إسلام ويب

العقيدة الطحاوية [3]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يعتقد أهل السنة والجماعة أخذ الله تعالى الميثاق من ذرية آدم واستنطاقهم وإشهادهم على ربوبيته لهم, كما يعتقدون وجوب الإيمان بالقدر ومراتبه وما تضمنته كل مرتبة من مسائل, خلافًا لمن ضل فيه وفي مراتبه من القدرية والجبرية والفلاسفة ونحوهم, وأنه سر الله تعالى في خلقه لا يخوض فيه إلا من زلت به القدم, كما يعتقدون إثبات العرش والكرسي وإثبات علو الله تعالى على خلقه, وإثبات صفة المحبة له تعالى, والإيمان بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة لهداية الخلق.
    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.

    أما بعد:

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق].

    أخذ الله سبحانه وتعالى من ظهر آدم ذريته، وجمعهم في مكان واحد، واستنطقهم سبحانه وتعالى، وأشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] فقال الله عز وجل لهم: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، وهذا الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على بني آدم من ظهر آدم هو قبل أن يخلق الناس، والميثاق فيه أربع مسائل كبار: المسألة الأولى: مسألة الفطرة، والمسألة الثانية: مسألة الأرواح، والمسألة الثالثة: مسألة القدر، والمسألة الرابعة: مسألة قيام الحجة.

    والشيخ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله أوردها في صدر الكلام على القدر، كأنه يشير إلى أن الميثاق نوع من أنواع القدر المكتوب، كما سيأتي ذكره.

    ويدل على الميثاق قول الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173]، والإشهاد والاستنطاق وأخذ الميثاق أمر متفق عليه بين السلف الصالح رضوان الله عليهم، إلا أنهم اختلفوا في مسألة: هل آية الأعراف تدل على هذا الأمر الذي هو أمر الميثاق وإخراج الذرية واستنطاقهم وإشهادهم، أو أنها لا تدل؟

    أما استنطاقهم وإخراجهم وإشهادهم على أنفسهم فقد دلت عليه جملة من الأحاديث، منها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحديث ابن عمر رضي الله عنه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وكل هذه الأحاديث منصوصة في كتب أهل العلم في المسانيد والسنن والجوامع، وهي وإن كان كثير من طرقها فيه ضعف إلا أن بعضها يجبر بعضاً، وقد جمع طرقها الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة واستفاض في تخريجها وأطال رحمه الله تعالى.

    ويمكن أن نذكر من هذه الأحاديث حديث ابن عباس رضي الله عنه، وهو قوله: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: بعرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كليهم قبلاً، قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]... إلى آخر الآيات).

    وكذلك روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو ما رواه عن ابن عباس ، إلا أنه زاد: (إن الله عز وجل مسح ظهر آدم بيمينه واستخرج منها ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) ونحو ذلك من الأحاديث التي تدل على أن الله عز وجل استخرج من ظهر آدم ذريته، وأشهدهم على أنفسهم.

    لكن اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم في آية الأعراف، هل هي نفسها المقصودة في الأحاديث؟ يعني: هل الأحاديث وآية الأعراف شيء واحد، أم أن الآية تدل على معنى والأحاديث تدل على معنى آخر؟

    جمهور أهل العلم يقولون: إن الآية هي نفسها المرادة في الأحاديث، ولهذا جاء نصها في حديث ابن عباس رضي الله عنه كما سبق.

    وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم في كتابه الروح وأيضاً وافقهما الشارح يرون أن الآية التي في سورة الأعراف لا توافق الأحاديث الواردة في استخراج الذرية وإشهادهم على أنفسهم وإقرارهم بذلك.

    وهذه المسألة التي في تفسير الآية الخلاف فيها سهل وبسيط، لكن أهل العلم اتفقوا على مسائل الاعتقاد التي تضمنها هذا الميثاق الوارد في الأحاديث، فقد اتفقوا على أن الميثاق يدل على الفطرة، ويدل على أن الله عز وجل خلق كل الناس وهم مفطورون على التوحيد، ولهذا لما استنطقهم وهم في عالم الأرواح قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]، ولهذا أخرجهم الله عز وجل بعد ذلك وهم مفطورون على التوحيد، ويؤيد هذا قول الله سبحانه وتعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، فقوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ لما أضاف الفطرة إلى الله عز وجل دل هذا على أن هذه الفطرة فطرة ممدوحة، فإن المضاف إلى الله عز وجل على أنواع: منه ما يضاف إضافة صفة، مثل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، ومنه ما يضاف إلى الله عز وجل إضافة تشريف، مثل: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63]... إلى آخر الآية، ومثل: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13]، وبيت الله، ونحو ذلك من الإضافات، فهذه إضافات تشريف، وبعضها إضافات خلق مجرد، فإضافة الفطرة إلى الله عز وجل في قوله: فِطْرَةَ اللَّهِ [الروم:30] إضافة تشريف، فهي فطرة ممدوحة، ولهذا قال الله عز وجل: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، فبين الله سبحانه أن هذه الفطرة مخلوقة في نفوسهم منذ أن يولدوا، وهذا يوافق الحديث المشهور في هذا الباب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها، ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه هذه الآية: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30])، فالفطرة ثابتة في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    أيضاً ما رواه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم)، وفي رواية: (إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين) وفي رواية في حديث أبي هريرة : (كل مولود يولد على فطرة الإسلام) رواه ابن حبان وصححه.

    والأدلة على الفطرة كثيرة جداً، ويمكن أخذ الفطرة من الميثاق؛ فإن الله عز وجل عندما نثر الناس من ظهر آدم استنطقهم بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172]، فقالوا: بَلَى [الأعراف:172]، ولهذا فطروا عليها.

    المسألة الثانية: هي مسألة القدر، والذي يدل على أن هذا الميثاق قد كان فيه القدر رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي سبق أن ذكرناها، وهي أنه عندما مسح على ظهر آدم فأخرج منه جملة من ذريته قال: (هؤلاء من أهل الجنة)، ثم أخرج جزءاً آخر فقال: (هؤلاء من أهل النار أو هم أهل النار).

    المسألة الثالثة: مسألة الأرواح، وهذه مسألة طويلة اختلف فيها السلف رضوان الله عليهم، والصحيح: أن هذه الأرواح التي أخرجها الله سبحانه وتعالى لم تبق إلى أن خلق الله عز وجل الأجساد ثم أرسل إليها الأرواح، وإنما أخرج الله عز وجل من ظهر آدم ذريته، ثم عادت الأرواح، ثم يخلق الله سبحانه وتعالى بعد ذلك الأرواح مع الأجساد، ولهذا جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه إذا أرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه ينفخ فيه الروح، فالروح تأتيه وهو في بطن أمه، وليست في مستودع كما ذكر ذلك ابن حزم ، وهذه المسألة مسألة طويلة الذيل.

    المسألة الرابعة: هي مسألة قيام الحجة، وبعض الناس اعتقد أن هذا الميثاق يكفي في قيام الحجة على الناس، وقال: إن الناس قد قامت عليهم الحجة بمجرد الميثاق، ولهذا لو لم يبعث الله سبحانه وتعالى رسولاً فإن الفطرة قائمة في نفوسهم منذ أن أخذ عليهم الميثاق، وهي حجة كافية في تعذيبهم لو لم يوحدوا.

    والصحيح: أن الميثاق هو مجرد زيادة بيان وليس هو لوحده كافياً في قيام الحجة على الناس، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]. هذه مسألة الميثاق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086928108

    عدد مرات الحفظ

    769561094