إسلام ويب

سلسلة التتار عين جالوت في الميزانللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للنصر أسباب يجب علينا الأخذ بها لتحقيقه، كما أن للهزيمة أسباباً ينبغي تجنبها، وبجملة تلك الأسباب أخذ المظفر قطز رحمه الله، فانتصر على التتار، وحرر بلاد الشام، وكان لانتصاره هذا آثار عظيمة على الإسلام والمسلمين.
    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فهذه هي المحاضرة الحادية عشرة من محاضرة قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت.

    في المحاضرة السابقة تحدثنا عن موقعة عين جالوت، تلك الموقعة التي غيرت فعلاً من خريطة العالم، ومن جغرافية الأرض.

    والتعليقات على هذه الموقعة لا تنتهي، والدروس والعبر والفوائد والعظات لا تحصى، فكل خطوة من خطوات الجيش المسلم، وكل خطوة من خطوات الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله تحتاج إلى وقفات طويلة؛ لأن موقعة عين جالوت سقط فيها الجيش التتري، الذي أفسد في الأرض إفساداً عظيماً، والله عز وجل لا يصلح عمل المفسدين، مع كون هذا الجيش جيشاً مفسداً إلا أنه سلط على المسلمين فترة طويلة من الزمان، مدة أربعين سنة متصلة، عاشها المسلمون في قهر وتعذيب وبطش وإجرام من التتار، وهزم فيها المسلمون في عشرات بل مئات المواقع الحربية، ثم دارت الأيام وتمت المعركة الهائلة عين جالوت، وانتصر المسلمون انتصاراً مبهراً حقاً، يقول ربنا في كتابه الكريم: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].

    وهنا يبرز سؤالان: ولابد لمن يتوسع في هذه الأحداث أن يخطر على ذهنه هذان السؤالان، وهذان السؤالان لهما إجابة واحدة:

    السؤال الأول: كيف سلط جيش التتار الفاسد المفسد على أمة الإسلام وهي خير منه، فمهما خالفت أمة الإسلام منهجها، ومهما بعدت وقصرت في واجباتها فهي ما زالت أمة الإسلام، فلماذا يسلط الله عز وجل أمة التتار المفسدة على أمة الإسلام؟

    السؤال الثاني: لماذا انتصر جيش التتار على المسلمين في كل المواقع السابقة، ثم هزم في موقعة عين جالوت وهو نفس الجيش؟ فلماذا انتصر سابقاً ثم هلك بكامله بهذه الصورة العجيبة في موقعة عين جالوت؟

    إن الإجابة على السؤالين نجدها في خطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الصحابي العظيم الملهم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يقود الجيوش الإسلامية المتجهة لحرب فارس في موقعة القادسية الكبرى، فقد قال له: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكون أشد احترازاً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لن نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله عز وجل يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا.

    أي: كما نقول: إن التتار شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نقول: إن اليهود شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نقول: إن الأمريكان شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نصف أي عدو من أعداء الله عز وجل بأنه شر، ولن يسلط على المسلمين.

    ثم قال: فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً.

    فاليهود لما أفسدوا في الأرض وعملوا ما يسخط الله من المعاصي، وابتعدوا عن شرعه عز وجل، سلط الله عليهم المجوس عباد النار، واليهود أهل كتاب، ومهما عصوا فهم أفضل من المجوس، ومع ذلك سلط الله عز وجل المجوس، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

    ورسالة الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه هذه من أنفس ما قال رضي الله عنه، ومن أعظم الرسائل مطلقاً، والرسالة طويلة، وقد درسناها بالتفصيل في فتوح فارس، ودراستها في منتهى الأهمية في بناء الأمة الإسلامية.

    ومن هذا الجزء الذي ذكرناه من الرسالة يتضح أنه إذا عمل المسلمون بمعاصي الله، فإنهم يهزمون ويسلط عليهم الكفار من أهل الأرض.

    وإذا التزم المسلمون بتقوى الله عز وجل، وساروا على منهج ربهم، ومنهج رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، انتصروا على الجيوش التي طالما انتصرت عليهم؛ فهم لا ينتصرون على هذه الجيوش بقوة الجسد، أو بكثرة العدد، أو بكفاءة العدد، وإنما ينتصرون عليهم بارتباطهم بربهم، وبعد أعدائهم عن رب العالمين سبحانه وتعالى.

    ومن هنا نفهم سبب تسلط جيش التتار أربعين سنة على المسلمين في الأرض، ثم سبب انتصار المسلمين في عين جالوت على هذا الجيش الذي دوخ بلاد المسلمين، وبلاد الأرض جميعاً عشرات الأعوام، وأيضاً نفهم أحداثاً كثيرة جداً تتكرر في التاريخ وفي الواقع.

    فإذا رأينا ضعفاً وخوراً وجبناً واستكانة في جيوش المسلمين، وتبعية للغرب أحياناً وللشرق أحياناً أخرى، وإذا رأينا هواناً في الرأي وسقوطاً للهيبة الإسلامية، وذلة في معظم أحوال المسلمين، وموالاة لمن سفك دماءهم، وتحالفاً مع من دمر ديارهم، وصداقة مع من شردهم من ديارهم، واستعانة بمن خرب اقتصادهم، ثم رأينا أن الأمة العظيمة الكبيرة الكثيرة قد أصبحت لا تساوي شيئاً في أعين أعدائها، وأنه قد تطاول عليها أخس أهل الأرض من إخوان القردة والخنازير، وعباد البقر والبشر والملحدين، فلنعلم علماً يقينياً أن الأمة تعمل بمعاصي الله عز وجل، ولا تتبع شرعه عز وجل، وأنها قد سقطت من عينه عز وجل، وأنه عز وجل هو الذي يسلط عليها الفاسدين من اليهود والصليبيين والهندوس والشيوعيين.. وغيرهم.

    وإذا رأينا كل ذلك فإنه لا يجوز أن يكون داعياً لنا إلى الإحباط واليأس، بل إلى التفكر والتدبر، والاستفادة من التاريخ، ثم العمل، وعين جالوت بين أيدينا، وهذه هي الفائدة من دراسة الأحداث التاريخية التي مرت عليها قرون وقرون، حتى نرجع إلى ديننا، وعندها تحل جميع قضايانا.

    والعودة إلى الله عز وجل ليست مستحيلة ولا صعبة، فمهما غرقت الأمة في معاصيها وابتعدت عن كتاب ربها وضلت طريقها، فإنها تعود إلى الله عز وجل في لحظة واحدة إذا أرادت أن تعود وأن تعيش، بل إذا أرادت أن تسود وتقود وترفع رأسها وتعز شأنها.

    وإننا مهما ابتعدنا عن الله إلا أنه سبحانه وتعالى يقبلنا إذا عدنا إليه، بل ويفرح بنا إذا عدنا إليه، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، فقال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده). كيف ستكون فرحة هذا الرجل، وقد أنقذ بعد أن أيقن بالهلكة، فالله عز وجل أشد فرحاً بعبده الذي يعود إليه بعد معصية، من هذا الرجل براحلته، فما علينا إلا أن نعود إلى الله عز وجل، والعودة إليه قد تكون في لحظة واحدة، وإذا عدنا إليه عز وجل فسنرى عين جالوت، وألف عين جالوت.

    والتأصيل الشرعي للانتصار وللهزيمة في الإسلام: أن المسلمين ينتصرون بارتباطهم بربهم، ويهزمون ببعدهم عنه عز وجل، فالله عز وجل لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

    وأسأل الله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يعز الإسلام والمسلمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089440705

    عدد مرات الحفظ

    785064757