عندما يجمع الله الأمم يوم القيامة وترى كل أمة جاثية، فحينئذٍ يأخذون كتبهم فينطق الكتاب بما عمل صاحبه، فأما المؤمنون فيدخلهم الله الجنة، وأما الذين كفروا فيسألهم الله سؤال تقريع وتوبيخ عن كفرهم بآيات الله التي كانت تتلى عليهم في الدنيا، وعن تكذيبهم بوعد الله الحق وقيام الساعة.
تفسير قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ...)
أي: هذا الكتاب المكلف بكتابته الملكان عن اليمين وعن الشمال، فأحدهما يكتب الحسنات والآخر يكتب السيئات؛ لا ينطق إلا بالحق، أي: لا يكتب فيه إلا الحق ولا ينقل منه إلا الحق، وكأنه بذلك ينطق، وما النطق إلا أداء المعاني المرادة، فهذه المعاني التي يؤديها النطق تؤديها الكتابة التي يكتبها الملائكة في أعمال الناس حسناتها وسيئاتها هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ[الجاثية:29] أي: أيها الناس من مؤمنين وكافرين، فلا يُكتب في الكتاب ولا ينسخ في الكتاب ولا يسجّل في الكتاب إلا الصدق والحق الذي لا شك فيه ولا ريب.
يقول ربنا جل جلاله: إنا كنا -وأنتم في دار الدنيا- نستنسخ ما كنتم تعملون، فنكلّف الملكين بنسخ وكتابة ما تعملون من خير أو شر، ولكن ليس مع الكفر خير، وليس مع الشرك حسنات، إن هو إلا شرك، وما زاد عليه إن كان حسنة -بأن كان صدقة أو خدمة لإنسان- فلا يزيد ولا ينقص؛ لأنها أعمال كانت بلا نية صادقة لا يراد بها وجه الله؛ لأن الكافر لا يعرف لله وقاراً ولا مقاماً، ولا يعرف إيماناً ولا توحيداً .
وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ[الجاثية:29] فسّره قوم من المحققين والمفسرين فقالوا: النسخ لا يكون إلا من كتاب إلى كتاب، ومعنى ذلك أن أعمال الإنسان مدونة في الديوان في الملأ الأعلى في اللوح المحفوظ، فمدون هناك ما عمل وما سيعمل إلى يوم القيامة، وشقي هو أو سعيد، ومع ذلك يكلّف الملائكة بكتابة أعمالهم ونسخها من هناك، فإذا وافق ما كتبه الملكان فذاك، والحفظة الكتبة المكلفون بكتابة الأعمال هم قوم معصومون وملائكة مقربون لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، فلا تتصور منهم مخالفة ولا تبديل ولا تغيير فيما ينسخونه من اللوح المحفوظ إلى كتبهم.
وقد قيل: يعرض ما كتبه الملكان على ما كان في اللوح المحفوظ، فما كان فيه من مباح لا حسنة ولا سيئة يعتبر لغواً، فلا يسجّل ولا يكتب ويلغى؛ لأنه لا تنشأ عنه حسنة ولا تنشأ عنه سيئة، فلا حاجة إلى كتابته.
يقول تعالى: هَذَا كِتَابُنَا[الجاثية:29] يقال لهم يوم القيامة: هذا كتاب الله الذي أمر به الله الحفظة الكتاب من الملائكة ليدونوا فيه أعمال الإنسان منذ أن يبلغ إلى أن يتوفى، فهو ينطق عليكم بالحق لا يكذب ولا يزيد ولا ينقص، وينطق عليكم بالعدل، ويسجّل بالحق، ولا يقول إلا ذلك.
أي: هذا الكتاب هو على شعبتين: شعبة لكتابة أعمال الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وشعبة للذين كفروا ولم يعملوا صالحاً يوماً.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[الجاثية:30] أي: آمنوا بالله لساناً، وأيقنوا جناناً، وعملوا بالجوارح وتمسكوا بـ(لا إله إلا الله)، ومع كلمة التوحيد فعلوا الحسنات والصالحات، ومنها الأركان الخمسة: الصلوات الخمس، وصيام رمضان، والزكاة، وحج بيت الله الحرام، وكذلك ترك المنكرات ما ظهر منها وما بطن.
قال تعالى: ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ[الجاثية:30] أي: ذلك هو الفوز الظاهر البين، ذلك هو النصر الواضح، ذلك هو النجاح الكامل، أن يقبل الله من عبده إيمانه وعمله الصالح بأن تسجّل ملائكته ذلك في كتاب مستنسخ عن اللوح المحفوظ، فمن وجد ذلك فقد فاز فوزاً عظيماً ونصر نصراً مبيناً وآب بالجنة، وآب بالرحمة والرضا، وذاك مما استنسخه ملائكة الله في الكتب التي أمروا باستنساخها، فهذا حال المؤمنين.
تفسير قوله تعالى: (وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ...)
أي: ألم تكن آيات كتابي ودلائل وحدانيتي وبراهين قدرتي يتلوها علماؤكم عليكم؟! أفلم تسمعوها من المؤمنين؟! أفلم تتلوها في كتاب الله؟! أين كنتم إذ ذاك وآيات الله تتلى عليكم تقرع آذانكم، وتعلمكم دين ربكم؟! بل كانت حالتكم أن اسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ، استكبرتم عن الإيمان، وتعاليتم على الأنبياء، واطرحتم العلماء، ولم تسمعوا ما وجب عليكم استماعه من الإيمان بالله والإيمان برسله والعمل بكتابه.
فالله يقول لنا هذا ونحن لا نزال في دار الدنيا لنتعظ ولنخاف ونهاب، ولنجعل ذلك نذيراً لعلنا نعود إليه، ولعلنا نخاف مما خوفنا منه، ومع ذلك يأتي أكثر الناس يوم القيامة وقد كفروا بربهم، وأشركوا بوحدانيته، وكفروا بقدرته، وكذّبوا أنبياءه ولم يعملوا بما سمعوه من آيات، فتكون حجة الله البالغة عليهم أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ[الجاثية:31] والإجرام هنا بالغ أعلاه وأقصاه، وهو الكفر والشرك بالله، استكبرتم عن الإيمان فكنتم مشركين كفرة بالله وثنيين.
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها ...)
أي: إذا قال المؤمنون: إن وعد الله بيوم القيامة وبيوم البعث والحساب والعرض على الله حق، وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا[الجاثية:32] أي: يوم القيامة ويوم البعث لا ريب فيه، ولا شك، فهو آت لا محالة لتعرض أعمال الناس وأعمال الخلق على الله فإما إلى جنة وإما إلى نار، إذا قيل لكم ذلك وسمعتم ذلك إذا بكم تجيبون: ما ندري ما الساعة؟! تتكلمون بهزء وتتكلمون بجهل، وتتكلمون بكفر، وتقولون: ما ندري ما الساعة؟! أهي ساعة تنتظر من ساعات الزمان؟! أم هي اليوم الذي يقول عنه أناس: هو يوم البعث والنشور والحياة الثانية؟! فإن كان كذلك فنحن لا ندري بهذا، ولا نعرفه، ولا نوقن به!
مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا[الجاثية:32] ولسنا إلا ظانين واهمين، فلا نتيقن بذلك ولا نؤمن بحقيقة ذلك، فكيف يعيش الإنسان مرة ثانية بعد أن يصبح عظاماً نخرة، وبعد أن يصبح رفاتاً، وبعد أن يعود تراباً؟!
وقد أتى الله تعالى بالبراهين القاطعة والدلائل الواضحة في العشرات -بل المئات- من الآيات والعشرات من السور على البعث، كقوله تعالى: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ[يس:78-79]، فالدليل عندكم، فأنتم تدركون أنكم لم تكونوا فكنتم، لم تكونوا عظاماً نخرة ولا أشباحاً جامدة، بل كنتم عدماً، ومع ذلك صير الله هذا العدم وجوداً، فأخرجكم إلى الوجود أشباحاً ذات أرواح ناطقة ومتحركة عاقلة، فهذه الأشباح المتحركة أين كانت؟! ومن أتى بها؟! ومن صنعها؟! قال تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ[الذاريات:21] فالدلائل القاطعة على القدرة الإلهية وعلى الوحدانية الإلهية هي قائمة في كل نفس.