إن مشركي العرب لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم برسالة التوحيد وإفراد الله بالعبادة جادلوه وماروه في ذلك جدالاً طويلاً حتى أثبتوا لله الولد من الملائكة وغيرهم، فأمر الله نبيه أن يقول لهم متحدياً أن لو كان لله ولد فإنه سيكون أول من يعبده، ولكن هيهات أن يكون له ولد، فهو سبحانه خالق السماوات والأرض ومالك كل شيء سبحانه وتعالى، لا يحتاج إلى شريك ولا إلى صاحبة أو ولد.
قال الله ربنا جل جلاله:
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ 
[الزخرف:81] يقول الله جل جلاله لعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الوثنيين الذين نسبوا لله ولداً، إن كان هذا حقيقة، فأنا مأمور بأن أكون لهذا الولد مع أبيه أول العابدين، ومعنى ذلك: أن هذا شرط، والشرط لا يلزم منه الوقوع، ولا يلزم منه الجواز، وهو من باب المناظرة، وتعجيز من يزعم ذلك ويدعيه.
والمعنى: ليس لله ولد، ولو كان له ولد لكان إلهاً، ولو كان إلهاً لجاءت الرسل والأنبياء بالأمر بعبادته، ولن يكون ذلك؛ لأنه لا وجود لغير الله الواحد، لا ولد له ولا صاحبة ولا شريك له، لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال، وهذا كقوله تعالى:
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
[الزمر:4]، أي: لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاختار من عبيده ولانتقى منهم ما يشاء، ولكن الله لم يشأ، ولن يكون ذلك، ولن يكون الولد إلها، ولن يكون المخلوق ربا، فالرب واحد لا يليق به ولد، ولا يليق به صاحبة، وإن هي إلا أكاذيب وأضاليل اخترعتها عقول المشركين والفجار وغير الموحدين من الناس.
فهي أكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا من باب الشرط، والشرط لا يلزم منه الوقوع، بل ولا يلزم منه الجواز، ولو أراد الله لاتخذ ولداً، ولو اتخذه لاختاره من خلقه، ولكن الله سبحانه هو الله الواحد القهار، لا يليق به شيء من صفات المخلوقين؛ ولذلك فإن الله نزه نفسه وسبحها وعظمها وعلمنا أن نقول ذلك فقال:
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
[الزخرف:82] فالله سبحانه يعظم نفسه وينزهها، ويبرئها من المعائب والنقائص التي لا تليق به، فهو رب السماوات والأرض ورب العرش، فهو الواحد الأحد تعالى ربنا وتنزه وتعظم وتقدس عما يصفه به المشركون الوثنيون الكاذبون، بل الله واحد لا ثاني له، ولا شريك له، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
قال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ 
[الزخرف:84].
أي: هو الله إله في السماء معبود، وإله في الأرض معبود، لا ثاني له لا في أرض ولا في سماء، فهو الإله الخالق الرازق المعبود في السماء والأرض، ليس هناك من إله ولا رب سواه كما زعم المبطلون والمشركون، بل هو رب السماوات ورب الأرض وما بينهما من أفلاك ومن خلق مما لا يعده ولا يحصيه إلا الله من هذه المجرات التي نراها فوقنا وهي أكبر من الأرض بمرات، والقليل منها أصغر من الأرض، أو قريب منها كالقمر مثلاً، فهي بملايين لا يحصي عددها إلا الله، والذي تدل عليه النصوص أن في هذه الأفلاك والمجرات خلقاً من خلق الله لا يعلم شكلهم ونوعهم إلا الله، وكلهم أمروا بطاعة الله ووحدانيته؛ ولذلك فإن الله يقول عن ذاته العلية: هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وهو الرب المعبود لما بين السماوات والأرض.
وقوله تعالى:
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
[الزخرف:84] أي: الحكيم فيما يخلق، والذي يضع الأمور مواضعها بما يصلح العباد في دنياهم وأخراهم، فيما لا يدركون له كنهاً، فالبعض لا يصلحه إلا الفقر، والبعض لا يصلحه إلا الغنى، والبعض لا يصلحه إلا طول العمر، والبعض لا يصلحه إلا قصر العمر، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم).
وكما يقال: لو كشف لنا الغطاء لوجدنا أن ما صنعه الله بنا وصنعه بخلقه هو عين الحكمة وعين الصواب، فهو عليم بخلقه، والعليم بما يصلح هؤلاء الخلق في معاشهم وفي معادهم، وفي أرزاقهم، وفي بيئتهم، وفي مجتمعاتهم.
قال تعالى:
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 
[الزخرف:86] هؤلاء الذين يعبدون من دون الله من جماد أو حيوان أو ملك أو جن أو إنس لا شفاعة لهم، بل المشركون وما يعبدون حصب جهنم هم لها واردون، ولكن من شهد بالحق وهم يعلمون فإن لهم الشهادة، وهذه الفقرة من الآية تعم وتخص، فمما يعبد المشركون الصالحين، والملائكة، وعيسى، و
مريم، وعزيراً، وهؤلاء يشهدون بالحق، ويشهدون بشهادة التوحيد لا إله إلا الله، وهم يعلمون ذلك على بصيرة، فشهادتهم شهادة حق، وشهادة علم، فهؤلاء أذن الله لهم بالشهادة ومن دونهم ليسوا كذلك.
وأخذ فقهاؤنا من هذه الآية أنه لا تقبل الشهادة إلا بعلم، فلا تقبل شهادة السماع، فلا بد أن يكون الإنسان قد شهد بالحق وهو يعلم ذلك الحق واطلع عليه وعاش في واقعه وعلم به، وليس كمن يقول: سمعت أو بلغني أو رويت، ولذلك الشهادة على ما تستباح به الأعراض والدماء والأموال لا تكون إلا من مزكيين، ولا تكون الشهادة شهادة بحق إلا مع علمهم بذلك الحق علماً شخصياً لا شهادة سماع.
قال تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
[الزخرف:87] هؤلاء الذين جعلوا مع الله شريكاً؛ ولداً، أو بنتاً، أو صاحبة، أو أبناءً، أو شركاء، سلهم: من خلقهم؟ فسيجيبونك: خلقنا الله، وقد فعل صلى الله عليه وسلم فسأل من عاصره عمن خلقهم، فقالوا: الله، قال الله عنهم:
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
[الزخرف:87] فكيف مع علمهم بأن الله خالقهم ومولاهم ومدبرهم يصرفون ويدفعون عن الحق، فيعبدون مع الله غيره وهو لم يخلقهم ولم يدبر لهم ولم يرزقوهم ولم يكن له عليهم ولاية لا بخير ولا بشر.
فليس هذا شأن العقلاء، ومن هنا نرى أن الجاهلية العربية أشرف -على وثنيتها- وأكرم -على جهلها- من كفر المذاهب الهدامة الباطلة التي تنكر الخلق والخالق، والتدبير والمدبر، والرزق والرازق وتقول: إن هو إلا الدهر؛ لأن أصحاب هذه المذاهب يعيشون كما تعيش الحيوانات، لا يفكرون في آخرة، ولا يفكرون في أنفسهم، بل يزعمون أنهم يعيشون ويموتون وأنه لا يهلكهم إلا الدهر ولا شيء آخر، فأصحاب الجاهلية الأولى على شركهم يؤمنون بالله ولكنهم لم يحسنوا هذا الإيمان وخلطوا معه شركاً، أما هؤلاء فنزعت عقولهم بالمرة، وأنكروا ما هو حال وقائم بخلقهم وبفعلهم وبرزقهم:
ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فالإنسان يعرف وجود الله جل جلاله في خلقه الليل والنهار، والفصول الأربعة، وموت الناس وإحيائهم، ورزقهم وغير ذلك، والإنسان يتساءل بفطرته: من خلقني وخلق الكون؟ ومن رزقني وأنشأني وأصحني وأمرضني وأحياني وأماتني؟
فيستشعر لأول وهلة وتقول حواسه وجوارحه أنه هو الله، بل حتى الحيوانات والجن، وكذلك الكافر بحواسه وإن أنكره جنانه ولسانه، قال تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
[الزخرف:87] يقولون ذلك متأكدين، ويقسمون عليه بلام جواب القسم، ويؤكدونه بالنون المثقلة، بأن خالقنا هو الله.
وقوله:
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
[الزخرف:87] يقول ربنا عنهم: إن كانوا كذلك، وقد علموا الحق وأعلنوه واعترفوا به، فكيف صرفوا عنه، وعبدوا مع الواحد اثنين، وعبدوا مع الخالق خلقاً؟ فهذا منتهى سخافات وضياع العقول.
قال الله تعالى:
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 
[الزخرف:89] وكان هذا قبل تشريع الجهاد.
هذه الآية فيها تهديد ووعيد وإنذار قاس شديد؛ لأنه جاء بعد قوله: (فاصفح عنهم) أي: فأعرض عنهم، ودعهم وسالمهم، ولا تفعل فعلهم، ولا تقل قولهم، ولا تقاربهم في سفههم، وأعرض عن الجاهلين، وانتظر فإن العاقبة لك كما كانت للأنبياء قبلك.
ولا تقابلهم لا شتماً بشتم، ولا هجواً بهجو، ولا هجوماً بهجوم، فقد كانوا يعذبون ضعاف القوم إلى حد القتل، حتى أخرجوا نبينا وأصحابه عن مكة كلها، فهاجروا إلى المدينة المنورة، وكانت يثرب، فغير الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاسم، فطابت بطيب محمد صلى الله عليه وسلم، وتنورت بنوره، وتشرفت بمقامه فيها حياً وميتاً.
وقوله تعالى:
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
أي: فقد علموا ذلك، فقد نزل قوله تعالى في الآية المدينة التي نزلت في المدينة وهي قوله تعالى:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ
[الحج:39-40] أي: شردوا من وطنهم وقوتلوا لأنهم قالوا كلمة الحق، وهي: لا إله إلا الله، فشرع القتال دفاعاً عن الأوطان ورفعاً للظلم، ودفاعاً عن العقيدة، وما شرع القتال يوم شرع إلا جواباً على الظلمة والجبابرة والعتاة من المواطنين وغير المواطنين.
والعهد المكي لم يكن فيه أمر بالقتال، ولم يكن إلا الأمر بالصبر، وكان يمر عليه الصلاة والسلام على الأسرة من أصحابه نساء ورجالاً وشباباً وهم يعذبون بالنار والضرب بالحديد حتى تسال الدماء، ولا يملك لهم شيئاً إذ ذاك فيقول: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة)، فاستشهدت أم عمار زوجة ياسر في سبيل الله فقد ضربها أبو جهل بحربة في قلبها، وهي تعلن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وكان يصر عليها أن تشرك بالله وتكفر بمحمد وهي تأبى إلا عقيدة لا إله إلا الله وموالاة الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله.
فالله يأمر محمداً ألا يعاقبهم، بل يسالمهم ولا يقاربهم بالقول أو بالفعل، فإنهم سيرون عاقبة ظلمهم وشركهم، وقد كان الأمر كذلك، فما كاد يطأ بقدمه الشريفة عليه الصلاة والسلام المدينة إلا ووجد الإيمان قد سبقه إليها، وما من درب من دروبها ولا حي من أحيائها ولا سوق من أسواقها إلا وفيه رجل أو امرأة أو أسرة كاملة تقول: لا إله إلا الله، وعندما جاءها مهاجراً انتظروه اليوم بعد اليوم، حتى أقبل من بعيد، فرحبوا به مهللين، زاجلين، ناشدين الشعر وهم يقولون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
حتى ضربت الدفوف على رأسه، فقد جاءت أمة سوداء وقالت: (يا رسول الله! لقد نذرت إن أوصلك الله إلينا سالماً أن أضرب الدف عند رأسك، قال لها: إن نذرت فافعلي وإلا فلا) وهكذا بعد أن أصبح للإسلام موطئ قدم، وأصبحت له عاصمة، ذل فيها الكفر وعز الإيمان، وتتابعت الحروب وحاول قومه محاربته في غزوة بدر وأحد، واليهود يحاربونه من الداخل والمشركون من الخارج.
فغزوة بدر كانت الفرقان وكانت الفاصلة وكانت العز، إلى أن جاء بعد ذلك فتح مكة الذي أذل الله فيه الكفر وأعز الإسلام، ومنذ ذلك اليوم والإسلام عزيز.
فالمسلمون إذا استمسكوا بدين الله وبكتاب الله وبقيادة محمد نبيهم عليه الصلاة والسلام يعزهم الله ويملكهم العالم، وعندما يتبعون كل ناعق من يهودي أو نصراني أو منافق، ينزل الله عليهم العذاب والمحنة، وقد كان هذا في عقود مختلفة، وعندما يعودون ويئوبون إلى الله بالتوبة يتوب الله عليهم وينصرهم كما نصر الصحابة ففتحوا العوالم.
ثم لما عاد المسلمون إلى معصية الله ورسوله سلط الله عليهم الصليبيين في حروبهم الصليبية، فاحتلوا فلسطين والمسجد الأقصى، ثم لما تابوا وأنابوا أعز الله الإسلام، ثم فتحت القسطنطينية فأصبحت تسمى إسلام بول -أي: دار الإسلام- وهي دار الإسلام إلى اليوم.
ثم عاد المسلمون للكفر وللمعصية فسلط الله عليهم التتار فاستباحوا الأعراض والدماء والأموال، فجعلوا من البلاد عاليها سافلها، ثم تابوا وأنابوا فعاد الله عليهم بتوبته وبمغفرته، ثم عادوا فقصروا فسلط الله عليهم الاستعمار الأوروبي، فما كاد يترك رقعة من أرض المسلمين إلا واحتلها، وفرض أوامره وكفره فهو الحاكم والمسير، ثم عادوا بعدما أكرمهم الله بالاستقلال وعودة الديار إلى الإسلام فحكمها مرتدوها وكفرتها، فسلط الله عليهم أذل وأحقر خلقه اليهود الذين لعنوا إلى يوم القيامة، ومهما صنعوا أو فعلوا أو حاولوا شيئاً إلا زاده الله عليهم ذلاً، فإذا عدنا إلى الله عودة صادقة فإن الله سيهلك اليهود، ويعود المسلمون لعزهم ونصرهم، والله فاعل لا محالة جل جلاله، وكما يقول ربنا:
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
[الأعراف:167]. وهكذا نكون قد ختمنا سورة الزخرف.