إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية ما بعد تبوكللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان لغزوة تبوك أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، فقد أخذت قبائل العرب في التوافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الغزوة، فمنهم من وفد لإعلان إسلامه إما اقتناعاً، وإما رهباً، وإما رغباً، ومن آثار هذه الغزوة ظهور حقيقة المنافقين ظهوراً جلياً، مع أمر الله عز وجل بالتشديد عليهم والتضييق، وهناك آثار أخرى كثيرة يجدها من تأمل في واقع المسلمين بعد هذه الغزوة المباركة غزوة تبوك.

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فمع الدرس السادس عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.

    في الدرس السابق تكلمنا عن الأزمة الخطيرة التي مر بها المجتمع المسلم في المدينة المنورة في السنة التاسعة من الهجرة، عندما علم صلى الله عليه وسلم بتجمع الرومان في البلقاء في الشام، فقرر الخروج إليهم في ظروف صعبة جداً، من الضائقة الاقتصادية الشديدة، والمسافة البعيدة، والحر الشديد، والعدو الرهيب، في هذه الأزمة الطاحنة برزت بوضوح الطبقات الخمس لأي مجتمع مسلم ممكن في الأرض، وكما ذكرنا في الدرس السابق فهذه الطبقات الخمس موجودة بصفة دائمة في أي دولة إسلامية ممكنة في الأرض، غير أنها تبرز بوضوح عند الأزمات الشديدة كأزمة تبوك مثلاً، هذه الطبقات الخمس: هي طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين، وطبقة المتخلفين عن أمر الله بصفة مؤقتة، وطبقة عموم المنافقين، وأخيراً طبقة مردة المنافقين، وأنا أحب أن أؤكد على معنى هام جداً هو أن هذه الطبقات الخمس وإن كانت موجودة دائماً إلا أنها تتفاوت في الحجم بحسب طريقة التربية وقوة التربية، ولأن التربية الإسلامية ما شاء الله كانت على أعلى درجات التربية وأبهى الصور في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم نجد في طبقة المنافقين بشقيها سواء كان عموم المنافقين أو مردة المنافقين، لم نجد في غزوة تبوك أكثر من ثمانين منافقاً، أو أكثر من ثمانين بقليل، وهذه نتيجة الجهد الطويل والعظيم من المربي الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.

    وذكرنا في الدرس السابق أن الجهد العظيم الذي قام به المؤمنون من طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين، ساعد على تجهيز الجيش الإسلامي الكبير الذي خرج إلى تبوك في رجب سنة (9) هجرية، وكان عدد الجيش الإسلامي ثلاثين ألف مقاتل، وذكرنا أن نسبة التخلف كانت يسيرة جداً لا تتجاوز واحداً من عشرة آلاف، تصور ثلاثة من أصل ثلاثين ألف مقاتل، وبرغم كل المعوقات التي حاول المنافقون أن يضعوها إلا أن الجيش العملاق خرج بالفعل بفضل الله عز وجل.

    ترك الرسول عليه الصلاة والسلام على إمارة المدينة المنورة محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وترك على أهله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبدأ الجيش المناضل في رحلة طويلة جداً شاقة جداً وفي صبر جميل، صبر على الجوع، وصبر على التعب، وصبر على الحر، وكان الزاد قليلاً جداً، حتى إن الرجلين والثلاثة كانوا يقسمون التمرة بينهم، وكان يتعاقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، وكانوا يدخرون الماء لندرته، حتى كانوا ينحرون الإبل ليشربوا الماء الذي تدخره الإبل بطونها، إنه ابتلاء كبير جداً، ويبتلى المرء على قدر دينه.

    وكأن هذا الابتلاء ليس كافياً، فيأتي ابتلاء جديد؛ لاختبار الطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما وصل المسلمون إلى منطقة الحجر، منطقة الحجر هي الآن موجودة في شمال السعودية، وهي المنطقة التي كانت بها ديار ثمود قوم صالح عليه السلام، وقوم صالح كما تعرفون أهلكوا في هذه المنطقة لما كفروا بربنا سبحانه وتعالى، في هذه المنطقة أبيار للماء، ورأى المسلمون أبيار الماء وأسرعوا إليها قبل استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم، وملئوا الأوعية بالماء وعجنوا العجين بهذا الماء؛ ليصنعوا خبزاً يشبعهم بعد طول جوع، فلما علم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر أمرهم بأمر شاق جداً على نفوسهم قال لهم: (لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً)؛ لأن هذا الماء غير مبارك، فهو ماء الذين ظلموا، والأمر مباشر وصريح بعدم الشرب منه، وليس على المسلمين إلا الطاعة.

    قد يأتي من يجادل ويقول: إن هذا الماء ليس له علاقة بشاربه فيشرب منه البر والفاجر، ويشرب منه المؤمن والكافر، ونحن في حاجة للماء والطريق صعب.

    وقد يأتي مجادل آخر ويقول: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشرب من ماء مكة وغيرها ولا يسأل أهو ماء كفار أم ماء مسلمين؟ كل هذه الحجج والشبهات قد تثار، لكن الغرض كان واضحاً؛ وهو الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وليست الأوامر يتضح لنا فيها الحكمة، بل إن بعض الأوامر قد يخفي الله عز وجل حكمتها عنا ليختبر مدى طاعتنا له، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36] ونجح المسلمون الصادقون في الاختبار ولم يشربوا من ماء ثمود مع شدة حاجتهم له، بل أمرهم صلى الله عليه وسلم ألا يدخلوا ديار قوم ثمود، وإن حدث ودخلوها لأي سبب فليدخلوها باكين؛ تأثراً بما حدث لثمود عندما خالفوا أمر الله عز وجل، أما هو صلى الله عليه وسلم فقد قنع رأسه بالثوب وغطاه وأسرع بالمسير، ولم يدخل، وقال لهم: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبكم ما أصابهم)، هذا الكلام ينطبق على كل آثار باقية لقوم أهلكوا قبل ذلك؛ لكفرهم، لا يدخلها المسلمون أبداً إلا للاعتبار، وإذا دخلوها لا يدخلوها في فرح وسرور ولكن في بكاء وتأثر وتذكر وتدبر!

    حصلت أحداث كثيرة جداً في الطريق لا يتسع المجال لتفصيلها، حصلت بعض المعجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصلت مواقف متعددة خبيثة من المنافقين، ومواقف أخرى كثيرة، في النهاية وصل صلى الله عليه وسلم والجيش العملاق إلى أرض تبوك فوجدوا عجباً، لقد تحقق نصر هائل للجيش الإسلامي وللأمة الإسلامية بلا قتال، لقد فرت الجيوش الرومانية العملاقة التي تحكم وتسيطر على نصف مساحة المعمورة تقريباً عندما علمت بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، كيف فرت جيوش الدولة الأولى في العالم من جيش المسلمين مع وفرة جنودهم وقوة عتادهم وعمق تاريخهم ومهارة تدريبهم؟ كيف؟ المعادلة صعبة جداً، لا تفهم إلا في ضوء الحقيقة القرآنية العظيمة: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا [آل عمران:151] حين علمت الرومان بقدوم (30000) مسلم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تذكرت الأحداث المؤلمة لغزوة مؤتة، وغزوة مؤتة لم يمر عليها أكثر من سنتين، وارتبكت في مؤتة الجيوش الرومانية أمام (3000) مقاتل مسلم فقط، ولم يكن فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام، أما الآن في تبوك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يتوسط جيشه، فقرر الرومان الفرار من هذا الجيش، واعتبروه غنيمة حتى وإن سقطت هيبة الدولة العملاقة، حتى وإن ظهرت الدولة الرومانية العملاقة بصورة مخزية أمام الدولة الإسلامية الناشئة.

    والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بهذا النجاح المبهر، بل أصر على البقاء في أرض تبوك، بقي عشرين يوماً أو أقل من عشرين يوماً بقليل؛ بقي هذه الفترة الطويلة ليثبت للجميع أنه ليس خائفاً من الرومان وأعوان الرومان، وأعوان الرومان هم القبائل النصرانية العربية الموجودة في منطقة شمال الجزيرة العربية ومنطقة الشام، مع أنه كان من عادة الجيوش في ذلك الزمن أن يمكثوا في أرض الموقعة ثلاثة أيام فقط؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قعد هذه المدة الطويلة لإثبات القوة وعدم الرهبة من جيوش الرومان، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام توج هذا الانتصار الكبير بإرسال سرية من المسلمين، حوالي (420) فارساً بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه إلى دومة الجندل، على بعد حوالي (300) كيلو أو أكثر من تبوك، أرسل هذه السرية أكيدر بن عبد الملك الكندي ، وكان أكيدر بن عبد الملك زعيماً من زعماء النصارى الذين يحكمون منطقة واسعة في شمال الجزيرة، وكان يساعد الرومان في حربهم ضد المسلمين، وأسر أكيدر بن عبد الملك وأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد حوار دار بينهم أقر أكيدر على الجزية وحقن دمه.

    ولم يقف نجاح الحملة العسكرية عند هذا الحد، بل أتى ملوك وأمراء مدن الشام الذين يجاورون الجزيرة العربية، أتوا يصالحون الرسول عليه الصلاة والسلام على الجزية، ومن هؤلاء صاحب أيلة يحنة بن رؤبة ، وكذلك أتاه أهل جرباء وأهل أذرح.. وأكثر من منطقة جاءت لتصالح على الجزية رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    فكان نصراً مبيناً وكبيراً، وتم دون أن يرفع سيف، اللهم إلا بعض المناوشات اليسيرة التي تمت عند أسر أكيدر بن عبد الملك .

    لقد أظهر الله سبحانه وتعالى لنا طرقاً عديدة لتحقيق النصر للمسلمين، فتارة يجري القتال العنيف الشرس بين المسلمين وأعدائهم كما رأينا في بدر.

    وتارة يصبر المسلمون على حصار عدوهم لهم كما في الأحزاب، وانصرف الأحزاب دون نتيجة كما رأينا.

    وتارة يحاصر المسلمون أعداءهم فينزل الأعداء على رأي المسلمين دون قتال، كما رأينا في غزوات الرسول عليه الصلاة والسلام مع اليهود في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة.

    وتارة ينزل الأعداء على حكم المسلمين بعد قتال كما في خيبر.

    وتارة يحاصر المسلمون حصناً ولا يفتح كما رأينا في الطائف، ثم جاء أهل الطائف بعد ذلك مسلمين.

    وتارة لا يكون هناك قتال بالمرة كما حدث في تبوك.

    خلاصة الأمر ما ذكره سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52]

    ليس المهم الطريقة لكن لا بد أنه يحصل النصر: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52]ليس المهم كيف يتم النصر، ولكن المهم أن يوجد الجيش الذي يستحق النصر، ثم الله عز وجل ينصر من يشاء كيفما يشاء وفي الوقت الذي يشاء؟

    إذاً: كان من نتيجة هذه الغزوة العظيمة غزوة تبوك أن سيطر المسلمون سيطرة كاملة على شمال الجزيرة العربية، وكان من نتيجتها أن سقطت هيبة الرومان وأعوان الرومان، وهذا سيسهل كثيراً بعد ذلك الفتوح الإسلامية في بلاد الشام.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088457687

    عدد مرات الحفظ

    776843706