إن الله عز وجل توعد المشركين به المكذبين لرسله الصادين عن دينه بالعذاب الشديد يوم القيامة، وهو عذاب دائم سرمدي لا يخفف عنهم ولا ينقطع، وعلاوة على ما ينالهم من هذا العذاب المقيم فهم أيضاً في عذاب نفسي بسبب انقطاع أملهم ويأسهم من أن ينقضي هذا العذاب ومن أن تنقضي حياتهم ليرتاحوا منه.
قال تعالى:
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ 
[الزخرف:74].
الكافر الذي كفر بالله إلهاً واحداً، وبمحمد بن عبد الله نبياً ورسولاً وخاتماً للأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم، وكفر بالقرآن كلام الله وكتاب الله، وكفر بالأنبياء والمرسلين والكتب السماوية، كالتوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أنزل على عيسى، والزبور الذي أنزل على داود، ولكن الذين أنزل عليهم من أتباع هؤلاء الأنبياء عليهم السلام بدلوا وغيروا وحرفوا، ونقلوا هذه الكتب من التوحيد إلى الوثنية، فألهوا عزيراً وموسى وعيسى وأمه، وعبدوهم من دون الله، وقالوا أنهم أبناء الله، فكفر اليهود والنصارى كفراً مضاعفاً بل أشد.
ومن دخل النار لابد فيها من العذاب، وكما أن الجنة اشتملت على أنواع المشتهيات واللذائذ، فكذلك النار اشتملت على أنواع المكروهات من مطعوم ومشروب ومما شاءوا من خزي ونار وعذاب وبلاء.
فهذا جزاء الكافرين لكفرهم وجحودهم بالله الخالق الرازق
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
[الزخرف:74].
كما قال ربنا في آية أخرى:
لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا
[فاطر:36] أي: لا يموتون فيستريحون، ولا يخفف عنهم من العذاب، فيعذبون وهم أحياء دوماً واستمراراً.
وقال تعالى:
لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ 
[الزخرف:75] أي: آيسون أذلاء، والإبلاس: اليأس من رحمة الله، واليأس من خروج النار، واليأس من الرضا عنهم؛ لأنهم لم يتداركوا ذلك في أيامهم الدنيا، ولم يقولوا يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، ولأنهم لم يفعلوا ولم يقولوا ذلك عذبوا ومكر بهم.
ولا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف، وهم في العذاب آيسون من تخفيفه ومن زواله، وهذا في كل كافر مات على الكفر.
قال الله تعالى:
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ 
[الزخرف:78] أي: جاءتهم ملائكة الله في الدنيا، وجاءتهم رسل ربهم في الدنيا، وأمروهم بالحق، والحق هو الله والإيمان والتوحيد والقرآن والطريق المستقيم ومحمد عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك بمعنى واحد.
جاء الرسل للناس بالحق، فدعوهم لعبادة الحق الله الواحد الأحد، ودعوهم للإيمان بالحق كتاب الله النور المشرق على الخلق، ولكنهم أعموا أبصارهم كما أعموا بصائرهم عن الانتفاع بهذا النور، وجاءهم النور محمد صلى الله عليه وسلم بنوره وبرسالته وبحكمته وهو حريص على إيمانهم، وكاد يهلك نفسه في سبيلهم بما قابلوه من أذى وجحود وكفران وعندما ملك رقابهم ونواصيهم عفا عنهم وقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ولو آمنوا به وقبلوه كما قبله غيرهم من المؤمنين والمسلمين لما كانوا في النار، ولما نادوا هذا النداء الذي لا جواب عليه.
ففي الموت راحة، وأنى لهم الراحة وقد كفروا وأصروا على الكفر مدة حياتهم؟
والمجيء بالحق كان للجن والإنس، قال تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات:56] ولكن الذي آمن بالحق قليل من الناس، قال تعالى:
ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ
[الواقعة:13-14] ولذلك في الآية الكريمة
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ
[الزخرف:78] فكان الأكثر كافراً جاحداً ممتنعاً عن الحق وقبوله والإيمان به والاهتداء بهديه.
وقد كرهوه وازدروه وكفروا به، وفي النار يلقون جزاء كفرهم وجحودهم وكراهتهم للحق، ومن هنا نعلم أن حب الحق إيمان وكراهيته كفران وجحود؛ ولذلك فقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول في الدعاء: (اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك) فحب الله ورسول الله وشريعة الإسلام وحب الصحابة والتابعين والسلف الصالح والمؤمنين من متعلقات الإيمان، ومن أحب قوماً حشر معهم؛ إن كانوا مؤمنين فهو معهم في الجنة، وإن كانوا كافرين فهو معهم في النار، وكل محب للمحب تابع ومقلد، ومن أحب الكافر فعل فعله، ومن أحب المؤمن فعل فعله. والحكمة العربية تقول: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت.
وإذا رئي الإنسان مع منافق أو فاسق أو فاجر فمعنى ذلك أنه مثله، وإذا رئي مع صالح أو مؤمن أو محب للخير فمعناه أنه مؤمن، وكثيراً ما نفعل هذا عندما يصعب علينا أن نعرف حقيقة إنسان لا نعرفه، فنسأله: ما رأيك في أبي بكر ؟ ما رأيك في الأئمة الأربعة؟ ما رأيك في الحركات الجارية في الأرض: كالاشتراكية والشيوعية؟ فإن أجاب إجابة حسنة فهو أخ مسلم، وإن قال: الاشتراكية مذهب صالح، والشيوعية لا بد منها فيكون قد رسب في الامتحان وعاملناه معاملة غير اللائق، إن كان يريد المصاهرة أبعدناه فلا يصلح أن يصاهر مؤمناً، وإن أراد الشركة أشرنا بألا يشارك، وإذا أراد شيئاً نقول له: لا، إلا إذا استنصحنا -والدين النصيحة- فيجب علينا أن ننصحه، ونقول له: إن الذي تحبه ضرر عليك في الدنيا والآخرة.
قال تعالى:
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ 
[الزخرف:79] هي كقوله تعالى:
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 
[النمل:50] ومعنى الآية الأولى: أم أبرموا مكراً أو حيلة، أو تواطئوا على حيلة بالابتعاد عن النار، أو في الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في التنكر للإسلام أو حرب الإسلام.
فهؤلاء الذين أمرت أن تدعوهم إلى الإسلام من أهل المشارق والمغارب، من عاصرك ومن سيأتي بعدك هل تواطئوا على شيء وأحكموه واتفقوا عليه ليريدوا بذلك الكيد للإسلام والهجوم على الإسلام والكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهجوم عليه، أو الكيد لكل ما هو من المقدسات في الإسلام؟
فهم أرادوا المكر فالله يمكر بهم، قال تعالى:
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
فهم لم يشعروا بمكر الله لهم، وهم كمن يبحث عن حتفه بظلفه، وكمن حفر حفرة ليقع فيها، فكانوا هم سبب بلاء أنفسهم، وسبب لعنة أنفسهم، وهم يظنون أنهم بذلك سيتحايلون على الله، وهل مع الله حيلة جل جلاله وعز مقامه؟
وكثير من الناس يتحايلون في شرب الخمر وارتكاب الربا ونشر الفساد وأكل المال بالحيلة وبالحرام، ومنهم من يسأل في الحج عن الرخص فيقولون: هل من الضروري أن نأتي منى؟ وهل من الضروري أن نأتي محرمين؟ ألا يكفي أن نحرم من جدة؟ ولماذا لا يكفي أن نحرم من مكة؟ أليس يكفي الوقوف في عرفات؟ ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)؟ وهكذا فإنهم يريدون أن يقلصوا الحج ركناً بعد ركن، وواجباً بعد واجب.
وقد سمعت هذا في مجلس من عسكري في منصب كبير يريد أن يتكلم كلام العلماء فيقول: يجب أن يكتفي المسلمون بالوقوف في عرفة وذلك أيسر، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)؟ والمجلس مليء بأهل العلم الفاهمين المدركين، ولكن كما قال تعالى:
لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
[الحج:46] ولو سكت من لا يعلم لقل الخلاف ولزالت الفتنة، ولكنه أكثر من يتكلم اليوم بالباطل وبالجهل وبما يتضاحك به عليه لجهله، ولجهله أنه يجهل، وهو ما يسمى بالجهل المركب.
قال تعالى:
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ 
[الزخرف:80]، أم يظن هؤلاء الجهلة الكفرة أننا لا نسمع سرهم ولا نجواهم؟ يقال: أن ساخرين من أهل مكة أخذا يطوفان بالكعبة ويقولان كلاماً كفرياً، فقال أحدهما للآخر: ترى أيسمع الله قولنا؟ فقال الآخر: إن نحن أضمرناه سراً لا يسمع، وإن رفعنا به صوتنا سمعنا، فقال الأول: إن كان يسمع السر فهو يسمع العلن، فإذاً لا مفر.
فالله قال لهما من باب المناظرة وقال للجهلة الذين لا يدركون:
أَمْ يَحْسَبُونَ
أي: أم يظنون،
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ
عندما يسرون قولهم الكفري،
بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ
[الزخرف:80] أي: ليس هو السماع فقط، بل هناك التسجيل والتدوين، فرسلنا الملائكة -ملائكة الله- من على اليمين وعلى الشمال عزين، فالذي على اليمين يكتب الخير والذي على الشمال يكتب الشر من القول والفعل والعمل، ولكن رحمة الله بعباده المؤمنين أن السيئة لا يكتبها إلا إذا فعلت، وإذا لم تفعل تكتب حسنة، والحسنة إذا نويت ولم تفعل كتبت حسنة، وإذا فعلت كتبت عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله، حسب مقام تلك الحسنة من نشرها، ومن عموم نفعها، ومن إخلاصها، ومن كبرها وعظمتها، وما إلى ذلك.
فالله يسمع السر والجهر، ولا يخفى على الله شيء مما تتحدث به الأنفس، فالملائكة الكتبة يكتبون ويسجلون الأقوال والأعمال، ويؤتى بذلك يوم القيامة، فالمؤمن كتابه بيمينه، والكافر كتابه بيساره، فيحاول الكافر أن ينكر، وإذا بجوارحه تشهد عليه، فيشهد عليه سمعه، وبصره، وجلده بما كان يعمل في دار الدنيا.
فالله الذي ينطق اللسان فيتكلم هو القادر على أن ينطق الأخرس والحيوان والطفل الصغير والجوارح وغيرها.
وفي عصرنا قد أنطق الله الجمادات بدون لسان كالراديو والتلفزيون وغيرهما، حتى إن الإنسان البدوي ليظن أن الراديو أو التلفزيون إنساناً بروحه وجسده، فالذي أنطق الخشبة والجمادات ونحن نراها هو الله، وصدق من كتب كتاباً وسماه: العلم يدعو للإيمان، فالذي كان ينكر المعجزات قديماً صار يراها في عصرنا، مع أنها لا يمكن أن تسمى معجزات؛ لأنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، والذي يفعلها ليس مؤمناً ولا يؤمن بمعجزة ولا غيرها، ولكن المعجزات أشياء أنذر بها القرآن، وتحدث عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام فكانت كما أخبر ربنا وكما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم.