الحياء خلق من أخلاق الإسلام، وفطرة فطر الله عليها الإنسان، وهو خلق يحض على مكارم الأخلاق، وهو شعبة من شعب الإيمان، والالتزام بخلق الحياء يقلل من المنكرات في المجتمع، والحياء لا يأتي إلا بخير، وإذا كان يؤدي إلى ترك الواجبات المأمور بها فيترك؛ لأنه لا حياء في السؤال عن أمور الدين.
الحمد لله رب العالمين، الذين أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماءٍ مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، فهو مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه كيفما شاء وحسبما أراد، فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك، وأشهد أن نبينا ورسولنا وشفيعنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه القائل: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) عبده ورسوله.
ثم أما بعد:
فيا أيها الإخوة الكرام، لا زلنا مع قول الله سبحانه:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
[القلم:4]، فأزمتنا أزمة أخلاق، وعباداتنا لا تحقق الغرض منها إلا بالأخلاق، وقد تحدثنا عن مفهوم حسن الخلق، وعن حسن الخلق مع الخالق، وحسن الخلق مع المخلوق، ووضحنا الأمور التي يدور عليها حسن الخلق، وأن أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حسن الخلق.
وحديثنا اليوم عن خلق سماه النبي صلى الله عليه وسلم: خلق الإسلام، حيث قال: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء)، فحديثنا عن الحياء، ومن ثم سيكون عنوان الخطبة: إرشاد الأخلاء إلى منزلة الحياء.
ما هو الحياء؟ وما أنواعه؟
كان عند العرب قبل الإسلام حياء، وسنأتي بمقارنة بين مواقف العرب قبل البعثة، وبين مواقف من ينتسبون إلى الإسلام اليوم، ثم نتحدث عن الحياء في القرآن والسنة، ثم نتحدث عن حياء الأنبياء، وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم عن حياء الصحابة وحياء الصحابيات، ثم نختم الحديث بأمور لا ينبغي أن يكون فيها حياء، ثم نذكر من أرض الواقع نماذج على هذه القضايا الهامة.
والحياء يعرفه العلماء: بأنه صفة خلقية تبعث على اجتناب الرذائل، وتدفع إلى إعطاء الحق لصاحبه.
وبين الحياء والإيمان ارتباط، فكلما زادت مادة الإيمان في القلب زاد الحياء، وكلما قلت مادة الإيمان في القلب قلّ الحياء، لذلك يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان والحياء قرينان، إذا رفع أحدهما رفع الآخر) .
إن نزع الحياء من القلب فلا بد أن تعلم أن مادة الإيمان في هذا القلب منعدمة أو ضعيفة، والحياء أصل في فطرة الإنسان، لذلك إذا ما نظرنا إلى واقعنا اليوم نعلم أن البعض منا قد تحلل من الحياء الفطري، فهذا آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة بدت له سوأته -وظهور السوأة ينافي الحياء-، فأخذ من ورق الشجرة ليواري به سوأته، وكذلك فعلت حواء، ففهما بالفطرة الغريزية أن ظهور السوأة ينافي الحياء، وانظر يا عبد الله إلى واقعنا فستعلم أن الحياء قد نزع، لا أقول: الحياء الاكتسابي الذي يناله المرء بالتعلم، إنما أصل الحياء قد نزع.
فحينما ترى شاباً يقبل فتاة على مرأى من الجميع والحضور، هل نزع الحياء منه أو لم ينزع؟
وحينما ترى ولي أمر يجلس بين أهل بيته، ويفتح ذلك الجهاز الذي يدمر الأخلاق ويحطمها، فإذا بالبطل يقبل البطلة ويحتضنها، والأسرة تنظر إليه، هل نزع الحياء منه أو لم ينزع؟ نزع الحياء.
وحينما ترى من تسير عارية الشعر والصدر والذراعين والساقين، أو تلبس بنطالاً يجسد عورتها المغلظة، هل نزع الحياء منها أو لم ينزع؟
وحينما ترى إسهاب المرأة في العبارة، وتغنجها في الكلام مع الرجال.
وحينما ترى من يجاهر بالمعصية فلا يستحي من نفسه، ولا من الله ولا من الملائكة، ولا من الناس، فهو يجاهر بالمعاصي عياناً بياناً، هل نزع الحياء منه أم لم ينزع؟
انظر يا عبد الله يوم أن خرجت علينا بعض الصحف بتلك الجريمة البشعة التي قام بها من لا حياء عندهم، حينما اغتصب طبيب أسنان بعض النساء بإعطائهن مخدر، ثم يصورها عارية وهي غائبة عن الوعي، ثم يتاجر في هذه الأفلام ويبيعها، وقد قلنا: إن سبب الجريمة أولاً: غياب التعاليم الشرعية، وأنه لا يجوز للمرأة أن تذهب بدون محرم، وقد أيد هذا الكلام نقيب أطباء الأسنان، فإذا برجل لا حياء عنده يكتب لنقيب الأطباء ويقول: يا نقيب الأطباء قلها صراحة: إنك تريد للنساء ألا يذهبن إلا بمحرم، وهذه الرجعية التي تنادي بها وهذا الجمود والتحجر الذي تريد به أن تعيدنا إلى عصر الظلام.
فهذا الرجل الذي نزع منه الحياء يكتب هذا الكلام ليطعن في النبي عليه الصلاة والسلام حينما أمر المرأة ألا تخرج إلا مع محرم، وأن هذه رجعية وتخلف وعودة إلى عصور الظلام، ثم قال: ولا بد لنقيب الأطباء أن ينظر في حاله فربما أثر عليه الأصوليون، وربما لوث فكره بمذاهب المتحجرين، لا بد من إعادة نظر، فنقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، أين الحياء؟ لا حياء مع الخلق ولا مع الخالق.
كانت العرب قبل الإسلام تعرف خلق الحياء، فقد جاء في كتاب بدء الوحي عند
البخاري أن
هرقل أرسل إلى
أبي سفيان مع بعض أصحابه وكانوا تجاراً بالشام يسألهم عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان
هرقل داهية، ومحللاً ومدركاً للعبارات، ويربط الأحداث والجمل ويستنبط؛ لذلك قال
أبو سفيان : ما رأيت داهية كهذا الأقلف؛ لأنه كان غير مختون. قال لهم
هرقل : أيكم أقرب نسباً إلى هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال
أبو سفيان : أنا، واختار القريب نسباً؛ لأنه إن طعن في نسبه فسيطعن في نسبه هو، فقال
أبو سفيان : أنا، فقال لترجمانه: قربوه واجعلوا أصحابه خلف ظهره، وقال لأصحابه: إني سائله فإن كذبني فكذبوه، بعد أن أبعدهم عن مواجهته، بحيث إذا كذب في الحديث كذبوه من خلفه، يقول
أبو سفيان : وسألني ولولا أني خفت أن يأثروا علي كذباً لكذبت، لولا أني استحييت، قال الحافظ
ابن حجر في شرح الحديث: إنه لو كذب ما كذبوه؛ لأنهم اشتركوا معاً في بغض النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن
أبا سفيان خشي أن يقول الناس بعد أن يرجعوا: إنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فـ
أبو سفيان استحيا أن يكذب، فكان عندهم حياء.
وأبو جهل بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام قال له قومه: تسور الجدار على أسماء وسلها عن أبيها وعن رسول الله، فقال: يا قوم أتريدون أن يعيرني الناس ويقولون: إن أبا جهل يتسور الجدران على النساء بالليل، الله أكبر! أين حياء أبي جهل ممن يقتحم البيوت ويدخل إلى الحجرات وينظر إلى العورات دون أن يتقي رب البريات؟ أبو جهل ينأى بنفسه أن يعتلي جداراً لينظر إلى امرأة ليس معها أحد، والقرآن الكريم جاء يبين في سورة القصص موقف ابنتي شعيب يقول ربنا سبحانه:
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لنا
[القصص:25].
يقول عمر رضي الله عنه: خرجت وقد وضعت كم درعها على وجهها، وهي تحدث رجلاً أجنبياً لا يحل لها أن تحدثه، فلم تكن سلفع، خراجة ولاجة جريئة لا حياء عندها.
في الجاهلية وقع البرقع من امرأة أمام مجلس الرجال، ثم ناخت على الأرض بقدميها لتأخذ البرقع بيدها الأخرى، واستحيت من الحضور، أين الحياء في زماننا يا قوم؟
الحياء صفة من صفات رب العالمين، وفي الحديث الصحيح: (
إن الله حيي كريم، يستحي أن يرفع الرجل يده إليه فيردهما صفراً خائبتين)، ولذلك ربنا رحيم يحب الرحماء، كريم يحب الكرماء، حيي يحب أصحاب الحياء سبحانه وتعالى.
جاء في كتاب العلم عند البخاري باب من اغتسل عرياناً وحده، ومن شدة حياء بعض الصحابة كـعثمان أنه كان إذا اغتسل بمفرده ما قام وما انتصب، إنما كان يغتسل وهو جالس حياءً من ربه.
أما بنو إسرائيل فقد كانوا يغتسلون عرايا مع بعضهم البعض، لكن موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً شديد الحياء، كان يغتسل وحده، وكما هو معلوم أن اليهود هم مصدر الإشاعات ومروجوها في الدنيا، فقال بنو إسرائيل: إن موسى لا يغتسل معنا؛ لأن به أدرة -أي: انتفاخ في الخصيتين- وشاع هذا بين بني إسرائيل فآذوه معنوياً، فنزل موسى يوماً يغتسل وحده وقد وضع ملابسه على حجر وبيده عصاه، وخرج بعد أن اغتسل، فإذا بالحجر يأخذ ملابسه ويجري، وهو يسير خلف الحجر ويقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، وبينما هو يجري خلف الحجر مر على قوم من بني إسرائيل؛ فنظروا إليه فإذا به أحسن ما خلق الله، قال الله سبحانه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا
[الأحزاب:69].
وقد راعى الإسلام الحياء في مسألة الزواج، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر، قالت عائشة: يا رسول الله إذاً تستحي) .
أي: أن البكر حينما تسأل: هل تريدين هذا الرجل لك زوجاً، تستحي أن تتكلم، لكن متى كانت تستحي؟ يوم أن كان هناك حياء، أما اليوم فإنها تأتي بالشباب إلى والدها، وتقول: يا أبي أقدم لك بلا فخر زوجي الذي ارتبطت به شئت أم أبيت، فموافقتك لا تقدم ولا تأخر، والحمد لله أنا في الشهر الثالث بالزواج العرفي، وبعض الأمهات تقول لابنتها: إن لم تأتي بزوجك من الجامعة لن تتزوجي أبداً، انصبي الشباك على شاب حددي الهدف، إن أنهيت المرحلة الجامعية دون أن تأتي بفريسة لن تتزوجي، كوني ذكية، ابحثي عن شاب. (قالت عائشة: يا رسول الله البكر تستحي، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام إذنها صماتها) .
يعني: إذا سكتت فهي في حكم الموافقة، تقول أُمنا عائشة رضي الله عنهما كما عند الحاكم وصححه على شرط الشيخين، وسكت عنه الذهبي : لما دفن الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرتي كنت أضع الخمار عن رأسي، فلما دفن أبي كنت أضع الخمار، فلما دفن عمر في حجرتي كنت أشد الخمار على رأسي؛ حياءً من عمر في قبره. الله أكبر! فأين الحياء يا أمة ضاع فيها الحياء؟!!.
أما في الأعراس فحدث ولا حرج: عروس تجلس كاشفة الصدر، كاشفة الرأس والذراعين والمفاتن بجوار زوجها الديوث، والجميع ينظر إليهما، والفيديو يصور، والناس تشاهد، أين الحياء؟ ويسلمها زوجها للكوافير، ويتنازل عن رجولته من أول لحظة، وإن أراد أن يدخل قيل له: اخرج لم ننته بعد، سنعطيها لك حينما ننتهي، ويقف الديوث ساعات على باب الكوافير، بدون حياء، وانظروا إلى المصائب التي تعرض علينا آناء الليل وأطراف النهار لنزع الحياء، ممن انعدمت في قلوبهم مادة الحياء، ويريدون أن ينزعوا منا الحياء، لقد أدخلوا الزنا إلى حجرات نومنا عن طريق القنوات الفضائية، ومسابقة ملكات الجمال حتى آخر صيحة، يقول مقدم البرنامج في قناة النيل: نريد أن نقلب مسابقة ملكات الجمال إلى نوع أكثر تقدماً ومسابقة الإغراء، نريد أن نحول الحكم على الجمال إلى إغراء الرجال، فماذا يريدون بمصرنا؟ لا أدري، إذا استمر الحال على هذا يوشك أن تنزل علينا حجارة من السماء، وذلك إذا رأينا العصاة ووافقناهم على ما هم فيه.
جاءت أم سليم تقول: (يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة : أتحتلم المرأة يا رسول الله؟! قال: تربت يداك يا أم سلمة ففيم يكون الشبه)، فلم يمنع أم سليم الحياء أن تتفقه في دين رب العالمين، لذلك هناك أمور لا حياء فيها، سنتحدث عنها في اللقاء الثاني بعد بيان حياء الأنبياء، وحياء الصحابة والصحابيات.