إسلام ويب

العقيدة الطحاوية [2]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما يتصل بركن الإيمان باليوم الآخر إثبات الحوض الذي أكرم الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم غياثا لأمته, والتصديق بما ورد من صفاته في الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم, خلافًا لمنكريه من الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم, ومما يتصل كذلك بالإيمان باليوم الآخر التصديق بالشفاعة الثابتة يوم القيامة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره بأنواعها, العظمى منها فما دونها بشروطها المنصوصة في آيات الكتاب الكريم.
    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.

    اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، إنك أنت العليم الحكيم.

    أما بعد:

    قال الطحاوي رحمه الله تعالى: [والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق].

    هذه الفقرة مشتملة على إثبات الحوض يوم القيامة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والحوض: هو مجمع الماء، والحوض ثبت بالأحاديث النبوية التي بلغت حد التواتر، فقد ذكر القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم المسمى: (إكمال المعلم) بأنه رواه خمسة وعشرون نفساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد عليه النووي في شرح مسلم ثلاثة، وزاد عليهم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرحه لأحاديث الحوض في (فتح الباري) ما يقارب قدر ما ذكروه، فزاد عدد الذين رووا حديث الحوض على خمسين راوياً من الصحابة.

    بل إن الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر في شرحه: أن بعض المتأخرين أوصل عدد الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض إلى ثمانين راوياً، وقد صنف الحافظ الضياء المقدسي صاحب المختارة كتاباً مستقلاً في أحاديث الحوض، كما أن أحاديث الحوض جمعها البيهقي رحمه الله في كتابه: (البعث والنشور)، ورواها جميعاً بأسانيدها، وممن جمع أحاديث الحوض أيضاً الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه (البداية والنهاية)، وكتاب (البداية والنهاية) يعتبر هو المرجع الأساسي لشارح العقيدة الطحاوية ابن أبي العز الحنفي رحمه الله، فإن ابن كثير هو شيخه، بل إنه ينقل عنه بالنص كما سيأتي في قضية الشفاعة بإذن الله.

    ومما ينبغي أن يتنبه له الإنسان: أن هناك فرقاً بين الكوثر والحوض، فالكوثر: هو نهر بالجنة، وهو الذي أعطاه ربنا سبحانه وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، كما دلت عليه السورة المشهورة سورة الكوثر: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، ودل على أن هذا الكوثر نهر في الجنة حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح البخاري حيث قال: (لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟! قال: هذا الكوثر)، بل جاء في رواية للبخاري توضح هذه الرواية وهي قوله: (بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر...)، فهذا يدل على أن الكوثر نهر في الجنة، كما روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

    وفي حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري في كتاب التفسير في تفسير سورة الكوثر قالت: (هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم)، وذكرت: (أن عليه دراً مجوفاً، وآنيته كعدد نجوم السماء)، وزاد النسائي : (في بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها) الراوي عن عائشة سأل عن بطنان الجنة؟ فقالت: وسطها، يعني: أن نهر الكوثر في وسط الجنة.

    لكن روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكوثر: (هو الخير الذي أعطاه الله إياه).

    فإن قيل: كيف يمكن أن نجمع بين ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الكوثر نهر في الجنة وبين كلام ابن عباس الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم التفسير، وهو علم التأويل؟

    فالجواب: يمكن أن نجمع بما جمع به تلميذ ابن عباس سعيد بن جبير ؛ فإنه سأله أبو بشر الراوية عنه فقال: إن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة! يعني: عندما سمع رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن الكوثر هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، قال: إن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد بن جبير : (النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه) يعني: فلا إشكال.

    ويؤكد كلام سعيد بن جبير ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ غفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟! قال: نزلت علي سورة آنفاً، وقرأ عليهم سورة الكوثر، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة).

    وهذا الحديث الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة) قد يشكل على بعض الناس الذين يقولون: كيف نفرق بين الكوثر والحوض مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الكوثر هو نفسه الحوض؟ والصحيح: أن الكوثر في الجنة والحوض يكون يوم القيامة بعد الصراط، كما سيأتي.

    وأما ماء الحوض فإنه يكون من الكوثر، ويدل على ذلك ما رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -يعني: في الحوض-: (يسكب فيه ميزابان من الجنة)، وكذلك ثبت في مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض).

    وإنما أطلق على الحوض أنه كوثر كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأن الحوض فرع عن الكوثر؛ فهو منه، لكن هناك فرقاً، فالأول الذي هو الكوثر في الجنة، والحوض خارج الجنة.

    مكان الحوض ووقت الورود عليه

    أين ومتى يكون الحوض؟

    ذكر بعض العلماء خلافاً في ذلك، وهو القرطبي رحمه الله في كتابه (التذكرة) ذكر أن بعض العلماء قال: إن الحوض يكون قبل الصراط وقبل أن توزن الأعمال، وقال آخرون: إن الكوثر يكون بعد الصراط، وهذا هو الصحيح، وطريقة البخاري رحمه في روايته لأحاديث الحوض تدل على ذلك، فإنه بوب في كتاب الرقاق (باب في الحوض) بعد ذكره الشفاعة والصراط، وهذه إشارة منه رحمه الله إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، ويدل على ذلك ما رواه أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي، فقال: أنا فاعل، فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني عند الصراط، قلت: فإن لم أجدك؟ قال: فأنا عند الميزان، قلت: فإن لم أجدك؟ قال: فأنا عند الحوض) وهذا يدل على أن الحوض يكون بعد الميزان وبعد الصراط.

    لكن قد يشكل على هذا القول الأحاديث التي وردت أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى بعض أصحابه ثم يذادون عنه فيقول: (أصيحابي أصيحابي! ثم يقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك).

    وإذا كان الحوض بعد الصراط فإن الذي يمر على الصراط إلى الحوض لا بد أن يكون ناجياً، فإنه لا يمكن أن يمر على الصراط ثم يأتي إلى الحوض ثم يذاد ويرجع به إلى النار، فإن من مر على الصراط ونجا منه لا يمكن أن يرجع إليه مرة أخرى.

    لكن هذا يجاب عنه: هؤلاء الذين يذادون عن الحوض يراهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد بقي لهم بقية من الصراط لم يتجاوزوه، ثم يذادون عنه، يعني: يؤخذون إلى النار، ثم ينادي ويقول: (أصيحابي أصيحابي!) وهم لم يتجاوزوا الصراط بأكمله، هذا ما أفاده الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.

    ذكر الخلاف في إثبات أحواض أخرى لبقية الأنبياء عليهم السلام

    هل الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم أن لبقية الأنبياء أحواض؟

    المشهور في هذه المسألة هو أن الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وورد في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما رواه الترمذي من حديث سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حوضاً، وإنهم يتباهون أيهم أكثر وارداً، وإني أرجو أن أكون أكثرهم وارداً) لكن هذا الحديث في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف، كما أن فيه انقطاعاً بين الحسن البصري وسمرة بن جندب ، وبناءً على هذا يكون هذا الطريق الذي رواه الترمذي طريقاً ضعيفاً، ثم إن الترمذي نفسه قال: إن الصحيح هو المرسل، يعني: المرسل عن الحسن ، ورواه ابن أبي الدنيا مرسلاً وصححه الحافظ إلا أن فيه زيادة وهي قوله: (وهو قائم على حوضه بيده عصا يدعو من عرف من أمته، إلا أنهم يتباهون..) إلى آخر الرواية التي سبق أن ذكرناها من رواية الترمذي ، وقد رواه الطبراني أيضاً مرفوعاً عن سمرة لكن في إسناده ضعفاً، كما رواه أيضاً ابن أبي الدنيا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً وفي إسناده ضعف أيضاً.

    ولعل الذين قالوا بأن الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم اعتمدوا على أنه لم يوجد دليل صحيح يثبت وجود أحواض أخرى للأنبياء لبقية الأنبياء، لكن هذه الأسانيد يقوي بعضها بعضاً، وتكون في مرتبة الحديث الحسن، وحينئذٍ يكون للأنبياء أيضاً أحواض أخرى، ولكن أكثرهم وارداً هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، بينما الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم هو الكوثر، فإن الكوثر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأمرين:

    الأمر الأول: أنه لم يثبت أنه أعطي أحد من الأنبياء مثله.

    الأمر الثاني: الامتنان الوارد في السورة، ولا سيما أنه جاء بأسلوب يشبه الحصر، عندما قال: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] فإنه لو كان الكوثر أو مثله قد أعطي لغير النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في هذا امتنان، فلما وجد الامتنان دل على الخصوصية، وأن الكوثر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089198008

    عدد مرات الحفظ

    782702204