إسلام ويب

سلسلة شرح كتاب الفوائد [10]للشيخ : عمر عبد الكافي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هناك أمور يقضي فيها الإنسان حياته ويضيع فيها عمره وهي ضائعة عليه لا تحسب له في رصيد الآخرة، وقد ذكرها الإمام ابن القيم ليحذر منها الإنسان وينتبه لها.
    أحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد:

    فاللهم في هذا الجمع الطيب انظر إلينا نظرة رضا والمسلمين، واحقن دماء المسلمين، فلا تسيل قطرة دم إسلامية إلا في سبيلك يا أكرم الأكرمين!

    اللهم ول أمورنا خيارنا، ولا تول أمورنا شرارنا، وأصلح أحوالنا، اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

    اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا مولانا بيننا شقياً ولا محروماً، لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً.

    اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

    اللهم اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وبعد:

    فما زلنا مع ابن قيم الجوزية رضي الله عنه في كتابه العظيم الفوائد، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه يا أكرم الأكرمين.

    يقول ابن القيم الجوزية في فقرتنا تلك: (عشرة أشياء ضائعة) أي: عشرة أمور تضيع علينا، وكلنا للأسف لا ننتفع بها.

    أولها: (علم لا يعمل به) يعني: مشكلتنا كلنا العلم الذي لا يعمل به، يعني: كثير من الناس يأخذون العلم بكثرته، وليس العلم كثرة الرواية، وإنما العلم الخشية، يعني: فعندما أرى إنساناً يتكلم بالعلم كثيراً ولا يطبق، أو يسمع العلم كثيراً ولا يطبق، فإن العلم حجة عليه لا له، وسأل رجل أبا هريرة : فقال له: يا أبا هريرة ! إني لا أتعلم العلم مخافة أن يضيع أي: أخاف أن أتعلم ثم أضيع ولذا فلا أتعلم، فقال له أبو هريرة : كفى بعدم تعلمك إضاعة للعلم.

    يعني: أنت ضيعت العلم بعدم تحصيلك له، ولكن الأكمل أن يستمع الإنسان ويطبق، أو أن يقول وأن ينفذ.

    وكان صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم جميعاً، الواحد منهم يسمع الكلمة ويطبقها، حتى قيل: إن عمر بن الخطاب سمع أو حفظ سورة البقرة في ثمان سنوات، يعني: الإنسان الصادق عندما يسمع آيات الله عز وجل فآية واحدة تكفيه.

    جاء أعرابي يريد أن يعرف الإسلام فقال: يا أبا ذر ! علم أخاك الإسلام، فعلمه أبو ذر الإسلام والرجل ما عنده أي فكرة عن الدين، فبدأ وقرأ عليه أبو ذر سورة الزلزلة إلى أن بلغ آخرها: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، فترقرقت الدموع في عيني الأعرابي، وقال: يا أبا ذر ! أيحاسبنا رب العباد بالذرة يوم القيامة؟ قال: نعم، قال: كفاني من الإسلام هذا وكأنه يقول: ما فائدة العلم إذا لم أطبق؟ فالرجل مجرد ما سمع: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة:7]، كفته الآية، فالخير الذي أعمله سأجده في كتاب الحسنات، والشر الذي أعمله قد أجده في كتاب السيئات!

    ولذلك في حديث آخر يقول سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: (التمس لأخيك من عذر إلى سبعين عذراً).

    يعني: لو غلط أخوك في حقك فالتمس له من عذر إلى سبعين، وليس بلازم أن آتيك بعذر، ولذلك قال: (فإن لم تجد له عذراً قل: عسى أن يكون له عذر لا أعرفه) لو طبقنا هذا الحديث فهل سأغضب منك وتغضب مني؟

    العمل لله بقدر الحاجة إليه

    إذاً: فالعلم بالتطبيق، يقول سهل بن عبد الله : حفظت القرآن وعمري ثمان سنوات، وحفظت أربعين ألف حديث من أحاديث الحبيب المصطفى، وقرأت وعملت كذا وكذا، تتلمذت على يد فلان وفلان.. إلى آخره، قال: ونظرت إلى هذا كله وعملت بحديث واحد، وهو ما سمعت من فلان! عن فلان! إلى أن وصلت العنعنة إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اعمل لله بقدر حاجتك له، واعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، واعمل للآخرة بقدر بقائك فيها، واعمل للنار بقدر صبرك عليها).

    فقوله صلى الله عليه وسلم: (اعمل لله بقدر حاجتك له) أنت تحتاج لربنا دائماً وأبداً، والدنيا ما سميت كذلك إلا من الدناءة، أو من الدنو، لكن الله يحب من الأمور أعاليها ويكره أسافلها.

    فالعبد في الدنيا قد ينسى وما سمي الإنسان إنساناً إلا لتناسيه، وما سمي القلب إلا لتقلبه، ولذلك يحتاج العبد من يذكره، وقالوا: إن القلب الذي للمسلم لو لم يتداركه بدرس علم كل ثلاثة أيام يمرض ثم يموت، نسأل الله أن يحيي نواة قلوبنا؛ لأن الغذاء الوحيد النافع حقيقة هو غذاء القلب، والمادة الواحدة النافعة هي العلم، وذكر الله، وإن القلوب لتصدأ لو قعدت مع أي أحد؛ لأنها لا تجد إلا فلاناً يشكو من فلان! ويعمل مع فلان! فالشحنة الإيمانية تتسرب؛ لكن الإيمان يريد طاقة متجددة، والإنسان يحتاج من يجدد له إيمانه، ولا يتجدد الإيمان إلا في مجالس العلم؛ لأن مجلس العلم إذا لم يكن رياء ولا سمعة ولا بطراً ولا نحو ذلك، فربنا سيبارك فيه وينفع به.

    أما حين أن يدخل درس العلم في جدل، أو بعض النفوس حاضرة لأجل انتقاد فلان فقط، والتكلم عن فلان! فتكون هذه دروساً لا بركة فيها، ولذلك نغضب جداً من بعض الدروس وبالذات التي لكثير من الأخوات، وذلك أنهن بعد أن يقعدن للطلب، إذا ببعضهن يقلن: لا تذهبن عند فلان! ولا فلان! أما يتركن الناس تتعلم، وتتنقل بين العلماء والدعاة، لكن يبدو أن في النفوس أمراضاً لم تشف بعد، فنسأل الله شفاء القلوب والصدور، وصدق اليقين إن ربنا على ما يشاء قدير.

    (اعمل لله بقدر حاجتك له) أنا لا أستغني عن الله لحظة، إذاً: فاعمل لله في اليوم أربعاً وعشرين ساعة، وطبعاً لا يحصل هذا، فاعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، (وما الإنسان في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) إذاً: فأنت زائر (فكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) هكذا يقول الحبيب، ويقول: (مالي وللدنيا).

    وسيدنا علي يقول لها: طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيها. وابن القيم كان يعلق في حلقة سابقة ويقول: كانت تكفيه واحدة، يعني: سيدنا علي طلق الدنيا ثلاثاً، وهو راوي حديث: (لعن الله المحلل والمحلل له)، أي: حتى لا يرجعها ثانية.

    إذاً: فالدنيا عند سيدنا علي ليس لها محلل يرجعها له؛ لأنه راوي الحديث الحاظر للتحليل، ثم يقول رضي الله عنه: آه من قلة الزاد، وطول السفر، ووحشة الطريق.

    واعجباه! سيدنا علي معه زاد قليل، ونحن يظن أحدنا أنه عابد زمانه وإمام أوانه، نسأل الله السلامة.

    زار الإمام الشافعي الإمام أحمد ، والإمام أحمد بن حنبل بنته صالحة، وهي السيدة عائشة بنت الإمام أحمد ، فتقول له: يا أبي! أريد أن أسأل الشافعي سؤالاً، فقال لها: اسألي يا بنت! قالت: يا إمام! يقف الشرط على ناصية بيتنا بالمصابيح قبل الفجر، فأخيط أثوابي على ضوء أنوارهم، أهذا حلال أم حرام؟ فبكى الشافعي وقال: لقد ضاع الدين من بعدكم يا آل أحمد بن حنبل!

    هذه هي التي كان أبوها أحمد بن حنبل لما ذهب لصلاة العصر فوقعت عينه على كعب امرأة، فذهب ووضع العباءة على وجهه وقال: هذا زمن الفتن هذه الدنيا خربت.

    العمل للدنيا بقدر البقاء فيها

    وقوله: (اعمل للدنيا بقدر المقام فيها) مقامنا في الدنيا قليل؛ لأن سيدنا نوحاً لما سئل: كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها داراً لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.

    ولذلك قلنا: إن الرياضيين يقولون: أي رقم على ما لا نهاية يساوي صفر، فحياتنا في الدنيا لها نهاية تصلها، أما الآخرة فلا نهاية لها، بل يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت.

    إذاً: فالدنيا بالنسبة للآخرة رياضياً لا تساوي شيئاً، وفي الحديث: (لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة..)، إذاً: فهي أقل وأحقر من جناح البعوضة، أول ما ينزل العبد في القبر: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] فأنا أريد أن يبقى المسلم حديد البصر وهو في الدنيا، ولا يحد البصر في الدنيا إلا في مجالس العلم والذكر، وعندها نريد أن نجد من إذا رأيناه ذكرنا بالله، ورؤيته تدلنا على الله، ويزيد في علمنا منطقه، وقلنا: عيشوا مع الناس معيشة حتى إن غبتم حنوا إليكم، وإذا متم ترحموا عليكم، اللهم اجعلنا وإياكم من هؤلاء.

    إذاً: فاعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، ومثل ذلك كمثل رجل مسافر مدة معينة كأسبوع مثلاً، فإنه سيأخذ مؤنة أسبوع، وإن كان السفر شهراً أو سنة فالمؤنة بحسبه، وإن كنت مهاجراً فستبيع الشقة والسيارة، وتأخذ أموالك من البنك، ثم تتكل على الله، وإن كان سيرجع إلى وطنه، فسيبقى له بعض المصالح فيه.

    لكن الذي هو ذاهب إلى الآخرة فلن يرجع إلى الدنيا، فاعمل زاداً تأخذه معك؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر ! أكثر الزاد فإن السفر طويل) لأن الذي مات قاطع تذكرة للإياب فقط؛ لأنه آب إلى ربه، قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي .. [الفجر:28] فرجع للمكان الأساسي، وحينها تحيا في جنات عدن، فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم، يعني: هي المنزل الأساسي، ولو أنك في الدنيا في حالة الرضا، فأنت في جنة في الدنيا.

    وضربت لكم مثلاً عملياً، وهو أن الأطباء أخذوا عينة من المتدينين الملتزمين والملتزمات، ثم أخذوا عينة أخرى من الذين يعيشون ولا هم لهم في الدين ولا في دروس العلم، ولا في الصلاة ولا في غيرها، ونظروا نسبة الأمراض النفسية والسكر والضغط، ونحوها، فوجدوها مرتفعة عند غير الملتزمين، وأما الملتزم دينياً فهو أهدأ حالة، وليس عنده من الأمراض المستعصية التي تأتي من أثر الشد العصبي، الذي هو عدم الرضا عن القدر، إلا المبتلى من المؤمنين، ودرجته عند الله عظيمة.

    لكن نحن نتكلم على الحالات النفسية التي للإنسان العادي منا، فيكون مكتئباً في الحياة متضايقاً من وضعه، ولذلك في الدول الاسكندنافية أعلى دخل في العالم هم، وأعلى نسبة في الانتحار في العالم عندهم، وهذا نتيجة عدم الرضا بقضاء الله وبالله، لكن الرجل المسكين قد يكون عنده حالة من الرضا أحسن من ملك السويد، وآخر يقول لي: أنا تعلمت العقيدة من عامل في القصر الجمهوري، وهو مسئول كبير يقول: تعلمت العقيدة من هذا الرجل، ذات مرة أتم عمله ونام، فرأيته وقلت له: قم يا عم فلان! لو جاء أحد المسئولين ووجدك نائماً فأنت تدري ماذا سيفعل، أي: سوف يفصلك، وإذا بالرجل ينام مرة ثانية، لماذا؟ لأنه لا يخاف إلا من الله، فليس خائفاً على الكرسي، فقد أخذوه، فهو نائم على الأرض.

    فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضينا بما آتانا، وأن يقنعنا بما آتانا، وأن يشفي أمراض قلوبنا، وأن يشرح صدورنا، وأن يتولانا وإياكم.

    إذاً: فاعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، وللنار بقدر صبرك عليها، كان عمر بن الخطاب يشعل النار في البيت ويقرب أصبعه ويقول: يا ابن الخطاب ! ألك صبر على مثل هذا؟

    فهو يربي نفسه، أما من في زماننا فأحدهم كما قال الله: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة:206]، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذين إذا سمعوا عملوا بما سمعوا.

    إذاً: فعشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها، علم لا يعمل به، وهذه كارثة، يعني: الإنسان الذي يعلم ولا يعمل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088516844

    عدد مرات الحفظ

    777068972