الحمد لله رب العالمين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده.
وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه هي الحلقة الخامسة والعشرون من حلقاتنا في السيرة النبوية العطرة، على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات من رب الأرض والسماوات.
وهذا هو الدرس الأخير في شهر شعبان، وهكذا الدنيا تمضي.
وهذه الحلقة الخامسة والعشرون لعلها تكون مسك الختام في مسألة الصلاة، وندعو الله عز وجل أن يجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم فك الكرب عن المكروبين، وسد الدين عن المدينين، واقض حوائجنا وحوائج المحتاجين.
اللهم فك عنا الكرب الخاص والعام، اللهم اكشف كروبنا، واشرح صدورنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا شيطاناً في طريقنا إلا أبعدته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته يا أكرم الأكرمين.
اللهم اغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ما ترك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً إلا وبينه وشرحه لأمته وحضهم عليه، وما ترك شراً يحيط بالأمة إلا وضحه وبينه وحذر المسلمين منه، فكان يقول فيما يقول صلى الله عليه وسلم: (من زهد في الدنيا أحبه الله، ومن زهد فيما في أيدي الناس أحبه الناس).
آخر منتهى الآمال في الحياة أن يحبك الله وأن يحبك الناس، وهذه غاية لا يكون الوصول إليها بسهولة، فكيف أبقى محموداً عند الله وعند الناس؟
يجب أن تعرف أولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الغر الميامين رضوان الله عليهم جميعاً كانوا زاهدين في الدنيا، لأنه كما يقول العلماء: اشتغالك فيما هو مضمون لك -الذي هو الرزق- وتقصيرك عما هو مطلوب منك -الذي هو العمل- دليل على انطماس البصيرة فيك.
أي: أن تعمل ليل نهار للشيء المضمون، وتنام ليل نهار عن الشيء المطلوب، هذا دليل على أنك مطموس البصيرة والعياذ بالله، لكن مضاء البصيرة مشتغل فيما هو مطلوب منه، ومتوكل بما هو مضمون له.
يقول سيدنا عيسى عليه السلام: يا ابن آدم! إن كان الغد من أجلك فسوف يأتيك فيه رزق -يعني: إن كان غداً من أجلك فرزقك مضمون- وإن كان الغد ليس من أجلك فلا تشغلن نفسك برزق غيرك، فإن من رزقك سوف يرزقهم.
وتجد أغلب الناس اليوم يعمل صباح مساء قائلاً: أؤمن أولادي، والصواب: أن الذي يريد أن يؤمن مستقبل أولاده، فليؤمنهم بالتقوى، وبالرصيد الإيماني، وبأن يربيهم على طاعة الله، فعندما يموت لا يأكل الأولاد حراماً، وأنا أضمن مائة في المائة أنه ما دام الأولاد لم يأكلوا حراماً فإن ربهم سوف يبارك لهم ويرزقهم.
فإن قلت: الولد لا يصلي؛ فالسبب أنك تؤكله حراماً، أو قلت: الولد يعصيني؛ فهذا لأنك عققت أباك قبل هذا، وإن كان الولد يشتم أمه؛ فلأنك شتمت أمك قبل هذا، وأمه -التي هي امرأتك- كانت تتأفف من أمها قبل هذا.
وهكذا، فكما تدين تدان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تدين تدان)، هذا كلام الحبيب عليه الصلاة والسلام.
يعني: الذي سوف تزرعه سيأتيك ولو بعد أربعين أو خمسين أو سبعين سنة، فالذي عملته في أبيك وأمك سوف يعمل فيك، والذي عملته من خير في الناس، فأنت عندما تكبر سيعمل فيك نفس الخير، وعندما تقوم للرجل الكبير السن من مجلسك، وتهدئ السيارة من أجل الرجل العجوز أن يمشي، فسيقيض الله لك من يصنع معك هذا وأكثر؛ لأن البر عند الله لا يبلى، فأنت قدم لنفسك خيراً فقط، وستجازى عليه عاجلاً أو آجلاً، فقبل أن تدخل في حفرة مظلمة وحيداً، نورها الآن بأعمال الخير، وستنير لك هناك إن شاء الله. اللهم أنر لنا مستقبلنا في القبر وعلى الصراط يا رب العالمين.
وما معنى: أن ينور الله لنا قبرنا؟
يجب أن تعلم أنه من رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن جعل جلَّ عذاب أمته في القبر، يعني: مجموعة من ذنوبك تتخلص منها وأنت في القبر، وهذا من كرم الله لنا، أي: أن نخرج من القبور ونكون قد تخلصنا من 95% من الذي علينا، ويفضل قليل، والخمسة في المائة هذه عبارة عن حقوق عباد، وربنا يغري الذي ظلمته فيقول له: أتريد حقك منه؟ يقول: نعم، أريد حقي، فما هو حقك؟ فيقول: هذا باع لي شيئاً وغشني فيه، بكم جنيه؟ فيقول: بألف جنيه مثلاً، فكم سيأخذ من ثوابك مقابل الألف جنيه؟ ننظر: الألف جنيه هذه فيها مليون مليم، إذا قسمناها على اثنين سيكون الناتج نصف مليون، يقول العلماء في تفسير الحديث: (من أخذ من حق أخيه دانقاً)، الدانق: هو مليمان، فسيأخذ صاحب الحق مقابل الاثنين ثواب سبعمائة صلاة مكتوبة مفروضة مقبولة، وسوف يبقى نصف مليون، ستكون بثلاثمائة وخمسين مليوناً، وأنت لم تصل الصلاة هذه كلها، وصلاتك نفسها مشكوك في أمرها، إلا ما كان صلاة الجماعة، قيل لـأبي موسى : يا أبا موسى الأشعري ! ماذا تحب؟ قال: أحب صلاة الجماعة، أضمن ثوابها وأكفى سهوها. يعني: حتى إن سهوت فيها فهي مقبولة، فصلاة الإمام تجبر صلاة المأمومين كلهم، وإذا كانت صلاة الإمام والمأمومين كلها سواء لا قيمة لها رغم هذا يفخر بنا ربنا أمام الملائكة، رغم أن قلوبنا هواء، فيقول: (يا ملائكتي! أرأيتم عبادي وقد اصطفوا يصلون من أجلي، ويسبحون كما تفعلون، أشهدكم أني قبلت صلاتهم وغفرت ذنوبهم، ورضيت عنهم)، وهذا من فضل صلاة الجماعة.
لكن لو صليت لوحدي، فالأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس لابن آدم من صلاته إلا ما عقل منها)، أي: لا يؤجر إلا على ما وعى منها، قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5].
إذاً: فلما أقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] أفكر في الحمد، ومعناه: أني أثني عليه سبحانه لكونه رب العالمين كلهم.
ثم أمجده فأقرأ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، وكلمة (الرحمن) أعم وأشمل من (الرحيم)؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة)؛ لأن في الدنيا يرحم ربنا المؤمن والكافر، يرحم الكافر بأن يسهل له أن يعمل خيراً، ينتفع به الناس ويجازيه عليه في الدنيا، فتراه في تقدم وحضارة، وربح، وهواء نظيف، وكل هذا من أجل أن يموت وقد أخذ حقه كاملاً، وليس له في الآخرة إلا النار.
أما المسلم فيجازى على عمل الخير دنيا وآخرة، لكن ربنا يسلب الدنيا عن المؤمن أحياناً، كما يمنع أهل المريض بعض أنواع الطعام عن مريضهم؛ لمصلحته وعافيته، ولله المثل الأعلى، فهو كذلك يمنع المال أحياناً عن المؤمن من أجل ألا يطغى، وأنت لا تدري بحالك عند حيازته، ولذلك سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه كان لا يملك شيئاً، فكان يقعد للرسول في الباب ليل نهار، ويسمع من الرسول ويأخذ منه ويتعلم، وليس معنى هذا أنه انقطع للعبادة، لكن نحن دائماً نضحك على أنفسنا، فنقول: ساعة لربك وساعة لقلبك، ثم اكتشفنا أننا نضحك بهذه الكلمة أيضاً على أرواحنا، فلا توجد لا ساعة ولا دقيقة لربك.
وهذه الخمس الصلوات التي في اليوم كم تأخذ منك؟ أطول صلاة تأخذ منك عشر دقائق، أو ربع ساعة ولو جعلناها ربع ساعة، وقرأنا فيها: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، لقال أناس: هذا تطويل، والرجل يطول على المصلين، هناك رجل أول مرة يصلي التراويح في رمضان، فقرأ الإمام قوله تعالى: (مداهمتان) فاغتاظ الرجل وقال: وأيضاً مداهمتان مش مداهمة واحدة؟
والثاني قرأ: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] ولما قالوا: آمين، قرأ: (طه)، وكبر وركع، سبحان الله! ما هذه العجلة العجيبة؟! مع أن أكثر صلاة تصليها تأخذ منك عشر دقائق، ولو جمعت الصلوات كلها فإنها لا تستغرق ساعة واحدة، وبقيت معك ثلاث وعشرون ساعة أين تذهب؟! فينبغي الإخلاص في العبادة، لا في الأكل والشرب ونحوهما من متاع الدنيا، بل المسلم إذا أراد أن يحبه الله يزهد في الدنيا كما كان صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
والمسلم لا يستغني أبداً عن الله، فيستغني عن أي شيء لكن لا يترك الصلاة، ولا يترك قيام الليل، ولا الأخلاق الحميدة.
إذاً: فالمسلم في الدنيا يزهد مما في أيدي الناس، وما دام أنه زهد بالذي عند الناس، فإنهم سيحبونه، لكن لو طلب منهم ما في أيديهم فإنه سيثقل عليهم، والناس لا يريدون النظر إلى خلقته، فأول ما ينظر إليه يكشر، والأغنياء يوم القيامة مالهم سوف يصفح صفائح من نار، وتكوى بها ثلاثة أماكن: الجباه والجُنوب والظهور، قال تعالى: فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:35].
فالغني أول ما يأتيه يكشر في وجهه ويعطيه جنبه ثم ظهره، لكن لو جاء إليه المحافظ: أهلاً يا سعادة الباشا، ولا يعطيه جنبه، ولا ظهره، فالله تعالى عاقبه في هذه الثلاثة الأماكن، في الجبهة التي كانت تنقبض في وجه الفقير، وكذا الجنب الذي كنت تعطيه الفقير كذلك، ثم الظهر الذي أعطيته المسكين.
إذاً: فالمسلم لا يتكبر على أحد، ثم هو في الدنيا غريب، سابح ضد التيار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جاء هذا الدين غريباً وسوف يمضي كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء الذين يستمسكون بسنتي عند فساد أمتي).
اللهم اجعلنا من أهل الغربة يا أرحم الراحمين، وانصرنا على من عادانا، وقو عقيدتنا، وألهمنا صوابنا، وتوفنا على الإسلام، يا أكرم الأكرمين.
نأخذ أولاً أحكام الجمعة، لأنه أحياناً يفاجأ المسجد بأن الإمام غائب، فافرض أنك دخلت مسجداً وإمامه لما يأت بعد، والمؤذن لا يحسن الخطابة، فيقوم أحد الإخوة ويأتي بكلمتين يذكر الناس، وطبعاً كل القاعدين بعد الخطبة سيكونون نقاداً من الدرجة الأولى، وهذا موضوع سهل.
وفي البلاد خطيب الجمعة لما يأت بعد، فبحثوا في البلد عمن يخطب الجمعة فلم يجدوا، مع أن الشيخ المأذون لابس عمامة، وعليه هيبة العلماء، ومن باب الشيء بالشيء يذكر، بينما الشيخ عبد العزيز البشري رحمة الله عليه يمشي في شارع فؤاد، وهو من علماء الأزهر وأبوه كان من هيئة كبار العلماء، وهو لابس لبس العلماء، وكان عليه سمت ووقار، وكان فلاح يمشي فقال: سيدنا الشيخ، قال: نعم، قال له: اقرأ لي هذا الجواب، الشيخ عبد العزيز لقي الجواب عبارة عن طلاسم لم يفهمها، فقال له: خذ يا بني! ما أستطيع قراءته، فالفلاح غضب منه، وقال: لابس عمامة، وعليه سمت العلماء! وغضب، فقال له الشيخ: خذ العمامة واقرأها أنت، أي: إذا كانت المسألة باللبس، فخذ العمامة واقرأها أنت، إذا كانت العمامة هي التي تقرأ.
فأصحاب البلد قالوا: من يخطب الجمعة؟ هلا أخبرتم الشيخ أو المأذون ليبحث عن خطيب، فيكون الناس في ورطة بسبب غيابه، إذاً: فالحل إن فرضنا أن الإمام يأت أن يقوم واحد من المصلين فيخطب، وليست هناك مشكلة.
ويقال: إن هناك خطيباً قام ليخطب، وهو غير متعود، فذهب ما في رأسه من آية أو حديث، حتى الآية التي يقرؤها عند الزواج، فقال: وقفت ورجلاي ليستا قادرتين على حملي، قال: ثم فتح الله علي والحمد لله، فقلت: الشهادتين، ثم أما بعد، وقلت: سيأتيني الكلام بعدها فلم يأت، فقلت: ثم ثاني مرة اسمعوا، قال: ومددت الصوت فيها قليلاً، فقال له رجل من آخر الجامع: يا مولانا! أنت الله يفتح عليك قلت: اسمعوا أول مرة وسمعنا، ثم قلت: اسمعوا ثانية وسمعنا، ثم قلت: اسمعوا الثالثة، فانتظرنا ماذا ستقول الآن؟ قال الخطيب: ثم أخذوني وأنزلوني.
وفي مكان آخر وللأسف الشديد، رفض الحاضرون أن يقف أحدهم ليخطب؛ فصلوا الجمعة ظهراً، فيأثم الحاضرون جميعهم؛ لأنهم صلوا أربع ركعات، ولا يوجد هناك خطيب، فقام أحدهم يصلي بهم ظهراً.
أركان خطبة الجمعة: الحمد، والشهادتان، وأما بعد، وخطبتان بينهما استراحة، وفيهما ما يحض على الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو كلمة: اتقوا الله، أو: احذروا النار، أو: ارجوا الجنة، أو: اعملوا خيراً، أو يخلص نفسه ويقرأ سورة (ق) لو كان حافظاً، ويقول: أما بعد، فيقرأ سورة (ق)، ثم يقول: وأقم الصلاة، وصلاتهم صحيحة وخطبتهم صحيحة تماماً، فهذه أركان خطبة الجمعة.
عبد الملك بن مروان بينما هو قاعد، وكان فقيهاً في اللغة، قال ذات يوم لأصحابه: ليصعد أحدكم ليخطب لنا الجمعة، وكان الحكام قديماً هم الذين يصلون بالناس؛ لأنهم كانوا أبلغ الناس وأعلمهم، فصعد الرجل وأمير المؤمنين ينظر إليه، فارتبك وقال: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض في ستة أشهر، فقال أمير المؤمنين: ويحك! في ستة أيام، قال: احمد الله يا أمير المؤمنين! أني لم أقل لكم: في ست سنوات؛ لأن الموقف رهيب.
إذاً: فينبغي للمسلم ألا يهتز ولا يرتبك، وهؤلاء الحاضرون كلهم إخوانه، لكن حقيقة أن الذي يصعد للخطابة يكون كل أحد مركزاً عليه، ناظراً إليه، هذا من ناحية اللغة، والآخر من ناحية الحديث، والثالث من ناحية شكله، والرابع من ناحية كلامه، وهكذا، لكن نحن لو تعاملنا بالود، فالمسألة بسيطة، لو صعد الرجل فقال ما فتح الله عليه، فجزاه الله خيراً، وكثر خيره، وقد أنقذ الله الموقف به، حتى لا يأثم الكل بترك الجمعة.
ويوم الجمعة هو أفضل الأيام عند الله، وفيه ساعة ما وافقها عبد مسلم بالدعاء إلا استجاب الله له، ولا أحد يعرف وقتها بالضبط، وهناك من يقول: هي بعد صلاة الصبح قبل الشمس تطلع، وقيل: ما بين جلستي الإمام على المنبر، وقيل: ما بين صعود الإمام لغاية نزوله، وقيل: ما بين اصفرار الشمس بعد العصر لغاية الغروب، المهم: أن من فجر الجمعة إلى مغرب الجمعة يوم مبارك عند الله سبحانه وتعالى.
وسمي يوم الجمعة لأن الناس يتجمعون فيه، وكان قبل الإسلام يسمى يوم العروبة، وسموه بعد بيوم الجمعة.
ويوم الجمعة هذا يعوضنا عنه ربنا في الآخرة، فاللهم اجعلنا من أهل الجنة يا رب، اللهم أدخلنا الجنة بدون حساب أو عذاب، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات يا أرحم الراحمين.
يوم الجمعة تصل للمسلمين في القبور بطاقات دعوة، والرسول سماها بطاقة دعوة، يعني: (بطاقة) لغة عربية، ففي الحديث: (بطاقة دعوة، مكتوب عليها كلمات أربع).
الأغنياء الآن يكتبون الدعوات التي للزواج على بطاقة من فضة، فربنا في الجنة يبعث لك بطاقة فيها: (أربع كلمات: عبدي اشتقت إليك فزرني)، والذي أتى بها ليس مأمور الضرائب، وإنما تأتي بها الملائكة، ووراء الملائكة الخدم وأطفالنا الذين ماتوا وهم صغار، يا فرحة من مات له ولد، وصبر عليه، فالأولاد أمام الجنة يأبون الدخول إلا مع آبائهم وأمهاتهم، فيكرم الله الذي مات له طفل وصبر، فيقول: (ماذا صنع عبدي؟) ويقول ربنا للملائكة: (أخذتم فلذة كبد عبدي) فيسمى الولد فلذة كبد، ثم قال سبحانه: (أقبضتم ولد عبدي؟ يقولوا: نعم يا رب، يقول: وماذا صنع؟ يقولون: لقد حمدك واسترجع، قال: ابنوا لعبدي في الجنة قصراً وسموه قصر الحمد، وألحقوا به أبناءه).
اللهم اجعلنا منهم يا رب، واجعلنا من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، آمين يا رب العالمين.
إذاً: فيقول الله: (عبدي اشتقت إليك فزرني)، والأطفال هؤلاء وصفهم كما قال الله: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا [الإنسان:19]، وفي الجنة أيضاً الحور العين، والملائكة، والغلمان، ومخلوقات لا يعلمها إلا الله، وقصور ونور وأشجار وطيور وخير كثير، وفي الحديث: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
ويوم الجمعة تعد لك النجائب، يعني: عندما يكون الرجل مسئولاً في الدنيا تجهز له السيارات، بعضها عن يمينه وأخرى عن شماله، وأمامه وخلفه، إلى أن يصل إلى مقصوده، ثم يفتح له الباب، والحرس حوله، وكل هذا في الدنيا.
أما في الآخرة فالملائكة هي التي توسع لك الطريق، وتهيئ لك المكان، والأشجار تسلم على المؤمن فتقول: السلام عليك ولي الله، السلام عليك يا حبيب الله!
فسبحان من جعل الشجر يوسع لك وكنت في الدنيا لا يوسع لك أحد، وقلنا قبل هذا: إن الكلاب إذا رأت غنياً حركت أذنابها، وإن رأت فقيراً كشرت أنيابها، فالمؤمن يوسع له الشجر في الجنة والملائكة ترحب به، وتجتمع في سوق لا يباع فيه ولا يشترى، وكل الذي تريده تجده، أما في الدنيا فإن أردت أن تأكل أو تشرب أو تلبس فقد تجد وقد لا تجد، لكن في الجنة لك ما تشاء.
أولاً: الاغتسال.
ثانياً: التبكير له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة)، والمراد بالساعة الأولى: وقت الضحى، أي: الساعة السابعة؛ لأن الساعة الأولى تبدأ من بعد أن تنشر الشمس أشعتها، وهذا الأول كأنما قدم بدنة، أي: كأنما ضحى في سبيل الله بناقة كبيرة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن راح في الساعة الثانية) إلى أن بلغ الساعة الأخيرة، وهي التي قبل صعود الإمام بنصف ساعة، أو بساعة، وهذه الساعة ما تجد أحداً فيها في المسجد، بل هناك من يقول: الإمام ينزل من على المنبر الساعة الثانية عشرة فنحن نحضر الساعة الثانية عشرة ونصف إلا ثلاث دقائق، يعني: من أجل أن يضبط مجيئه على الصلاة، مع أنه لا جمعة له؛ لأن خطبة الجمعة تعدل ركعتين، ومن جاء في الساعة الأخيرة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فكأنما قدم بيضة).
وأول ما يقول الإمام: السلام عليكم تغلق الملائكة الصحف، ولا تكتب أحداً ممن دخل بعد، فإن جاء يوم القيامة وقال: أنا كنت أحضر الجمعة، فيقال له: أنت كنت تأتي بعد أن يرتقي الإمام المنبر.
إذاً: فالمسلم يبكر ليوم الجمعة، يلبس أفضل الثياب، وإن رزقه ربنا طيباً يتطيب به، والمساجد يجوز أن تبخر يوم الجمعة، حتى تكون رائحتها طيبة، ولا ينبغي أن تبقى لابساً للشراب من ثلاثة أيام ثم تأتي يوم الجمعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا)، وهل البصل حرام؟ لا، ليس حراماً، ولكن من أجل الريحة المنبعثة من آكله، ولو أكل بصلاً فينبغي له أن يصلي خارج المسجد، أو في آخر صف، أو لا يدخل الجامع أصلاً؛ لئلا يؤذي الناس.
ولذلك يقول الفقهاء: من كان عنده انفلونزا فلا يصلي صلاة الجماعة في المسجد؛ حتى لا يعدي أحداً، فقد وضعت عنه صلاة الجماعة، فيقعد في البيت؛ من أجل ألا يعدي غيره، إذاً: فالمسلم ينبغي عليه أن يراعي هذه المسائل.
وإذا تأخر أحد عن الجمعة فلا يؤذي إخوانه بمزاحمتهم؛ ليفسحوا له، فيتخطى رقابهم ويؤذيهم، واحد من الصحابة جاء متأخراً والرسول على المنبر يخطب، وعلاوة على هذا يريد الصف الأول، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اجلس فقد آنيت وآذيت)، أي: جئت متأخراً وتؤذي الناس.
وفي الحديث: (من فرق بين مسلمين يوم الجمعة فرق الله شمله يوم القيامة، ومن تخطى الرقاب يوم الجمعة تخطى الله به جسراً إلى جهنم)، (من سد فرجة في الصف سد الله عنه باباً من أبواب جهنم) فهذه بعض آداب الجمعة.
كثير من المسلمين للأسف يبقى في يده سبحة وأنا ما أدري من أول من اخترع السبحة، والسبحة ليست من الإسلام في شيء، وأنت عندما تسبح بيدك فالجوارح كلها تشهد لك يوم القيامة، أما السبحة فلن تشهد، والرسول صلى الله عليه وسلم سبح بيديه، والصحابة سبحوا بأيديهم ونحن لم نطلب منك أكثر من ثلاثة وثلاثين، وليس حسابها صعباً؟ لكن عندما تحسب مائة ألف جنيه تحسبها بدقة وسرعة فائقة، وكذا عندما تحسب ميراث أبيك، فتقول: لي ثلاثة فدانات وأربعة عشر قيراطاً وستة أسهم، والسهم كذا متراً، والقيراط مائة وخمسة وسبعون متراً، والمتر...، وهكذا يحسبها بالدقة، لكن في التسبيح يصير الأمر صعباً، فسبح بيديك.
ولو دخل جارك والإمام يخطب فقعد بجوارك وقال: السلام عليكم، فهل ترد عليه أم لا؟ لا ترد، ولا حتى بالإشارة، وبعد الصلاة خذ صاحبك وعلمه آداب الجمعة، وحذره من إضاعته لها؛ وقل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من قال لجاره والإمام يخطب: أنصت، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له).
فما دام أنه ليست هناك ضرورة فليس هناك داع للسفر، والضرورة مثل صلة رحم، أو أداء زكاة، ونحو ذلك، أما غيره فلا داعي للسفر يوم الجمعة، وإذا أردت أن تسافر فسافر مبكراً؛ من أجل أن يأتي وقت ظهر الجمعة قد وصلت للمكان الذي أردته.
ومن ترك ثلاث جمع اسود قلبه.
وقالوا: كل المخلوقات تبقى خائفة يوم الجمعة ما عدا الإنس والجن؛ لأن كل المخلوقات تتوقع أن القيامة تقوم يوم الجمعة، فكل المخلوقات خائفة، أما الذين سيحاسبون من الإنس والجن فلا يخافون! وكانت الريح إذا هبت يوم الجمعة أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من الخروج والدخول، يخشى أن تكون بوادر الساعة.
فيلسوف يقول: يا شيخ! ليس كل من في الجامع يستطيع أن يقرأ القرآن، ولا الجامع فيه مصاحف تكفي المصلين كلهم.
ويقال له: أما المصاحف فكل واحد من المصلين يأتي بمصحف صغير معه، أما النقطة الثانية: فمن لا يستطيع القراءة فيقرأ ويكرر الفاتحة والإخلاص والمعوذتين، وإن لم يحفظها فيسبح ويذكر الله ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهل ليوم الجمعة أذان واحد أم اثنان؟
كان بلال يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذاناً واحداً، أول ما سيدنا الحبيب عليه الصلاة والسلام يرتقي المنبر.
وهناك مساجد تكون فيها زحمة، وفيها أناس يبيعون الجرائد خارج المسجد، فمن أجل أن يجد المصلي له مكاناً يشتري جريدة ويصلي عليها، وهذا غير صواب، فما دام الإنسان متأخراً فلا يزيد الطين بلة بصلاته على ما قد يكون فيه اسم الله، أو صفحة الوفيات، وهي الصفحة الصادقة الصحيحة في الصحف العربية، أو فيها آيات أو أذكار أو اسم الله أو نحو ذلك، فيحرم أن تقف برجليك على اسم الله.
إذاً: فتمنع الصلاة على ما فيه شاغل من كتابة ونقوش ونحوها، ويحرم البيع بعد أذان الجمعة.
كان التجار يتأخرون في عهد سيدنا عثمان فيأتيهم بواحد يؤذن قبل الصلاة في السوق بمدة، وقديماً لم يكونوا يخافون على محلاتهم من السرقة؛ لأن الحدود كانت تقام، فاللص يخاف أن تقطع يده، إذا شهد عليه عدلان بأنه سرق، ولابد في الشاهد أن يرى، وإلا ترد شهادته، ولو اجتمع سبعون على الشهادة ولم يروا فلا يقام حد بشهاتدهم، ونقول لأحدهم: انظر إلى الشمس، أتراها؟ سيقول: نعم، فنقول له: على مثلها فاشهد، فإن كنت تنظر إلى الحق مثلما أنت تنظر إلى الشمس فاشهد وإلا فلا.
إذاً: فكان سيدنا عثمان يبعث في السوق من يؤذن، ثم يبعث من يؤذن ثانية للصلاة؛ فيهرع الناس نحو المسجد، فيصعد سيدنا عثمان للخطابة ويقول: السلام عليكم، ويقف عند الخطابة على الأرض، وكان سيدنا أبو بكر يخطب وهو على الدرجة الثانية، انظروا التواضع والأدب، وكان سيدنا عمر يقف على الدرجة الأولى، فسيدنا عثمان أول ما تولى خطب واقفاً على الأرض، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! كل واحد منكم يأتي وينزل درجة، وسوف يأتي زمن على الناس يخطبنا الناس في خندق، فكانت نكتة لطيفة أو طيبة، فحينها ارتقى سيدنا عثمان الدرجة التي كان سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقف عليها.
وللأسف أن الشيعة -هداهم الله- يأخذون هذه على سيدنا عثمان ، فيقولون: كيف أبو بكر وعمر -وهم لا يحبونهما- يفعلان هكذا؟ أي: لماذا يقف أبو بكر على الدرجة الثانية، وعمر على الدرجة التي تحتها، وعثمان يرتقي الدرجة التي فوق، هذا لا يصلح، فنقول: وإلى متى يستمر هذا؟ أي: من جاء ينزل درجة درجة.
لا ليست بدعة، وقد ذهب أحد العلماء إلى إحدى البلاد فقالوا له: الحمد لله أنك أتيت، فبلادنا انقسمت نصفين، نصف موافق على أذان واحد يوم الجمعة، ونصف آخر يقول: لا بد من أذانين يوم الجمعة، وكل واحد من الفريقين يصلي عند من وافقه، قالوا: ونحن نريد منك فتوى، فقال لهم: الأذان سنة، واتباع المسلمين واجتماعهم فرض، والفرض مقدم على السنة، فأرجو ألا تأتي أسئلة في أذان أو أذانين، فلا نريد أن نعمل خلافات في المساجد، لكن يقال: ما هو الأمثل أو الأصح والأفضل؟
وهل ثبت أن المؤذن أيام الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عصر الصحابة أو التابعين كان بعد أن ينهي الأذان يقول: الصلاة والسلام على سيدنا حبيب الله، يا أسود الشعر! يا كحيل العينين! يا أبيض الوجه؟ الجواب: لا، فهل يتهم من لا يفعل ذلك أنه لا يحب النبي؟
وفي هذه الأيام يكره الدراويش أهل السنة، بسبب مخالفتهم لبدعهم، واتباعهم لسنة نبيهم، مثلاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي).
ولو أنكم أيها الدراويش تفهمون اللغة لعلمتم أن (ثم) تقتضي الترتيب مع التراخي، وحروف العطف على ثلاثة أحوال، فعند أن أقول: دخل أحمد ومحمود، فحرف العطف الواو يفيد المعية، يعني: دخل أحمد مع محمود، وعندما أقول: دخل أحمد فمحمود، فالفاء تقتضي الترتيب مع الفورية، وعندما أقول: دخل أحمد ثم محمود، فـ(ثم) تقتضي التراخي مع الترتيب، وفي الحديث: (قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي)، أي: بعد قولكم كقوله صلوا علي، أي: أنتم يا من تسمعون لا أنت أيها المؤذن؛ لأننا بعد الأذان نقول: اللهم! رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، ثم بعد ذلك نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.
وحذار من الابتداع في الدين؛ لأن الزيادة في الدين كالنقص منه تماماً، فإياك أن تشرع في الدين ما لم يأذن به الله، وقد قال الله لحبيبه عليه الصلاة والسلام: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
وإن دخلت والإمام على المنبر، فبعض المذاهب تقول: يجوز أن يصلي الإنسان ركعتين خفيفتين، والجمهور يقولون: طالما والإمام على المنبر ودخلت المسجد فينبغي أن تقعد؛ لأن صلاتنا أصلاً بدون أصوات محيطة صلاة مشوشة، فما بال الإمام يخطب وأنا أصلي؟ فمن باب أولى إذا طلع الإمام إلى المنبر أن أقعد.
قالوا: نعم، تصلي السنة أربعاً، اثنتين اثنتين، أو أربعاً مع بعض، هذا إن أردت أن تصلي في الجامع، أما إن صليت في البيت فصل ركعتين.
ومن آداب الجمعة: قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها؛ لحديث: (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أو يوم الجمعة، أعطاه الله نوراً إلى الجمعة التي تليها)، فالذي يواظب على قراءة سورة الكهف في كل جمعة يخلصه الله من فتنة المسيخ الدجال إذا ظهر، وهو على ظهر الأرض.
الصدقة يوم الجمعة بالنسبة للأسبوع مثل رمضان بالنسبة للسنة، فالصدقة فيه أفضل من الصدقة في غيره، والصلاة فيه خير من الصلاة في غيره، كما أن البر فيه خير من البر في غيره، لكن حذار من المحترفين الذين يقفون على باب المسجد كل جمعة، إلى غاية حفظ أشكالهم.
يفاجأ الناس أحياناً بصلاة الجنازة، فما يعرف أحدهم كيف يصلي، فتجد نصف المعزين يقفون في الخارج، مع أن في الحديث: (من حضر جنازة فصلى عليها وسار معها حتى تدفن كان له قيراطان أقلهما كجبل أحد)، أما الذي يصلي على الجنازة ويذهب فله قيراط واحد.
وقال ابن عمر للسيدة عائشة : أحقاً ما سمعنا يا أم المؤمنين؟! قالت: وماذا سمعت يا ابن عمر ؟ قال: سمعنا أن الرسول يقول: الذي يحضر جنازة ويصلي عليها وينتظر حتى تدفن، له في الجنة قيراطان، أقلهما كجبل أحد، قالت: صحيح ما سمعته يا ابن عمر، قال: كم من قراريط ضيعناها!
انظر على ماذا كان ندمهم، أما نحن فنندم على أرض كانت وراء نادي الصيد مثلاً، كان المتر بخمسة جنيهات والآن بخمسة آلاف جنيه، فلا تندم على ما فاتك من الدنيا.
بادئ ذي بدء نقول: عندما يموت الميت يقول أهل العلم: إن الروح تستعد لمغادرة البدن، بدليل أنها تشعر بأشياء، ولما ينزل الموت وتخرج الروح يشعر الناس أنه قد كان يشعر بأحاسيس توحي له أنه سوف يموت.
فنحن قبضة من تراب الأرض ونفخة من روح الله، ولم يأمر الله الملائكة بالسجود لأبينا آدم إلا بعد أن نفخ فيه من روحه، فالسر الذي فيك هو بعد النفخ.
وأنت كل يوم تموت، لكن لا تشعر، فعندما تنام تكون في صورة من صور الموت، ولذلك أول ما تفتح عينيك تقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، وتنطق بالشهادتين تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والذي يتعود على هذا أول ما نلحده في القبر ويأتي -إن شاء الله- يوم النفخ في الصور النفخة الثانية، أول ما يفتح عينيه وتعود الروح إلى بدنه ينطق بالشهادتين، ويحسب في زمرة الموحدين، اللهم احشرنا في زمرة الموحدين يا رب العالمين.
فإن لم تحفظ هذا الذكر كله، فقل: يا رب! أنت خلقت نفسي وأنت الذي تتوفاها، يا رب! فاحفظني، وإن أمتني هذه الليلة فتب علي واغفر لي، فلا أدري أأقوم الصبح أم لا أقوم، ولعل هذه آخر نومة لي، ولكن للأسف أن كثيراً من الناس لا يرجعون المظالم ولا يصالحون أهاليهم إلا إذا أرادوا أن يحجوا، مع أن الواحد قد ينام ولا يقوم من نومه، فلماذا لا يرجع حقوق الناس قبل ذلك؟!
والعبد عندما يموت يكون الأمر كما قال أهل العلم: (إذا زرتم المريض -أي: مرض الموت- فنفسوا له في أجله) يعني: أعطه أملاً، فقل له: ما شاء الله، صحتك جيدة، وادع له، فربنا يقول للشيء: كن فيكون، ريحه نفسياً، واعطه أملاً أكبر.
حصل قديماً أن زير مريض فقيل له: ما لك؟ قال: اسكت، صدري ينقبض علي ويختنق، وأشعر أن روحي سوف تخرج، فقال له: هذا المرض الذي مات فيه عمي! فأغلق على الرجل كل أمل.
إذاً: لا تجعله يائساً، بل اجعل عنده أملاً، وعندما تجعل الرجل يشعر برحمة الله تتحسن الحالة الشديدة، فقد يقول الأطباء: هذا الرجل لن يعيش، أو هذه المرأة لن تعيش، هذا من حيث العلم النظري، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله، وإنما هذه بوادر علمية.
وكذلك العكس، أي: المرأة عند أن ترى الرجل جديداً وجميلاً تزدري زوجها.
والمصيبة أنه حتى التي ليست موظفة دخلوا لها من تحت الباب، من التلفزيون، فتفتح التلفزيون وتتابع البطل، والبطل طبعاً معه بطلة التي هي امرأته في الظلم، فيقبلها ويعانقها، فيحصل بذلك من الفتنة الشيء الكثير، وهذه من البلاوي التي جاءت من طريق التلفزيون.
وقد ترجع إلى بيتك وأنت متعب تريد أن توسع على عيالك، فتأتي الزوجة بجوارك، فإذا أردت أن تذهب إلى النوم في الساعة الواحدة إلا ربع قالت الزوجة: الآن نبدأ السهرة، تقول: سهرة ماذا يا امرأة؟ فمتى سينامان؟ ومتى سيستقظان لصلاة الفجر؟
ويأتون للمرأة بأناس ذوي جمال كيما تقارنك بهم، وكذلك يأتون بنساء فاتنات متبرجات كيما تقارنهن بزوجتك، فيحصل الشقاق والفراق.
ولو تأملت في سيرة أمي وأمك، وجدتي وجدتك، لوجدت أنهن كن راضيات بأزواجهن، وكانت البركة حالة بينهم، لأنه لا يوجد أمامها إلا هذا الرجل، فلا ترى من رجال الدنيا إلا زوجها فلاناً، فهذا كان في أدمغتهن، وكان هذا بالفطرة السليمة، ولما كانت إحداهن عندها دين، كانت عندما تأتي لتسلم على أي رجل تجعل يدها في ثوبها أو في خرقة والرجل كذلك كان يجعل يده في طرف جلابيته، أو في منديل ويسلم عليهن، أو يمد كمه على يده.
وكان الرجل عندما يتزوج يذهب ويتفق مع الرجل أبي البنت، ويتكلم الأب ويقول كلمة لا روغان فيها، ويقول: يا بني! أعطيتك كلمة، أما في هذا الوقت فقبل أن يعطي كلمة يقول: دعني أنظر رأي قوات التحالف من الداخل، فتجد الجواب عندك كعاصفة الصحراء، أن الحكاية خربت. المهم: أن المسلم قديماً كان في دعة وفي هدوء نفس، وفي راحة بال وسكينة؛ لأنه ما كانت هناك مقارنات.
ومن التنفيس الرقية الشرعية، وهي سهلة جداً، فإن كنت غير حافظ لأي دعاء فاجعل يدك على الجزء المريض من أخيك، واقرأ الفاتحة بنية صادقة يشفه الله.
وحافظ الأدعية النبوية ففيها خير وبركة، فقد كان سيدنا الحبيب يجعل سبابته الشريفة على فمه، أي: السبابة التي نحركها في التشهد والتي قال عنها عليه الصلاة والسلام: (لسبابة أحدكم في الصلاة أشد على الشيطان من مقامع الحديد)، أي: تضرب الشيطان في دماغه، وعد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء التشهد واحداً وخمسين عدة، أي: بسبابته يحركها.
المهم: أن تجعل إصبعك السبابة على فمك، ثم تضعها في التراب ثم تجعلها على الجزء المريض، وقل: (باسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا).
فإن لم تحفظها فقل: (اللهم اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً).
أو قل: (اللهم كما رحمتك في السماء، أنزل رحمتك على الأرض، أنزل على هذا المريض رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك).
بل والله إن هناك إخوة في الله، ونحسبهم على خير ولا نزكي على الله أحداً، عندما نأخذهم لزيارة مريض، يجعل أحدهم يده على المريض، ويكون الأخ صالحاً فيقرأ: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] ثلاث مرات بصدق، فيكرمه الله بشفاء المريض.
ومما ينفع المرضى الصدقات، وفي الحديث: (داووا مرضاكم بالصدقة).
أول شيء نعمله أن نذهب عند لحيته أو ذقنه فنربطه بخرقة ومنديل أو نحو ذلك؛ من أجل ألا يفتتح الفم؛ لأنه لو افتتح فلا نقدر على إغلاقه، فتربط من تحت اللحية إلى فوق دماغه.
ثم نغمض عينيه، ونبتدئ بتحريك يديه ثلاث أو أربع مرات، أي: نهز اليد مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وهكذا رجلاه، ونحرك بطنه، ونجعل ذراعيه إلى جانبه أو نضجعه على يمينه، ونخلع منه كل ملابسه ونغطيه بأشياء خفيفة، وبعض الجهال يقولون: لابد أن نغطيه باللحاف الثقيل حتى لا يبرد، ولكن الناس أعداء ما يجهلون، الجهل كارثة.
إذاً: فالمسلم بعد ما نخلع منه ثيابه نغطيه بشيء رقيق.
وهل نترك النور مضيئاً أم نطفئه؟ وذلك إن فرضنا أنه مات ليلاً.
الأمر على حد سواء.
وفي هذه اللحظات يعرف المسلم الحق من غيره، وتكون هناك غربلة، فأول ما تخرج الروح، تجد البيت ممتلئاً بالناس، ويظهر الصابر من غيره.
فلا يحل لمسلمة أن تحد على مسلم أو مسلمة أكثر من ثلاثة أيام، ما عدا الزوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرة أيام، يعني: تلبس الحداد على زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام، أما إن كان أباها أو ابنها أو أخاها أو أمها أو عمها، فإنها تحد عليهم ثلاثة أيام، ولا يحل أكثر من ذلك، وإلا فهي آثمة، وأنت إن لم تنصحها فأنت مشارك في الإثم، فقل: يا أمي حرام، لا يحل أن تحد المسلمة على ميت أكثر من ثلاثة أيام سوى الزوج.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن ناحت على ميت -أي: ولولت وصوتت- كانت كمن هدمت الكعبة بيديها كمن أخذت حربة تحارب بها الله رب العالمين).
فالمسلم يعظ النساء ويحذرهن، بل اكتب تحذيراً في وصيتك وقل: أنا بريء من الذي يصوت علي.
وأيضاً: لا تخرج المرأة خلف الجنازة، ولا إلى المقابر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لنساء خرجن وراء جنازة: (أغسلتن فيمن غسل؟ قلن: لا، قال: أصليتن فيمن صلى؟ قلن: لا، فذاهبات أين؟ قلن: ذاهبات المقابر، قال: ارجعن مأزورات غير مأجورات).
وفي حديث آخر: (أين كنت يا
وبالذات في الأعياد، وفي طلعة رجب، فعظ النساء وقل لهن: اقعدن واتقين الله.
لابد أن يحضر غسل الميت أقرب الناس إليه، وأعلمهم بالفقه، فهذا هو الذي يغسل الميت، وغسل الميت سهل وهين جداً، لكن لابد أن نتعود عليه ونعرفه، وغسل الميت مثل غسل الحي تماماً.
اجعل واحداً يساعدك، إما ابن الميت أو أخوه، فواحد يصب لك ماء ويقلبه لك، واثنان بالكثير -لا خمسة أو ستة كما هو حاصل- يحركانه بهدوء والناس لا يفهمون، فأول ما يموت ميت يغطونه إلى الصبح، فتنبعث منه روائح مؤذية!
فيكفي اثنان يحركان الميت بهدوء دون إيذاء للميت، وعندما تحرك الميت بصعوبة أو بعنف فإنه يشعر، وفي الحديث: (وكسر عظم الميت ككسر عظم الحي).
وفي زماننا إن كبر الرجل وليس له أحد يرمونه في دار المسنين، ثم يجدونه بعد يومين قد تكسرت بعض عظامه، فكل المسلمين المحيطين به والذين يعرفونه يحاسبون عليه، لذا أنا أقول لك: لين الميت وكل قليل تحرك ذراعه، وتقعد جنبه تقرأ القرآن، وتدعو الله له بالمغفرة والثبات.
وإن قلت: لماذا نخرج الفضلات والدود سوف يأكله؟ أقول: إكرام الميت واجب، فنخرج الفضلات منه حتى لا يؤذي الحي، يقول أحد الأطباء: لما قتل أحد جبابرة مصر، دخلت من أجل أن آخذ الدم ونحلله بسرعة، فدخلت ورأيته نائماً على السرير وقد خلعوا كل ملابسه، فخلعوا الحزام الأخضر والحزام الأحمر والخيط .. وكل هذه الجوقة، فقلت: سبحان الله! ومات ولا حول له ولا قوة، قال: ومن ساعتها لم أترك فرضاً؛ لأنه رأى عين اليقين، فنحن من هذا الوقت قبل أن نرى أحداً نتقي الله؛ لأن الموت يأتي فجأة، فنكون على خير حال.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها يا رب.
إذاً: فتقعد عند الميت وتضغط على بطنه مرة أو مرتين أو ثلاثاً، ثم تأخذ خرقة وتنظف محل النجاسة، واحذر من إظهار العورة، حتى ولو كنت ابنه أو أخاه أو قريبه فلا تكشفها.
وهل يجوز أن يغسل الرجل امرأته؟
جمهور الفقهاء على أنه يجوز للرجل أن يغسل امرأته، وذهب أبو حنيفة -وأنا معه في هذه النقطة- إلى أنه ليس له أن يغسلها، قال: لأنه قد انقطعت عرى الزوجية بالموت، فالزوج لا يغسل زوجته إلا في حالة واحدة، وهي عند عدم وجود امرأة تغسل فيغسلها زوجها.
ولو أن امرأة ذهبت للحج مع رفقة آمنة فماتت وليس هناك امرأة تغسلها، فإنها تُيمم.
ولو أن رجلاً سافرت معه خمس أو ست نساء، فمات ولم يوجد رجل يغسله يُيمم. انظروا كيف يحافظ الإسلام على الحرمات!
ويقال -والعهدة على الراوي- إن في زمن الإمام مالك ، كانت امرأة تغسل امرأة أخرى، فبينما هي تغسلها قالت: -أي: المغسلة- كم ارتكب هذا الفرج من فواحش، والميت ليس كالحي الذي يستطيع أن يرد، فالذي حدث أن يد المغسلة التصقت في جسد الميتة، فاجتمعوا في الخارج وقالوا: ماذا نعمل؟ قالوا: لا يوجد أحد، فقالوا: اقطعوا يدها، ثم قالوا: نسأل الإمام مالكاً، فجاء الإمام مالك وقعد خارج الغرفة فقال: يا أمة الله! هل اغتبت الميتة أو قلت في حقها شيئاً؟ قالت له: قلت كذا كذا، قال: استسمحيها، فاستغفرت الله واستسمحتها، فانفكت يدها بعيداً. فقيل: لا يفتى ومالك في المدينة.
والعهدة في هذه القصة على الراوي، أما أنا فلا أصدق ولا أكذب، لكن المهم: أن الميت له عورة وحرمة، فينبغي أن نحافظ عليه.
ومن المسائل المهمة في الكفن أنه لابد أن يكون شرعياً، وهو معروف عند الباعة.
عند الصلاة على الميت يقف الإمام عند رأس الرجل، وعند منتصف المرأة، ولو أن ثلاثة ماتوا نقول: من كان حافظاً للقرآن أكثر، فيقال: فلان، فنجعله من ناحية الإمام، والثاني بعده والثالث بعده، فأقربهم للإمام يكون أحفظهم للقرآن وأعلمهم بالسنة .. وهكذا.
وصلاة الجنازة عبارة عن أربع تكبيرات لا ركوع فيها ولا سجود، وصلاة الجنازة قسمان: صلاة الجنازة على من حضر، وذلك إذا كانت الجثة أمامي، وصلاة الغائب على من مات في أرض غريبة ولم يصل عليه، أو مات في البحر، أو مات حرقاً، أو مات في أرض معركة ولم نعرف أين ذهب به.
والشهيد لا يغسل ولكن يدفن بملابسه؛ كرامة له.
ونكبر عليه أربع تكبيرات، ويكبر المأمومون من غير صوت مرتفع، فإن تكبيرات الجنازة من غير صوت، بخلاف تكبيرات العيدين، ثم يقرأ الفاتحة.
وبعد التكبيرة الثانية يقول: اللهم صل على محمد.. إلى: إنك حميد مجيد.
وبعد الثالثة يدعو للميت بالمغفرة والرحمة والتثبيت، وهذا لمن ليس حافظاً للمأثور.
وبعد التكبيرة الرابعة يدعو للميت وله وللمسلمين، ثم يسلم، يقول الجمهور: يسلم عن يمينه وعن شماله، ورأي الإمام أحمد -كما هو المعمول به في الحرم- أنه يسلم على اليمين فقط.
فإذا صليت على الجنازة أمشي وراءها في صمت، وأما حكاية واحد وعشرين طلقة، والموسيقى ونحو ذلك فهذا حرام كله، أقف إلى أن تدفن الجنازة، وأنتظر ساعة بعد الدفن، أسأل الله له المغفرة والتثبيت.
وبذلك نكون قد عرفنا بعض أحكام الصلاة، وجزاكم الله خيراً، وبارك الله فيكم.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروماً.
اللهم اطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، اللهم اطرد عنا شياطين الإنس والجن، أكرمنا ولا تهنا، أعطنا ولا تحرمنا، كن لنا ولا تكن علينا، آثرنا ولا تؤثر علينا، انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر