحين، ومن أنبياء الله المرسلين، ومن كتب الله المنزلة عليهم، وكانوا يقابلون كل ذلك بالهزء والسخرية، وعلى أنه كلام ملفق ودعاوى من هؤلاء، ولم يكونوا مرسلين ولا أنبياء، والكلام كلامهم، والكتب قولهم، أعانهم عليها قوم آخرون، فبقوا على هذا الضلال وعلى هذا الكفران إلى أن ماتوا وهلكوا ودمروا وأصبحوا جيفاً منتنة، وعندما أعيدوا وبعثوا ورأوا ما لم يكن يخطر لهم ببال، وما لم يكن يحتسبونه، وما كانوا يحسبونه صالحاً؛ بدا لهم أنه سيئات وذنوب ومعاص ومخالفات لله ولرسله، ولورثتهم من العلماء والصالحين والدعاة إلى الله، فأحاطت بهم سيئاتهم إحاطة السوار بالمعصم.
فقوله: (ما كانوا) أي: الذي كانوا به يستهزئون ويسخرون، ويتضاحكون.
فقوله:
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون
[الزمر:48] أي: أحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به، ويتضاحكون منه، وهكذا طال كفرهم خبثهم إلى أن وقعوا في هاوية خبثهم وكفرهم وضلالهم وبعدهم عن الله، ووجدوا ما كانوا يهزءون به أنه هو الحق الصراح وأنه هو الحق الذي لا حق سواه.
قال تعالى:
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ 
[الزمر:51] أي: وأصابهم سيئات أكلهم للحرام، وفسادهم في الأرض، وشركهم بالله واتخاذهم الناس عبيداً وخوراً وجحودهم للأنبياء ولكتب الله، وبعدهم عن الحقائق، وعيشهم في الأباطيل والسفاسف.
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا
أي: أهينوا وأصيبوا بذنوبهم وبسيئات ما كسبوه وارتكبوه وعملوا به.
قال تعالى:
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ
[الزمر:51].
يقول الله عن هؤلاء الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام من كفار جزيرة العرب، ومن كفار الفرس والروم، وكفار الدنيا جميعها: هؤلاء الذين لم يؤمنوا، والذين أبوا إلا الكفر والجحود والعصيان، إذا عاثوا في الأرض فساداً وزادوا كفراناً وجحوداً؛ فـ (سيصيبهم سيئات ما كسبوا)، أي: يصابون بمصائب نتيجة ما اكتسبوا وارتكبوا من شرك وظلم وباطل وأكل أموال الناس بالباطل ومن فساد في الأرض.
قال تعالى:
وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ
أي: ليسوا بفائزين ولا يعجزوننا.
فالله القادر على كل شيء، وهم أقل من أن يعجزوا الله، فمن مضى قبلهم كانوا أعظم كفراناً وأكثر أقواماً وأموالاً وجنداً وحضارة ومع ذلك عاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة نتيجة شركهم، بين خسف وصعق وغرق وتشريد وبلاء، ولم يفلت منهم أحد.
فما قص الله علينا عن قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم فرعون، وقوم لوط وأقوام من بني إسرائيل، إلا ليكونوا عبرة لقوم محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من أمته، حتى إذا أشبهوا النصارى عوقبوا عقابهم، وإذا قلدوا اليهود عوقبوا عقوبتهم، وإذا قلدوا قوم لوط عوقبوا عقوبتهم.
فما ذكر الله ذلك إلا للعبرة والحكمة وأخذ الدرس منهم، لا لنعلم قصة، ولا لنطلع على حكاية، ولا لنمضي وقتاً في قصة لا نعلم ما بها ولا نسعى إلى معرفة حكمها وفوائدها.
فقوله:
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا
أي: ينذرهم الله ويتوعدهم أنه سيصيبهم كذلك سيئات اكتسابهم وارتكابهم كما حصل للأمم السابقة.
قوله:
وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ
أي: لن يعجزونا، فهم لا يعجزون الله، وهيهات هيهات! ما أعجزوا محمداً صلى الله عليه وسلم وهو بشر مثلهم، فقد قتل منهم من قتل، وشرد من شرد، وأسر من أسر، وصادر من صادر، وطرد من طرد، وهكذا في حكومات الخلفاء الراشدين، في مشارق الأرض ومغاربها، ومن أتى بعدهم من الملوك الصالحين، ومن الفاتحين العادلين.
فهؤلاء الذين قالوا إنما ملكنا وتقوينا وكان لنا من الكنوز ما كان هو بعلمنا، وبمقدرتنا وبما جعل الله فينا من أهلية هو أعلم بها، ولن يزيدنا يوم القيامة إلا أحسن من ذلك وأكرم، فهؤلاء لا يزالون على الشرك؛ لذلك قال الله: قل يا محمد لهم:
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 
[الزمر:52].
استفهام تقريعي توبيخي، أي: ألم يعلم هؤلاء أن الله يرزق من يرزق ويمنع الرزق عمن يشاء؟
فقوله:
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
أي: يوسعه يكثره.
قوله:
وَيَقْدِرُ
يقدره ويقلله، أي: هو الذي يفقر من شاء ويغنى من شاء له الحكمة البالغة، وكل يعامله بما هو خير له مآلاً وخير له حالاً.
أولم يعلموا أن الغنى والفقر ليس بمحبوبية ولا بكراهية، ولكنه ابتلاء من الله لخلقه منذ خلق آدم وحواء إلى يوم القيامة، وليس لسعة متكبر ولا لذلة ذليل، ولو كان كذلك لكان الأنبياء أغنى خلق الله على الإطلاق.
وقد عرض على نبينا عليه الصلاة والسلام جبال مكة والمدينة ذهباً وفضة فأبى ذلك، وقال: (أعيش نبياً عبداً، أشبع يوماً فأشكر، وأجوع يوماً فأصبر)، وهو مع ذلك سيد الملوك الأباطرة، الشريف من الخلق والكبير من وضع رأسه عند نعله وبين قدميه.
ودعك ممن لا يعلم قدر النبي عليه الصلاة والسلام؛ فقد كان لا يهاب الملوك والأغنياء صلى الله عليه وسلم، بل هم الذين كانوا إذا رأوه هابوه وارتعدوا منه، كان يجيئه الرجل فيضطرب ويرتعد فيقول له: (هون عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة).
ولولا رحمة الله بأمته وأتباعه لما استطاعوا الجلوس بين يديه، أما رفع البصر بين يديه فما كانوا يستطيعونه، إذ كانوا يجالسونه وكأنما على رءوسهم الطير هيبةً وحباً واحتراماً، أما أن يهابوه كالملوك، فهذا كلام من لم يعرف من هو نبي الله، ولم يتأدب بعد بأدب رسول الله، ولم يعلم المقامات ليعطيها منازلها، وليعطيها حقوقها، وكثير من الناس، وممن يزعم العلم يظن أنه يعطي الحق عندما يقول مثل ذلك، وإذا به يضيع الحق ويقل من الأدب مع المصطفى عليه الصلاة والسلام.
فقوله تعالى:
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ
.
أي: ألم يعلموا أن الغنى والفقر ليس بإكرام ولا إذلال، ولكن لله في ذلك الحكمة، والصالحون من الأنبياء فمن دونهم كانوا يستعيذون من الدنيا وغناها، ويبعدون عنها بعدهم عن المجذوم، فقد قال عليه الصلاة والسلام -ولله في ذلك حكمة-: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم)! ومن هم هؤلاء؟ الله يعلم، ولكن نحن نعلم بتعليم الله لنا، فقد كان لنا زملاء على مقاعد الدرس، كانوا فقراء مدقعين وقلما يجدون قوت يومهم، وكانوا على غاية من الصلاح والدين والأخلاق، وإذا بنا نكبر ويكبرون، ويتولون المناصب فيتخولون الأموال والجاه والسلطان والخدم والحشم، وينسون الله ألبتة؛ فلا صلاة ولا صيام ولا ذكر لله، ولا خوف منه، ألم يكن من صالحهم أن يبقوا فقراء، أليس من الخير أن ينزع عنهم مالهم ليعودوا إلى الله؟ وما أرى إلا أن الران قد صعد على قلوبهم ونسوا الله فأنساهم أنفسهم وتركهم، والله لا ينسى، ولكن نسيان الله لهم هو تركهم وعدم المبالاة بهم.
وهذا شيء متعلق بإرادة الله وقدرته وحكمته لا بعلم عند هؤلاء، ولكن إذلال لأولئك، كم من فقير لا يجد قوت يومه هو عند الله أكرم وأشرف من جماهير ممن يملكون الملايين.