إسلام ويب

مفهوم الافتراقللشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حذر الإسلام من الفرقة والافتراق، وبين مخاطره على الفرد والمجتمع، وما تسلط علينا أعداء الإسلام إلا بسبب الافتراق في الدين، والانحراف عن النهج القويم، والصراط المستقيم، الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأسباب الافتراق ومظاهره كثيرة، لاسيما في عصرنا الذي كثرت فيه البدع وبدأت ترفع رأسها، فينبغي على كل مسلم غيور على دينه وأمته أن يسعى حثيثاً لدرء أسباب ومظاهر الافتراق والاختلاف، وذلك بالتمسك بمنهج السلف الصالح، والالتفاف حول علماء الأمة، والصدور عن رأيهم فيما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.

    1.   

    تعريف الافتراق ومفهومه لغة واصطلاحاً

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الذي حذر أمته بقوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).

    وبعد:

    فإن من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يعنى بها أهل العلم وطلابه في هذا العصر، والتي أحوج ما يحتاج إليها المسلمون بعامة وطلاب العلم بخاصة مسألة: الافتراق.

    الافتراق مفهومه وأسبابه، وسبل التوقي منه، والحذر من الوقوع فيه، لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه البدع وظهرت وأخرجت أعناقها، وكثرت فيه الأهواء وسيطرت على الناس، وكثر فيه الخبث والنفاق، وكادت رسالة الإسلام أن تكون في غربة مع كثرة العلم وانتشاره، إلا أنه علم لا يفيد الكثيرين ممن تلقوه؛ لأنه إما أن يكون تلقيه عن غير المصادر الأصلية، أو عن غير منهج أهل العلم والفقه في الدين، وكثرة وسائل العلم رغم أنها نعمة إلا أنها قد أضرت كثيراً من الناس، حيث اكتفوا بها عن أخذ العلم عن أهله، وهو الأصل الذي هو سبيل المؤمنين، لهذا فإني سأتحدث بما يتيسر إن شاء الله عن الافتراق مفهومه وأسبابه، وسبل التوقي منه بقدر ما يتسع له الوقت إن شاء الله.

    وسأحصر الحديث هذا الموضوع على خمس مسائل:

    المسألة الأولى: مفهوم الافتراق.

    الافتراق في اللغة: من المفارقة، وهي المباينة والمفاصلة والانقطاع، والافتراق مأخوذ من الانشعاب والشذوذ، ومنه الخروج عن الأصل، والخروج عن الجادة، والخروج عن الجماعة.

    وفي الاصطلاح: الافتراق: هو الخروج عن السنة والجماعة في أي أصل من أصول الدين القطعية أو أكثر، سواء كانت الأصول الاعتقادية، أو الأصول العملية المتعلقة بالقطعيات، أو المتعلقة بمصالح الأمة العظمى أو بهما معاً.

    فمخالفة أهل السنة والجماعة في أصل من أصول الدين افتراق، ومخالفة إجماع المسلمين افتراق، ومخالفة جماعة المسلمين وإمامهم فيما هو من المصالح الكبرى افتراق، والخروج عن جماعة المسلمين افتراق، وكل كفر أكبر يعد افتراقاً، وليس كل افتراق كفراً.

    كل كفر يخرج به الإنسان عن الإسلام وعن السنة والجماعة فإنه مفارقة، لكن ليس كل افتراق كفراً، بمعنى أنه قد يقع الافتراق من طائفة أو فريق من الناس أو جماعة، لكن لا توصف بالكفر، حتى وإن افترقت عن جماعة المسلمين في عمل ما، كافتراق الخوارج، فالخوارج الأولون افترقوا عن الأمة، وخرجوا عليها بالسيف، وأيضاً فارقوا جماعة المسلمين وإمامهم، ومع ذلك لم يحكم الصحابة بكفرهم.

    1.   

    الفرق بين الاختلاف والافتراق

    المسألة الثانية: الفرق بين الاختلاف والافتراق.

    وهذا أمر مهم جداً، وينبغي أن يُعنى به أهل العلم؛ لأن كثيراً من الناس خاصة بعض الدعاة وبعض شباب الصحوة الذين لم يكتمل فقههم في الدين، لا يفرقون بين مسائل الخلاف ومسائل الافتراق، ومن هنا قد يرتب بعضهم على مسائل الاختلاف أحكام الافتراق، وهذا خطأ فاحش أصله الجهل بأصول الافتراق، ومتى يكون؟ وكيف يكون؟ ومن الذي يحكم بمفارقة شخص أو جماعة ما؟

    من هنا كان لابد من ذكر بعض الفروق بين الاختلاف وبين الافتراق، وسأذكر خمسة فروق على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:

    الفرق الأول: أن الافتراق أشد أنواع الاختلاف، بل هو من ثمار الخلاف، إذ قد يصل الخلاف إلى حد الافتراق وقد لا يصل، فالافتراق اختلاف وزيادة، لكن ليس كل اختلاف افتراقاً، وينبني على هذا الفرق الثاني.

    الفرق الثاني: وهو أنه ليس كل اختلاف افتراقاً بل كل افتراق اختلافاً.

    الفرق الثالث : أن الافتراق لا يكون إلا على أصول كبرى من أصول الدين التي لا يسع الخلاف فيها، والتي ثبتت بنص قاطع أو بإجماع، أو استقرت منهجاً عملياً لأهل السنة والجماعة لا يختلفون عليه، فما كان كذلك فهو أصل، ومن خالف فيه فهو مفترق، أما ما دون ذلك فإنه يكون من باب الاختلاف.

    فالاختلاف يكون فيما دون الأصول مما يقبل التعدد بالرأي، ويقبل الاجتهاد، ويحتمل ذلك كله، وتكون له مسوغات عند قائله، أو يحتمل فيه الجهل والإكراه والتأول، وذلك في أمور الاجتهاديات والفرعيات، والفرعيات أحياناً قد تكون في بعض مسائل العقيدة التي يتفق على أصلها، ويختلف على جزئياتها.

    الفرق الرابع : أن الاختلاف قد يكون عن اجتهاد وعن حسن نية، ويؤجر عليه المخطئ ما دام متحرياً للحق، والمصيب أكثر أجراً، وقد يحمد على الاجتهاد أيضاً، أما إذا وصل إلى حد الافتراق فهو مذموم كله، بينما الافتراق الذي لا يكون عن اجتهاد ولا عن حسن نية فصاحبه لا يؤجر بل هو مذموم، وهو لا يكون إلا عن ابتداع أو عن اتباع هوى.

    الفرق الخامس : أن الافتراق يتعلق به الوعيد، وكله شذوذ وهلكة، أما الاختلاف فليس كذلك مهما بلغ الخلاف بين المسلمين في أمور يسع فيها الاجتهاد، أو يكون صاحب الرأي المخالف له مسوغ، أو يحتمل أن يكون قال الرأي المخالف عن جهل ولم تقم عليه الحجة، أو عن إكراه قد لا يطلع عليه أحد، أو عن تأول ولا يتبين ذلك إلا بعد إقامة الحجة.

    1.   

    ذكر الأخطاء الواقعة بسبب عدم التفريق بين الاختلاف والافتراق

    بمناسبة الفرق بين الاختلاف والافتراق لابد من التنبيه على بعض الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس في هذا العصر، خاصة الذين يواجهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مع ضعف في العلم.

    فمن هذه الأخطاء:

    إنكار وجود الافتراق في الأمة

    الخطأ الأول: إنكار أن يكون في الأمة افتراق، وينبني عليه أيضاً نزوع بعضهم إلى إنكار حديث الافتراق الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام عنه تفصيلاً بعد قليل، وهذا خطأ فادح، والمنكر لذلك يزعم أنه يريد إظهار حسن النية في الأمة، ومعاملة الأمة بالظاهر، ومن هنا يتنكر لحديث الافتراق أو يؤوله، أو يصرف الافتراق إلى فرق خارجة عن الإسلام قطعاً، أو إلى فرق في الأمة هي من غير المسلمين، وهذا خطأ فادح، بل هو معارضة صريحة لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بل الأخبار القاطعة في الكتاب والسنة تدل على وقوع الافتراق، فالأمة فعلاً فيها افتراق وهذا حق، والافتراق من الابتلاء، والحق لا يتبين إلا بضده.

    والله سبحانه وتعالى كتب منذ الأزل ألا يبقى على الحق إلا الأقلون، وعلى هذا فإن القول بوقوع الافتراق لا يعد إساءة ظن بالأمة، بل هو أمر واقع لابد من الاعتراف به، ولابد من تصديق خبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه كما أخبر، وكون الافتراق يقع في الأمة لا يعني أن الإنسان يُسلم بالأمر الواقع، أو يرضى بأن يفارق أو لا يتحرى الحق ولا يبحث عنه، بل إن وقوع الافتراق هو دافع لكل مسلم بأن يتحرى الحق، وليعلم أن الحق متحدد في نهج النبي صلى الله عليه وسلم وفي نهج صحابته ونهج السلف الصالح.

    التسليم السلبي بوجود الافتراق في الأمة يبرر الإقرار بالبدع والوقوع فيها

    الخطأ الثاني: وهذا الخطأ أيضاً قد يتخذ ذريعة للمفارقة، وهو يقابل الخطأ الأول ويضاده، وهو اعتقاد أن المفارقة ما دامت أمراً واقعاً فهذا يعني أن الأمة تقع فيه برضاً وتسليم، وأنه لا يضر المسلم أن يكون مع أي فريق كان؛ لأن المفارقة أمر واقع، فعلى المسلم أن يذهب مع من يعجبه من أهل الأهواء وأهل الفرق.

    وهذه دعوى باطلة، بل هي تلبيس على المسلمين، فلا يجوز أن يكون الخبر عن الاختلاف ذريعة للمفارقة، أو ذريعة للرضا بالبدع وبالأهواء وبالخطأ؛ حتى وصل الأمر عند بعض من ينتسبون للدعوة أن يقول: ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الأمة ستفترق، فإذاً لابد أن نرضى بالبدع ونقرها أمراً واقعاً، ونرضى بالأهواء ونقرها أمراً واقعاً، ونسلم للأمر الواقع، ولنعرف أنه لا ديـن إلا بدخن! وهذه دعوى باطلة، بل هي من مداخل الشيطان على الإنسان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أخبر عن الافتراق أخبر بأنه ستبقى طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرة منصورة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذه الطائفة تقوم بها الحجة، ويهتدي بها من أراد الهدى، ويقتدي بها من أراد الحق والخير.

    فإذاً: الحجة لابد أن تكون قائمة، والحق لابد أن يظهر، ولا يمكن أن يخفى على ذي بصيرة، ولا على من يريد الحق ويسعى إليه.

    فمن هنا كان الرضا بالبدع والأهواء على أنها أمر واقع لا يجوز شرعاً، بل هو تلبيس على المسلمين، وهو أيضاً إقرار بالباطل.

    الاستعجال في وصف المخالفين بالخروج والمفارقة والبدعة

    الخطأ الثالث: الذين يجعلون من الاختلاف ذريعة في وصف المخالفين بالخروج والمفارقة والمروق، وما يستتبع ذلك من الاستعجال في الحكم على المخالفين، حتى من مرتكبي البدع والأهواء دون تثبت من ترتيب الأحكام عليهم بالكفر أو بالبراء والبغض والهجر، والتحذير من المخالف مطلقاً دون التثبت ودون إقامة الحجة، أعني بذلك أنه لا ينبغي لكل من رأى بدعة في شخص أن يصفه بالمفارقة، ولا كل من رأى أمراً مخالفاً للشرع والدين والسنة أن يصفه بالمفارقة والمخالفة؛ لأن من الناس من يجهل الأحكام، والجاهل معذور حتى يعلم، ومن الناس من يكون مكرهاً في بيئة أو في مكان ما، كما يحدث في بعض البلاد الإسلامية التي يُكره فيها المسلمون على حلق اللحى، أو على ممارسة بعض الأعمال التي لا تجوز شرعاً، ويكرهون بذلك ولو لم يفعلوا لقتلوا، أو عذبوا، أو انتهكت أعراضهم.. أو نحو ذلك.

    إذاً: عارض الإكراه لابد أن يرد في ذهن الحاكم على الناس بأي حكم من الأحكام، ثم أيضاً لابد من إقامة الحجة على الناس، بمعنى أنه قد يرى أحد منا إنساناً يرتكب بدعة من البدع التي عادة إنما يرتكبها أهل الافتراق كبدعة الموالد مثلاً، فإذا فعلها إنسان عامي جاهل فلا يعني أن يوصف بالافتراق حتى يُبيّن له الأمر، أما الابتداع فيوصف فعله بالابتداع، لكن لا يوصف بأنه مفارق أو أنه خارج عن الجماعة، أو أنه من الفرق الهالكة بمجرد رؤية بدعة أظهرها حتى تقام عليه الحجة، اللهم إلا البدع المكفرة، وليس المقام هنا يتسع للكلام عنها.

    إذاً: اتهام الناس بالمفارقة للدين فيما هو دون الأصول من البدع والمخالفات والمحدثات هذا لا يجوز، بل هو من التعجل، وينبغي على من رأى شيئاً من ذلك أن يتثبت وأن يسأل أهل العلم.

    الجهل بما يسع فيه الخلاف وما لا يسع

    الخطأ الرابع : الجهل بما يسع فيه الخلاف وما لا يسع، يعني: عدم التفريق عند كثير من المنتسبين للإسلام، بل من المنتسبين للدعوة، عدم التفريق بين ما هو من أمور الخلاف، وما هو من الأمور التي ليس فيها خلاف، وأضرب لذلك أمثلة:

    الأول: هناك من الناس من يعد المسائل الخلافية من القطعيات والأصول، دون أن يرجع إلى أصول أهل العلم وإلى أقوالهم، أو دون أن يهتدي بأهل الفقه في الدين الذين يبصرون في هذه الأمور.

    الثاني: عدم التفريق بين الأصول المكفرة وبين البدعيات الكبار، أو البدعيات المخرجة من الدين أو المكفرة وبين الحادثة التي تحدث من الأشخاص، أو من الهيئات أو من الجماعات، وأقصد بذلك أن بعض الناس إذا عرف بأصل من الأصول التي تكفر، كالقول مثلاً بأن القرآن مخلوق، إذا عرضوا هذا الأصل طبَّقه على كل قائل بهذه المقولة دون الأخذ بأحكام التكفير، وهكذا في بقية المسائل، بمعنى عدم التفريق بين الأصل وبين الحكم على المعين، وهذا أمر مخالف لأصول السلف وأصول أهل السنة والجماعة.

    أهل السنة والجماعة يفرقون بين الأحكام، الأحكام بالكفر، والأحكام بالفسق ، والأحكام بالتبديع.. وغير ذلك، وبين الحكم على المعين، فقد نحكم على شيء ما بأنه كفر، ونحكم على مقولة ما من المقولات بأنها كفر، وهذا لا يعني أن كل من فعل هذا الكفر يكفر، ولا كل من قال بهذا القول يكفر، أقول: هناك كثيرون لا يفرقون في هذه المسائل فيكفرون باللوازم ودون الأخذ بأحكام التكفير؛ لأن الكفر لا يجوز إطلاقه حتى التثبت وبيان الحجة وإقامتها، وبيان الدليل ومعرفة عدم وجود الجهل، وعدم وجود الإكراه، وعدم وجود التأول.

    وهذه مسألة تحتاج إلى مقامات طويلة، وإلى مقابلة للأشخاص، وإلى جلوس معهم، وإلى نقاش ونصيحة، أما أن نرتب أحكام الكفر على كل من ظهرت منه حالة كفر، أو مقولة كفر، أو اعتقاد كفر، فهذا لا يجوز إلا في الأمور الكبرى التي تعلم من الدين بالضرورة، مثل إنسان أنكر شهادة أن لا إله إلا الله، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، أو أنكر شهادة أن محمداً رسول الله، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، أو من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، لكن هناك ما هو دون ذلك من أصول الدين كمسائل الصفات، مسائل القدر، مسائل الرؤية والشفاعة، مسائل الصحابة.. وغير ذلك من الأمور التي لا يعلمها العامة.

    بل تخفى حتى على بعض من ينتسبون إلى العلم ، تخفى عليهم تفصيلاً، وربما يتلفظ بعضهم بلفظ كفر وهو لا يشعر، أو وهو لا يدري، أو لم يتمعن العبارة، فهل هذا يحكم بكفره؟ لا.

    إذاً: من أشد الأخطاء التي يقع فيها كثيرون من الذين يتعرضون للحكم على الناس خاصة صغار طلاب العلم، والأحداث منهم الذين لم يتفقهوا في الدين على أهل العلم، إنما أخذوا العلوم، الشرعية عن الكتب والوسائل دون اهتداء، ودون اقتداء، ودون مراعاة للأصول، ولا معرفة بأصول الاستدلال وأصول الأحكام، فهؤلاء يقع بعض منهم في هذه المسائل الخطيرة، وهي عدم التفريق بين الأصول وبين تطبيق الأصول على الجزئيات والحوادث والنوازل.

    فأحكام الكفر والتكفير لا تعني تكفير كل شخص يقول بها أو يعملها أو يعتقدها، وأحكام الولاء والبراء لا تعني تطبيق هذا الولاء والبراء على كل من يظهر منهم ذلك حتى التأكد، أقصد بذلك البراء بخاصة، أما الولاء فهو الأصل.

    كذلك عدم اعتبار المصالح والمفاسد، أو الجهل بقواعد المصالح والمفاسد في هذا الجانب، وهي أساس كبير من أسس الخطأ في هذا الجانب.

    1.   

    وقوع الأمة في الافتراق

    المسألة الثالثة : وقوع الأمة في الافتراق.

    هذه المسألة محسومة بأمور:

    الأول: الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الافتراق في هذه الأمة، من ذلك حديث الافتراق: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، هذا حديث مشهور للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه جمع من الصحابة، ورواه أيضاً الأئمة العدول الثقات في السنن، كالإمام أحمد ، وكـأبي داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، وابن حبان ، وأبي يعلى الموصلي ، وابن أبي عاصم ، وابن بطة ، والآجري ، والدارمي ، واللالكائي .

    كما صححه جمع من أهل العلم، كـالترمذي ، والحاكم ، والذهبي ، والسيوطي ، والشاطبي ، وأيضاً للحديث طرق حسنة كثيرة جداً بمجموعها تصل إلى حد الجزم بصحته، هذا أمر، وأمر آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بخبر آخر: أن الأمة ستتبع الأمم السابقة، وهو الحديث الصحيح المتفق عليه في الصحاح والسنن: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة).

    الثاني: هذا الحديث أيضاً فسر بنصوص وألفاظ كثيرة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، وقوله: (شبراً بشبر وذراعاً بذراع)، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر على سبيل التحذير أن الأمة ستقع في الافتراق حتماً، وأن وقوعها أمر واقع يبتلي الله به هذه الأمة، وليس وقوع الافتراق ذماً إلا للمفترقين، ليس هو ذماً على الإسلام، ولا ذماً على أهل السنة والجماعة وأهل الحق، إنما هو ذم للمفترقين، والمفترقون ليسوا هم أهل السنة والجماعـة.

    أهل السنة والجماعة هم الباقون على الأصل، وهم الباقون على الإسلام، وهم الذين أقام بهم الله الحجة على الناس إلى قيام الساعة.

    إذاً: الافتراق واقع حتماً، وهو أمر حتى لو لم يشهد به الواقع، وتشهد به العقول، فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق وألفاظ عديدة؛ لذلك ورد التحذير منه، وإذا كثر التحذير دل على أن الأمر واقع أو سيقع.

    الثالث: النصوص الواردة تتضمن التحذير، من ذلك قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

    وقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية شرحاً بيناً مفصلاً، بأن خط خطاً طويلاً مستقيماً ثم خط خطوطاً تتفرع عن هذا الخط وتخرج عنه، فقال: إن هذا صراط الله، وهذه السبل هي التي تخرج عن الصراط المستقيم.

    وكذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن التنازع فقال: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].

    وكذلك توعد الله سبحانه وتعالى الذين يخرجون عن سبيل المؤمنين: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، نسأل الله العافية.

    وسبيل المؤمنين هو سبيل أهل السنة والجماعة.

    كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب أحكاماً على المفارقة بدليل أنها ستقع، إضافة إلى إخباره عن الخوارج، وأنهم سيخرجون عن هذه الأمة، وأنهم يمرقون، والمروق لا يعني الكفر والخروج من الملة قطعاً، إنما المروق من أصل الإسلام الذي هو جماعته، والسنة التي عليها أهل السنة.

    وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المفارق للجماعة، وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات مفارقاً للجماعة مات ميتة جاهلية، وأن الفرقة عذاب، وأن الشذوذ هلكة، وغير ذلك من الأمور والمعاني التي تدل على أن الفرقة واقعة، والتحذير منها لم يكن عبثاً؛ إنما لأنها ستقع ابتلاء، ولا تقع إلا والناس على بصيرة، يعرفون الحق وهو موجود في الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، ويميزون بين الحق والباطل، فمن اهتدى اهتدى على بصيرة، ومن ضل ضل على علم، نسأل الله العافية.

    1.   

    تاريخ الافتراق في الإسلام

    المسألة الرابعة: تاريخ الافتراق في الإسلام، وهذا مفيد؛ لأن فيما حدث في أول الإسلام عبرة، ولا أستطيع أن أتكلم عن تاريخ الافتراق تفصيلاً، لكني سأقف على بعض النقاط التي هي موطن عبرة، والتي لابد من تصحيح المفهوم فيها، فيما أخطأ فيه كثير من الناس في العصر الحاضر:

    أولاً: أول عقائد الافتراق التي ظهرت في الأمة هي العقائد السبئية عقائد الشيعة، فأول ما سمع الصحابة من عقائد الافتراق والفرقة بين المسلمين هي عقائد السبئية، وقد قال بها شخص اختلف في اسمه، والأشهر أنه عبد الله بن سبأ ، فقال بها بين المسلمين فاعتنقها كثير من المنافقين، ومن الكائديـن الذين كادوا للإسلام، ومن الجهلة، ومن الموتورين الذين ظهر الإسلام على بلادهم وعلى أديانهم، فاعتنقوا مقولات ابن سبأ فسارت بين المسلمين سراً حتى ظهرت منها: الشيعة، والخوارج.

    هذا بالنسبة لأول العقائد التي ظهرت بين المسلمين تخالف أصول الإسلام وتشمل سائر أمور العقيدة.

    أما أول الفرق ظهوراً وافتراقاً عن إمام المسلمين وعن جماعتهم فهي الخوارج، والخوارج نابتة نبتت من السبئية، الخوارج هي فرقة سبئية، وبعض الناس يظن أن السبئية شيء والخوارج شيء آخر، لا، الخوارج هم نبتة من نبتات السبئية النكدة، وكذلك الشيعة نبتة من نبتات السبئية النكدة، والسبئية افترقت إلى فرقتين رئيسيتين: هي الخوارج، والشيعة.

    رغم ما بين الخوارج والشيعة من بعض الفوارق، إلا أن الأصل واحد، وأصل ذلك الفتنة على عثمان رضي الله عنه التي أثارها ابن سبأ بأفكاره وعقائده وأعماله، فانبجست منها أخبث العقائد: وهي الخوارج، والشيعة.

    والفرق بين الشيعة والخوارج أيضاً صنعه المبطلون، بمعنى أن ابن سبأ بذر بذوراً تناسب طائفة الخوارج، وبذوراً أخرى تناسب طائفة الشيعة، وجعل بينهما شيئاً من العداء لتفترق الأمة كما يحدث الآن، أو كما صنع أعداء الإسلام ضد المسلمين ما يسمى بلعبة اليمين واليسار، قسموا المسلمين إلى أحزاب، هذا أحزاب يمين وهذه أحزاب يسار، وهذه اللعبة واحدة، ومنشؤها واحد، وأصل القائلين بها واحد، هذا أمر.

    وأمر آخر لابد من التنبيه عليه: وهو أنه في تاريخ الافتراق لم يحصل من الصحابة أفترق ألبتة، وما حصل بين الصحابة إنما هو خلافات كانت تنتهي إما بالإجماع، وإما بالخضوع لرأي الجماعة والالتفاف حول الإمام، هذا هو ما حصل بين الصحابة، ولم يحصل من صحابي أن افترق عن الجماعة، فالصحابة الأئمة المقتدى بهم في الدين لم يحصل من أحد منهم أنه فارق الجماعة أبداً، ولم يحصل أن أحداً منهم أيضاً يُعد قوله أصلاً في البدع، ولا أصلاً في الافتراق، والذين نسبوا بعض المقولات أو بعض الفرق إلى بعض الصحابة إنما افتروا عليهم أكبر فرية، ولا صحة لما يقال: من أن علي بن أبي طالب هو أصل التشيع، أو أن أبا ذر هو أصل الاشتراكية، أو أن فلاناً من الصحابة هو أصل كذا، كل ذلك إنما هو من الباطل المحض.

    ثم إن الافتراق لم يحدث إلا بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وحينما حدثت الفتنة بين المسلمين خرجت خارجة الخوارج، وخارجة الشيعة، أما في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر ، بل حتى في عهد عثمان لم يحدث افتراق ألبتة.

    ثم إن الصحابة قاوموا الافتراق، ولا يظن ظان أن الصحابة غفلوا أو جهلوا، أو أنهم لم يتنبهوا لمسائل الافتراق، سواء كانت أفكاراً أو عقائد أو مواقف أو أعمالاً، بل وقفوا ضد الافتراق أشد الوقوف، وأبلوا في ذلك بلاء حسناً بحزم وقوة، لكن أمر الله لابد أن يقع.

    من المناسب أن أشير إلى أصول البدع التي انبثقت عنها الفرق، ثم انبثق عنها الافتراق، وأقصد بذلك الأشخاص الذين تولوا كبر ذلك وصاروا أئمة ضلالة إلى يوم القيامة، وبعدهم انفتح باب الافتراق، وكثر المضللون.

    أول أولئك: عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ادعى الإسلام، وأتباعه وأشياعه كثر، فقد جمع بين بدعة الخوارج وبدعة السبئية.

    ثم بعد ذلك ظهرت بدعة القول بالقدر، وأول من قال بها على نحو معلن وصار له أتباع هو معبد الجهني ، لكن بدعته لم تكن على الحد الذي كانت عليه فيما بعد من الانحراف والخطورة.

    ثم جاء بعده غيلان الدمشقي الذي تولـى إثارة كثير من القضايا حول القدر، وأيضاً حول التأويل والتعطيل.

    وغيلان بعدما استتيب ولم يتب قتل.

    ثم جاء بعده الجعد بن درهم فتوسع في هذه المقولات، وجمع بين مقولات القدرية، ومقولات المعطلة والمؤولة، وأثار الشبهات بين المسلمين، حتى انبرى له كثير من السلف واستتابوه ولم يتب، وجادلوه وأقاموا عليه الحجة فلم يرجع، فلما افتتن به الناس حكم بضرورة قتله درءاً للفتنة، فقتله خالد بن عبد الله القسري في قصته المشهورة، حينما قال بعد خطبته في عيد الأضحى ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم ؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً.. إلى آخره من المقولات، فعدها ثم نزل من المنبر وقتله مرتداً.

    ثم بعد ذلك انطفأت الفتنة بعض الوقت، حتى ظهرت على يد الجهم بن صفوان ، وهذا أيضاً جمع بين مساوئ الأولين وضلالاتهم وزاد عليها، وخرجت عنه بدعة الجهمية، وبدع الجهمية وقولها كفريات.

    ثم ظهر في وقته واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وهذان هما أصل المعتزلة.

    ثم انفتح باب الافتراق فبدأت الرافضة تعلن عقائدها، وانقسمت إلى فرق كثيرة، وظهرت المشبهة من الرافضة على يد داود الجواربي وهشام بن الحكم وهشام الجواليقي ، وهؤلاء هم أصول المشبهة الأوائل، وهم رافضة.

    ثم جاء المتكلمون، ثم المتصوفة والفلاسفة، فانفتح باب الافتراق على مصراعيه لكل ضال ومبتدع ومتبع للهوى، وبقيت أصول الفرق بين المسلمين حتى اليوم.

    لا تزال أصول الفرق بين المسلمين باقية حتى يومنا هذا، بل تتجدد بدع وحوادث جديدة تضيف إلى الافتراق افتراقاً جديداً، بحسب أهواء الناس وتمرسهم في البدع والضلالات.

    1.   

    أسباب الافتراق

    المسألة الخامسة: أسباب الافتراق.

    لو حاولنا أن نستقرئ أسباب الافتراق منذ أن بدأ حتى يومنا هذا لوجدناها كثيرة جداً لا تكاد تحصى، وكلما تجددت للناس أفكار وثقافات وأعمال تجددت للناس أسباب للافتراق، لكن هناك أسباب كبرى رئيسة، وتكاد تتفق عليها أصول الفرق قديماً وحديثاً، ألخصها فيما يلي:

    كيد اليهود والنصارى والمنافقين والزنادقة وغيرهم

    أول أسباب الافتراق وأشدها نكاية على الأمة: كيد الكائدين بأصنافهم من أهل الديانات، كاليهود والنصارى والصابئة والمجوس، وكذلك من الموتورين الذين حقدوا على الإسلام والمسلمين؛ لأن الجهاد قضى على دولتهم، ومحا أديانهم من الأرض، فهؤلاء بقوا على حقدهم للدين والإسلام، وآثروا النفاق والزندقة على أن يبقوا على دياناتهم؛ حفظاً لرقابهم، أو للتعايش مع المسلمين، وهؤلاء هم أشد المعاول فتكاً بالمسلمين، والكيد لهم بدس الأفكار والمبادئ المنحرفة والبدع والأهواء بينهم .

    كذلك كيد المنافقين وهذا يشمل أولئك وغيرهم، وكيد أهل الفساد وأهل الملل والزندقة.

    أهل الأهواء والمصالح والأغراض الشخصية

    السبب الثاني: أهل الأهواء الذين يجدون مصالح شخصية أو شعوبية في الافتراق، فكثير من أتباع الفرق ممن يجدون في الفرق تحقيقاً لمصالح شخصية إما شهوات وإما أهواء وإما أغراض عصبية أو شعوبية أو قبلية.. أو غيرها، وربما بعضهم يقاتل لهذا الأمر لهوى أو لعصبية، فهم الذين يكثِّرون أتباع الفرق، ويجتمعون حولهم لتحقيق هذه المصالح، وهذه الطائفة موجودة في كل زمان وفي كل مكان، متى ما ظهر في الناس رأي شاذ أو بدعة أو صاحب هوى، فإنه يجد من الغوغاء ومن أصحاب الأهـواء والشهوات والأغراض الشخصية من يتبعه لتحقيق ذلك.

    الجهل

    السبب الثالث: الجهل، والجهل يشمل كل الأسباب، لكن الجهل هو مدخل لأصحاب الأهواء على الجهلة، وأيضاً الجهل هو قد يوقع صاحبه في البدعة، والجهل هو عدم التفقه في الدين وليس مجرد عدم تحصيل المعلومات، والإنسان بإمكانه أن يحصل ما يحصن به نفسه وما يحفظ به دينه من العلم، ويكون بذلك عالماً بدينه ولو لم يتبحر في العلم، والعكس كذلك، قد يوجد من الناس من يعلم الشيء الكثير، وذهنه محشو بالمعلومات، لكنه يجهل بدهيات الأصول الشرعية، مثل: أحكام الخلاف، وأحكام الافتراق، وأحكام التعامل مع الآخرين، وهذه مصيبة كبرى أصيب بها كثير من الناس اليوم، تجد الواحد منهم لديه معلومات شرعية أخذها من مصادر كثيرة، لكن تجده جاهلاً في أحكام الخلاف والحكم على الآخرين، وفي أحكام التعامل مع الناس، وفي أحكام الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيفسد من حيث لا يشعر، فالجهل مصيبة والجهل سبب رئيسي لوجود الافتراق، والجهلاء هم مادة الفرق وهم وقودها.

    الخلل في منهج تلقي الدين

    السبب الرابع : الخلل في منهـج تلقي الدين، وأقصد بذلك أنه قد يوجد لدى كثير من الناس كما أسلفت علم، وقد يطلع على كثير من الكتب، لكن عنده خلل في منهج تلقي الدين؛ لأن تلقي الدين له منهج مأثور منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وسلف الأمة، واقتفاه أئمة الهدى إلى يومنا هذا.

    وهذا المنهج إنما هو علم واهتداء واقتداء وسلوك، وهو يتعلق بالقواعد الشرعية والأصول العامة، أكثر مما يتعلق بفرعيات الأحكام أو بكميات النصوص.

    1.   

    مظاهر الخلل في منهج التلقي

    هذه مظاهر الخلل في منهج التلقي وبوضوح هذه المظاهر يتبين المقصود منها.

    أخذ العلم من غير أهله

    أولاً: أخذ العلم عن غير أهله، وأقصد بذلك أن الناس صاروا يأخذون العلم عن كل من دعاهم إلى التعلم، وكل من رفع على نفسه فوق رأسه راية الدعوة وقال: أنا داعية، جعلوه إماماً في الدين وتلقوا عنه، وقد لا يفقه من الدين شيئاً.

    فلذلك ظهرت في العالم الإسلامي دعوات كبرى ينضوي تحت لوائها ملايين من الناس خاصة الشباب، وأئمتها جهلة في بدهيات الدين، فيفتون بغير علم، ويَضلون ويُضلون، وسبب ذلك أنهم وجدوا أتباعاً لهم يأخذون عنهم دون ترو ودون تثبت، ودون منهج صحيح، لا يتثبتون هل هم أهل للتلقي أم لا؟ ثم أيضاً الناس تجذبهم العواطف أكثر مما يجذبهم العلم والفقه، وهذا خطأ فادح، بمعنى أنه بمجرد أن يظهر الداعية وتكون له شهرة وأثر في الناس يجعله الناس إماماً في الدين، حتى لو لم يعلم شيئاً، وهذا خطأ فادح، بل لا ينبغي أن يتصدر الدعوة إلى الله ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا العلماء الأجلاء الذين يفقهون الدين، ويأخذونه من أصوله على منهج سليم صحيح، وإلا فليس كل من حُشي ذهنه يكون إماماً في الدين؛ لأنه قد يوجد من الفسقة بل قد يوجد من الكفرة من يعلم من فرعيات الدين الشيء الكثير، ووجد من المستشرقين من يحفظ بعض الكتب الكبيرة في الفقه الإسلامي، بل حتى منهم من يحفظ القرآن، ويحفظ صحيح البخاري ، ويحفظ بعض السنن.

    ووجد من المستشرقين منذ سنين من يحفظ المغني في الفقه الحنبلي تسعة مجلدات، فهذا يحفظ العلم، لكن لا يفقه من الدين شيئاً، وقد يكون هناك مثله ممن يدعي الإسلام، قد يكون عنده من المعلومات الشيء الكثير، لكن لا يفقه منهج التلقي، ولم يأخذ الدين عن منهجه الصحيح، فصار يفتي بغير علم.

    الاستقلالية عن العلماء والأئمة

    من مظاهر الخلل في منهج التلقي والذي هو سبب للافتراق: الاستقلالية عن العلماء والأئمة، أي: استقلالية بعض المتعلمين الأحداث عن العلماء، فيكتفون بأخذ العلم عن الكتاب والشريط والمجلة والوسيلة، ويعزفون عن التلقي عن العلماء، وهذا منهج خطير، بل هو بذرة خطيرة للافتراق، ولو رجعنا إلى أسباب الافتراق في أول تاريخ الإسلام -افتراق الخوارج والرافضة- لوجدنا أن من أهم أسباب وجود هذا الافتراق فيمن ينتسبون للإسلام، وأعظم أسباب هلاكهم وافتراقهم هو انعزالهم عن الصحابة، وأخذهم العلم عن أنفسهم، قالوا: علمنا القرآن وعلمنا السنة فلسنا بحاجة إلى الرجال، وهذا حق أريد به باطل.

    فمن هنا استقلوا عن منهج التلقي الصحيح المأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوة والاهتداء، والذي أخذ عن الصحابة وعن السلف بهذا الطريق هم العدول جيلاً عن جيل.

    كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأخذ هذا العلم من كل خلف عدوله)، والعدول: هم الثقات الذين يأخذون الدين وينقلونه إلى الآخرين.

    والاستقلالية خطر كبير جداً؛ لأن العلم إنما تكون بركته وتلقيه الصحيح عن العلماء، والعلماء لا يمكن أن ينقطعوا في أي زمان.

    ودعوى بعض الناس أن في العلماء نقصاً وتقصيراً هذه دعوى مضللة، نعم العلماء بشر لا يخلون من نقص وتقصير، لكنهم مع ذلك هم القدوة، وهم الذين جعل الله أخذ الديـن عن طريقهم، وهم أهل الذكر، وهم الراسخون، وهم أئمة الهدى، وهم المؤمنون الذين من تخلف عن سبيلهم هلك، وتلقي العلم عن غير أهله خطر على صاحبه وعلى الأمة.

    ازدراء العلماء واحتقارهم والتعالي عليهم

    ثالثاً من مظاهر الخلل: ازدراء العلماء واحتقارهم والتعالي عليهم، وهذه مظاهر شاذة مع الأسف بدأنا نرى نماذج منها، وهذا أمر خطير يجب أن نتناصح فيه، وما لم يعالجه طلاب العلم والعلماء فالأمر خطير.

    التتلمذ الكامل على الأحداث وصغار طلاب العلم

    رابعاً: تتلمذ الأحداث -أي: صغار السن- على بعضهم، أو على طلاب العلم الذين هم دون من هم أعلم منهم، بمعنى التتلمذ الكامل، ولا أقصد بذلك أنه لا يجوز أخذ العلم عن أي طالب علم ، من أجاد أي علم من العلوم الشرعية أخذ عنه، لكن لا يعني الاستغناء به عمن هو أعلم منه، فمكمن الخطر أن يستغني بعض الشباب في أخذ علمه وقدوته وسلوكه وهديه ببعض طلاب العلم عـن العلماء الذين هم أجل وأكبر وأعلم، وهذا مسلك خطير، بل أخطر منه أن يكون بعض الصغار شيوخاً لبعض في العلم، ولا أقصد بذلك عدم وجود المجالسة والمخالطة والمشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، هذا أمر مطلوب، والاجتماع على ذلك مطلب شرعي ضروري، لكن أقصد تلقي العلم بهذه الطريقة، والاستغناء به عن أخذه عن العلماء.

    إذاً: هذا مسلك خطير، وهو من أسباب وجود الافتراق؛ لأنه يؤدي إلى حصر أخذ الدين عن أناس معينين، والتحزب لهم، والتعصب لهم، ومن ثم تكون هذه بذور للافتراق.

    اعتبار اتباع الأئمة على هدى وبصيرة من التقليد

    خامساً: اعتبار اتباع الأئمة على هدى وبصيرة تقليد، وهذه شنشنة ها كثيراً من بعض المتعالمين، فيقولون: إن اتباع المشايخ تقليد، والتقليد لا يجوز في الدين، وهم رجال ونحن رجال، وعلينا أن نجتهد كما اجتهدوا، ونحن نملك الوسائل والكتب، والآن توافرت وسائل العلم، فما لنا وأخذ العلم عن العلماء، بل أخذ العلم عن العلماء تقليد، والتقليد باطل.

    نقول: نعم، التقليد باطل، لكن ما مفهوم التقليد؟! هناك فرق بين التقليد وبين الاتباع والاهتداء، الاتباع واجب شرعاً، وعامة المسلمين بل كثير من طلاب العلم لا يجيدون ممارسة أو أخذ أصول العلم على الطريقة الصحيحة، فممن يأخذون العلم؟ وكيف يأخذون أصول التلقي ومنهج أهل السنة والسلف والأئمة؟

    لا يمكن أن يأخذوه إلا باتباع العلماء، والاتباع ليس بتقليد، وإلا فهذا يعني أن كل إنسان هو إمام وحده، ومن هنا يكون كل إنسان فرقة، ويكون عدد الفرق بعدد الناس، وهذا باطل قطعاً.

    إذاً: اتباع الأئمة على هدى وبصيرة ليس بتقليد، إنما الاتباع الأعمى هو التقليد.

    الاقتصار في طلب العلم على الوسائل فقط

    سادساً: التتلمذ على مجرد الوسائل، وهو أن يكتفي طالب العلم بأخذ العلم عن الكتب، وينطوي وينعزل عن أهل العلم وعن أهل الخير، وعن أهل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن العلماء، ويقول: أنا أتلقى العلم عن الكتب وعن الوسائل، ولدي الكتاب والشريط والإذاعة.. إلى آخره، من الوسائل المقروءة والمسموعة، ثم يقول: أنا بإمكاني أن أتعلم بهذه الوسائل.

    أقول: لا شك أن هذه الوسائل نعمة، لكنها أيضاً سلاح ذو حدين، فالاكتفاء بأخذ العلوم الشرعية عنها إنما هو مسلك خطير جداً، وهو من أسباب الافتراق؛ لأن هذا يُوجد أشخاصاً وصوراً ممسوخة لأهل العلم، يأخذون العلم على غير أصوله، وعلى غير قواعده، وبغير اهتداء واقتداء، ويأخذون العلم بمشاربهم هم، وبأهوائهم وبأمزجتهم، وبأحكامهم المفردة، والإنسان مهما بلغ من الذكاء والقدرة والتأهل للعلم، فإنه وحده لا يستطيع أن يصل إلى الحق ما لم يعرف ما عليه السلف، وما عليه أهل العلم في وقته، ويعالج قضايا العلم وقضايا الأمة والأحداث مع العلماء، فإنه بذلك يَهلك ويُهلك.

    بل إن هذه الوسائل أوجدت عندنا صوراً ممسوخة لمن يسمون بالمثقفين، وعندهم من المعلومات ما يعجب الناس ويبهرهم، لكنهم لا يقرون بأصل، ولا يفهمون منهج السلف، وبذلك يقتدى بهم بغير علم، وهذه الظاهرة كثرت بشكل مزعج، حتى وجد من هذا الصنف أناس يتصدرون الدعوة إلى الله، وتوجيه الشباب على هذا النمط، بمجرد أنهم يملكون من المعرفة والثقافة العامة والكم الهائل من المعلومات الشرعية، دون معرفة للضوابط ولا للأصول ولا للمناهج ولا لكيفيات التطبيق وكيفيات العمل، ولا لطريقة أئمة الدين في تناول مسائل العلم وتطبيقها على النوازل والحوادث.

    التقصير في فقه الخلاف وفقه الاجتماع

    سابعاً: التقصير في فقه الخلاف.

    وأقصد بفقه الخلاف معرفة أحكام الخلاف بين المسلمين، وماذا يترتب على الخلاف؟ وما يجوز الخلاف فيه وما لا يجوز؟ وإذا خالف المخالف ماذا نطلق عليه؟ ومتى نطلق عليه الكفر أو الفسق إلى آخره؟ هذه أمور يجهلها كثير من الناس، ومن هنا يحدث الافتراق.

    كذلك فقه الاجتماع والجماعة، وهذا أمر غفل عنه الكثير من الشباب الذين يأخذون العلوم الشرعية، غفلوا عن أصول فقه الاجتماع، اجتماع الأمة وجمع الشمل وفقه الجماعة، وأيضاً محاذير الافتراق، ومحاذير الفتن، وما توصل إليه؟ وكذلك عدم التفريق بين الثوابت وبين المتغيرات من الأحكام والأصول.

    أيضاً: الجهل بقواعد الشرع ومقاصده العامة، مثل: مسألة جلب المصالح ودرء المفاسد، ومسألة التيسير، ومسألة متى يكون للناس في أمر من الأمور رخصة؟ ومتى يكون لهم ضرورة؟ واللجوء إلى الضرورة كيف يكون؟ وأحكام الفتن، وأحكام السلم، لذلك نجد كثيراً من الناس لا يُفرق في كلامه وأحكامه بين ساعات الشدة والفتن، وبين ساعات السلم والأمن، وهذا ليس بفقه، بل هو خلل كبير، وسبب للافتراق.

    وأضرب مثالاً لذلك ما حدث فيما شجر بين إخواننا الأفغان، ما حدث فتنة، والمتبصر يدرك الحق وأصحابه، ويدرك الباطل وأصحابه، ومن لديه حق أكثر وإن كان فيه أخطاء، ومن لديه شيء من الباطل وإن كان عنده حسنات، لكن لا يفقه أحكام الكلام في الفتن، ومتى يكون الكلام مناسباً ومتى لا يكون؟ ومتى يجوز الحديث عن الأشخاص والأحكام عليهم ومتى لا يجوز؟ ولا يفقه المصالح الكبرى للأمة، والمصالح المعتبرة في جمع الشمل، وجمع الكلمة، وضرورة السكوت والإعراض والكف عما يشجر بين المسلمين أثناء الفتن، ودرء المفاسد.. إلى آخره، كثيراً ممن سمعتهم لا يفقهون هذا الأمر مع الأسف، بل ولغ الناس على غير هدى ولا بصيرة في هذا الأمر، ولم يهتدوا بكلام أهل العلم.

    التشدد والتعمق في الدين

    ثامناً: التشدد والتعمق في الدين، وهو من أعظم أسباب الافتراق.

    قد يقول إنسان: كيف نفرق بين المتشدد وغير المتشدد؟

    المتشدد يوزن بنماذج: أول هذه النماذج: العلماء في الأمة -ولا تخلو الأمة من علماء- العلماء في الأمة هم النموذج، فمن زاد على هديهم وسمتهم في الأحكام وفي الهدي والسلوك إلى حد فيه عنت وإرهاق للآخرين، أو مصادمة لما عليه أهل العلم فهذا متشدد، فهم القدوة.

    كذلك من علامات التشدد: إيقاع المسلمين في العنت والحرج في أمور دينهم، وأقصد المسلمين الذين هم على السنة لا عبرة بالفساق وأهل الفجور، لكن من هم على اعتدال وعلى سنة وأوقعهم في حرج في دينهم، أو شدد عليهم، ولم يسلك مسلك التيسير في أمورهم التي يضطرون إليها فهو متشدد.

    ومن علامات التشدد: التسرع في إطلاق الأحكام، بمجرد ما يسمع قضية أو حادثة أو خبر يحكم على صاحبها غيابياً، أو يحكم قبل أن يتثبت، أو يحكم باللوازم، كأن يقول: إذا كان فلان قد قال كذا فهو كذا بدون نقاش، مثل قولهم: من لم يُكفر فلاناً فهو كافر، سبحان الله ربما ما تبين له كفر فلان، وهكذا من نزعة إطلاق الأحكام والإلزامات في الأقوال.

    وأيضاً: الإكثار من التكفير الخارج عن سمت العلماء وعن رأيهم، هذا معلم بارز من معالم التشدد.

    إذاً: التشدد والتعمق في الدين هو سبب رئيس من أسباب الافتراق، وهو الذي افترقت به الخوارج عن الأمة.

    الابتداع في الدين في العقائد وغيرها

    تاسعاً: الابتداع والبدع في الدين، سواء في العقائد والعبادات أو الأحكام.. أو غيرها.

    العصبيات بأنواعها وأصنافها

    عاشراً: العصبيات بشتى أصنافها وأنواعها، سواء كانت مذهبية أو عرقية أو شعوبية أو قبلية أو حزبية، أو عصبيات شعارات.. أو غيرها، وأخطر تلكم العصبيات هي ما يكون في مجال الدعوة؛ لأنه يُلبس على الناس، وتكون هذه العصبيات مبررة باسم الدين.

    تأثر المسلمين بالأفكار والفلسفات الوافدة عليهم

    حادي عشر: تأثر المسلمين بالأفكار والفلسفات الوافدة عليهم، أياً كان نوع هذه الأفكار والفلسفات، ما دامت تتعلق بأمور الدين أو الأحكام أو العادات الأخلاق.

    دعاوى التجديد في الدين على غير هدى

    ثاني عشر من مظاهر الخلل في التقي والتي حدثت بعد القرون الثلاثة الفاضلة: هي دعاوى التجديد في الدين، ما بين وقت وآخر يظهر على المسلمين بلية يدعي صاحبها أنه يريد أن يجدد للناس أمر دينهم، وقد يكون هذا المجدد جاء لينسف بتجديده قواعد أهل العلم، وما عليه السلف من المناهج والأصول، وما عليه أهل السنة والجماعة من المناهج والأصول، وهذه الدعاوى التي تدعو إلى الافتراق كثرت في الآونة الأخيرة، حتى في مجال الدعوات المعاصرة، وقد كثر الذين يدعون ضرورة التجديد، وليتهم قصدوا بالتجديد تجديد أمور الحياة والوسائل والأساليب والأسباب هذا أمر بدهي، وهو من سنن الله في خلقه، لكنهم قصدوا بالتجديد تجديد الأصول والمناهج في الدين، وتجديد العلوم ومآخذ الفقه في الدين، ومآخذ الأحكام من النصوص.. وغير ذلك، وهذا أمر خطير ينسف كل ما كان عليه أهل السنة والجماعة من الأصول التي أبقتهم على نهج النبي صلى الله عليه وسلم.

    التساهل في مقاومة ومحاربة مظاهر البدع في المسلمين

    ثالث عشر: التساهل في مقاومة ومحاربة مظاهر البدع في المسلمين، بحيث تظهر بعض البدع فيغفل عنها الناس، ويتساهلون فيها ، ثم تنمو وتزيد وتكثر ، وقد تظهر بعض البدع أيضاً بمظاهر ملبسة، تظهر على شكل عادات وأحوال معينة، وقد تأخذ مسميات غير مسميات البدع كالأعياد الوطنية والأيام الوطنية وكرفع الصور وغيرها، وتأخذ تبريرات وأشكالاً وأسماء أخرى غير أسماء البدع حتى تستقر البدع، ثم بعد ذلك ينزع أصحابها إلى الفرقة أو الافتراق عن الدين وعن الأمة.

    ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمناصحة

    رابع عشر: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك المناصحة، ووقوع المداهنة في الدين، أيضاً عدم قيام طائفة من الأمة في درء الفساد والافتراق عنها.

    1.   

    عوامل توقي الافتراق

    الفقرة الأخيرة: كيف نتوقى الافتراق؟

    أولاً: ينبغي أن نعرف أن توقي الافتراق يكون بتوقي الأسباب والمظاهر التي ذكرتها والحذر منها.

    لكن هناك أيضاً أشياء أخرى عامة وخاصة.

    من الأشياء العامة:

    الاعتصام بالكتاب والسنة، وهذه قاعدة عامة تندرج تحتها توصيات أو أمور كثيرة:

    الأول: من ذلك معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، على المسلم أن يتحرى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمر من أمور الدين، وبهذا سيهتدي ويبتعد عن الافتراق أو النزوع إلى الفرقة.

    الثاني: السير على نهج السلف الصالح، من الصحابة والتابعين وأئمة الدين أهل السنة والجماعة.

    الثالث: التفقه في الدين، بأخذه عن العلماء وبطريقته الصحيحة بمنهج أهل العلم.

    الرابع: الالتفاف حول علماء الأمة، من الأئمة المهتدين الذين تثق الأمة بدينهم وعلمهم، وهم بحمد الله لا يمكن أن تفقدهم الأمة، ومن زعم أنهم يفقدون فقد زعم أن الدين سينتهي؛ لأن الأمة إنما تمثل بعلمائها، وأهل السنة والجماعة إنما يمثلهم أهل العلم والفقه في الدين، فمن ادعى يوماً من الأيام أنه يمكن أن يكون هناك فقد لأهل العلم، أو لا يوجد نموذج من العلماء تهتدي به الأمة فقد زعم أنه ليس هناك طائفة منصورة ولا فرقة ناجية، وأن الحق ينقطع ويعمى على الناس.

    الخامس: الحذر من التعالي على العلماء، أو الشذوذ عنهم بأني نوع من أنواع الشذوذ التي تؤدي إلى الفتنة أو المفارقة.

    السادس: من ذلك ضرورة معالجة مظاهر الفرقة خاصة عند بعض الأحداث أو المتعجلين، والذين تخفى عليهم الحكمة في الدعوة.

    السابع: الحرص على الجماعة والاجتماع والإصلاح بمعانيها العامة وبأصولها، لابد أن يحرص كل مسلم وكل طالب علم وداعية على الجماعة والاجتماع والإصلاح بين الدعاة وأهل الخير، وعلى جمع الكلمة وعلى البر والتقوى.

    الثامن: من أراد أن يعتصم بالسنة والجماعة وينجو من الافتراق فعليه أن يلازم أهل العلم، ويلازم الصالحين من أهل التقوى والخير.

    التاسع: تجنب الحزبيات وإن كانت في الدعوة، وكذلك العصبيات أياً كان نوعها ومصدرها؛ لأنها بذور للافتراق.

    العاشر: بذل النصيحة لولاة الأمور وللعامة، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على فقه وبصيرة، وأخص الشباب وأنصحهم بضرورة الالتفات حول العلماء وطلاب العلم، وأن يتلقوا عنهم الدين ويتفقهوا على أيديهم ويحترموهم ويوقروهم، ويصدروا عن رأيهم في كل أمر ذي بال من أمور الأمة، ويلتزموا ما يقررونه في مصالح الأمة، وفي مشكلات المسلمين الكبرى، وعليهم أن يلتزموا بتوجيهات أهل العلم تحقيقاً للمصلحة، وجمعاً للشمل، وصوناً من الفرقة.

    وذلك هو منهج السلف الصالح، وهو الهدى، وهو الذي به نستطيع أن نقتدي بأئمة الدين أهل السنة والجماعة، وذلك هو سبيل المؤمنين.

    وبهذا القدر أكتفي.

    هذا وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والرشاد، وأسأله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الحق والخير والهدى، وأن يوحد صفوفهم، وأن ينصرهم على أعدائهم، كما أسأله تعالى أن يكفينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ به من الفرقة والافتراق، ونسأله العصمة من ذلك.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من يقوم بنشر المسائل الشاذة من مسائل الخلاف بين علماء الأمة

    السؤال: ما حكم من يتبع ويتبنى الدعوة إلى المسائل الشاذة من مسائل الخلاف بين علماء الأمة، ويقوم بنشرها وتبنيها بين العامة؟ هل يعتبر من الذين ينشرون الفرقة والاختلاف في الأمة أفيدونا؟

    الجواب: هذا السؤال يتضمن الجواب، لكن يظهر لي أن السائل يريد أن أفصل، وأظن أن الوقت لا يتسع للتفصيل؛ لأنه ما دام بوصفه أنه ينشر المسائل الشاذة فهذا شذوذ وهلكة، وكان السلف يصفون من فعل هذا بأنه صاحب بدعة وصاحب هوى؛ لأن من اتبع الشذوذات هلك، لذلك قالوا بأن من طلب غريب الحديث كذب، ونحو هذا الكلام، بمعنى أن من اهتم وقصر جهده على الأمور الغريبة والشاذة فإنه يَهلك ويُهلك، وهذا الشخص إما أنه جاهل يجب أن يُعلم، أو منحرف يجب أن يُعدّل، أو أنه ضال يريد الضلالة؛ لأن إثارة المسائل الشاذة والقضايا الغريبة لا شك أنها إثارة للفتنة، وقد لا يشعر من يفعل ذلك، فينبغي نصحه وتنبيه أهل العلم عليه.

    ضوابط الحكم على الجماعات الإسلامية الموجودة في الساحة

    السؤال: هل نحكم على جماعة من الجماعات التي تدعو إلى الله عز وجل وضرب أمثلة بأنها خارجة عن نهج أهل السنة والجماعة أي أنها واقعة في الافتراق، أم أننا نحكم على أفراد بأعينهم بخروجهم عن أهل السنة والجماعة؟ وهل الافتراق بمعناه الحقيقي قد وقعت فيه بعض الجماعات؟

    الجواب: هذا سؤال عام، لكن أقول: الضابط في ذلك: هو أن أي جماعة تتبنى مناهج في الدين وليس مناهج في الدعوة، تتبنى مناهج حول أصول الدين تخالف مناهج السلف في بعضها أو في أكثرها، فلا شك أنها بذلك تفارق جماعة المسلمين، أما إذا كانت إنما تتبنى مناهج في الدعوة ولا تتقصد منهجاً معيناً، أو تدعي أنها على منهج السلف فهذه توزن بموازين السلف، فإن كان الخير فيها أكثر وأصولها العامة على منهج أهل السنة والجماعة في الجملة، حتى وإن وجد فيها بعض الشواذ أو بعض المفارقين، فلا يصل الأمر إلى أن نصفها بالمفارقة، وإذا كان فيها شيء من المخالفات في الجملة أو عندها مخالفات مبيتة ونصحت بها وبُيّن لها الحق فأصرت عليه، فهذه مفارقة.

    لكن هناك أمر آخر ينبغي التنبيه عليه وهو أن كثيراً من الجماعات في العالم الإسلامي لا تهتم بقضية العقيدة أصلاً، إنما تهتم بتجميع المسلمين على وسائل معينة ومناهج معينة في الدعوة، فهذه لابد من التفصيل في الحكم عليهم، والمناهج في الدعوة ليست مناهج في الدين إنما هي وسائل وأسباب يختلف فيها الناس ويعذر بعضهم بعضاً فيها؛ لأنها مجال الخلاف، ويسع فيها الخلاف مهما بلغ، مناهج الدعوة، ووسائل الدعوة، وأساليب الدعوة، وأساليب الدعاة، وأنماط الدعوة.. هذه أمور يسع فيها الخلاف، ولا ينبغي أن نبني عليها الحكم بالافتراق، إنما الافتراق في الأصول، فأي دعوة من الدعوات تتبنى أصولاً في العقيدة في الدين تخالف مناهج السلف فهي مفارقة، وإذا وافقت مناهج السلف فهي موافقة.

    إذاً: لابد من التفصيل عند الحكم على المعين أو على الجماعة المعينة.

    المدرسة العقلية الفلسفية المعاصرة وعلاقتها بافتراق الأمة

    السؤال: ما رأيك بالمدرسة العقلية الفلسفية المعاصرة؟ وما رأيك بالداعين إليها، مع أن الداعين إليها أناس يلبسون ثياب الملتزمين والصالحين؟ وهل هم ممن يهدف إلى افتراق هذه الأمة؟

    الجواب: الحقيقة هذه مسألة نسيت التنبيه عليها وكانت في ذهني، وهي أنه من ابتلاء الله للأمة أن يحدث كثير من الافتراق على أيدي أناس يظهر منهم الصلاح، وهم يظنون أنهم صالحون، فمثلاً ممن ذكرتهم: معبد الجهني على سبيل المثال ، والجهم بن صفوان ، وواصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد .. هؤلاء يُعدون من العُبّاد والزُهّاد، والذين يتلبسون الآن بوشوح السنة وهم على مذهب العقلانيين في العصر الحديث، لا يصلون مع أولئك شيئاً في التقوى والصلاح، أولئك كانوا من قوام الليل ومن صوام النهار، وكانوا قدوة في مسائل العبادة، لكنهم ليسوا بقدوة في الاعتقاد والدين، ولعل مسألة الخوارج قريبة في أذهانكم، وصف النبي صلى الله عليه وسلم عبادة الخوارج: بأنكم تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، ويقرءون القرآن، يصلون الليل، ويصومون.. ومع ذلك خرجوا على الإمام، فهذا فيه عبرة وعظة.

    ولذلك ينبغي للمسلم أن يسأل ربه العافية والسلامة، ألا يكون ميزانه مختلاً في وزن الرجال.

    لا بد أن يكون أئمة الهدى على استقامة في العمل وفي الاعتقاد، في الهدي والسلوك الظاهر والباطن، وأن يكونوا على نهج السلف، أما من خالف نهج السلف في فكره أو في اعتقاده أو في عمله فهو مخالف. يعني: لو كان في اعتقاده سليم لكن خرج على الجماعة بالسيف، فهو مفارق، ولو كان في اعتقاده فاسد لكن مظهره صالح، يصلي وفيه ورع وفيه تقوى وزهد وعزوف عن المحرمات.. إلى آخره، فهذا ليس بقدوة ما دام اعتقاده فاسداً.

    إذاً: ليست العبرة بهذه الأمور.

    أما مسألة العقلانيين فهي وصف ينطبق على كثير من الفئات يجمعها قاسم واحد على اختلاف مناهجها ومشاربها وأساليبها، وهذا القاسم هو القول في الدين بالرأي، وعدم اعتبار أقوال السلف فيما يخالف فيه، بمعنى أنه قد يوافق كثيراً من السلف ويثني عليهم ويقول: إنه متبعهم، لكن في المسألة التي يخالف فيها يبرر لنفسه، ويخالف عقلاً لا شرعاً.

    وما اتفق عليه السلف لا سبيل للمخالفة فيه، سواء كان في العقائد أو في الأعمال أو في المناهج، والقاسم المشترك عند العقلانيين المخالفة بمجرد الرأي لما عليه السلف، إما في اعتقاد، أو في عمل، أو في نهج، أو في هدي، أو في سلوك.. مما هو سمت عام لأهل السنة والجماعة مما لا يسع فيه الخلاف.

    فمن قال برأيه سواء كان مقلداً لآراء آخرين كالمستشرقين أو بعض المفكرين الذين ابتليت بهم الأمة ممن يسمون بالمفكرين الإسلاميين الآن، وهم أئمة افتراق، سواء قلد هؤلاء أو قلد غيرهم، أو تبنى بنفسه بعض الأفكار التي تخالف منهج السلف فهو عقلاني.

    وهؤلاء المثقفون في العالم الإسلامي لا يخلو منهجهم من لمز من يخالفهم من الأئمة، وقد يثنون على العالم في جانب ويلمزونه ويثلمونه في الجانب الذي يخالفونه فيه.

    فعلى أي حال هذا أمر لا ضابط له، فالمدرسة العقلية هي مدارس شتى أهمها المدرسة الجديدة التي ظهرت بين الدعاة، وهي مدرسة أشبه بمدرسة المعتزلة، وهي مدرسة تحررية تأخذ بمناهج تبتدعها من نفسها وتلغي مناهج السلف في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وفي الدين.

    حكم انتساب الجماعات والفرق إلى أهل السنة والجماعة

    السؤال: هل الفرق المذكورة في الحديث المقصود بها هي الفرق التي تنتسب إلى أهل السنة والجماعة كالخوارج والمعتزلة الجهمية، أم المقصود بها هذه الجماعات والفرق التي خرجت حديثاً مثل: جماعة الإخوان، والجماعة المحمدية، وجماعة أهل السنة والحديث، أرجو منكم الإجابة؟

    الجواب: ليس في أهل السنة والجماعة فرق، بل لا يتأتى ذلك، وكون بعض الفرق تدعي السنة والجماعة هذا أمر طبيعي جداً، وهو نوع من التلبيس، بل لا تكاد فرقة من الفرق التي تريد أن يكون لها رواج في المسلمين إلا وتدعي السنة، فدعوة السنة ليست عبرة، إنما العبرة التمسك بالسنة، وأهل السنة والجماعة ليس لهم شعار وليسوا حزباً، وليسوا جماعة تتكتل على نظام أو على مؤسسة أو على هيئة تنظيم معين، أهل السنة والجماعة وصف عام شامل في العقائد والأصول والمناهج والهدي الظاهر، من اتصف به فهو من أهل السنة، حتى لو كان وحده في بيئة من بيئات المسلمين، أو أي مكان من الأرض، ولو لم يكن في بلاد المسلمين فهو من أهل السنة والجماعة حقاً وولاء وبراء، وله من الحقوق ما لبقية أهل السنة والجماعة.

    إذاً: أهل السنة والجماعة وصف وليسوا جماعة محددة، أما الدعاوى فقد يكون بعض من ينتسبون أو يرفعون شعارات الكتاب والسنة، أو السنة والجماعة أو نصر السنة، قد يكونون فعلاً من أهل السنة والجماعة وقد لا يكونون، فليس كل من رفع شعاراً خرج عن السنة والجماعة، وليس كل من رفع شعاراً دخل في السنة والجماعة، فالعبرة بموازين الشرع، من كان على نهج السنة والجماعة وهو واضح، وسبب خفائه عن الناس عدم أخذ العلم عن أهله، فهو واضح لمن أراد أن يتبصر فيه ويأخذه عن أهل العلم، فمن كان على ذلك فهو من أهل السنة والجماعة، حتى وإن انتمى إلى بعض الدعوات أو الجماعات التي عندها انحرافات، قد يكون من الجماعات التي توصف بأنها منحرفة، قد يكون من أفرادها من هو على السنة، لكن ما سبب وجوده فيها؟ هذا أمر ينبغي أن نلتمس له العذر ما لم نجد لذلك ما ينقض، أو نقيم عليه الحجة.. وهكذا.

    عدم الفرق بين المنهج والعقيدة

    السؤال: ما الفرق بين الفرقة التي تخالف أهل السنة والجماعة في العقيدة، والتي تخالف أهل السنة والجماعة في المنهج؟

    الجواب: ينبغي أن نفهم أن العقيدة ليست مجرد الأعمال القلبية، ومن هنا التفريق بين المنهج والعقيدة غير صحيح، العقيدة هي اعتقادات في القلب وهي أعمال وهي مناهج، العقيدة تشمل المناهج؛ لأن مفهوم المناهج مفهوم واسع يدخل فيه منهج الأخذ بنصوص الكتاب والسنة، هذا اسمه منهج، والسلف لهم في ذلك منهج يدخل في الاعتقاد، فمثلاً: من تلقى نصوص الكتاب والسنة بالأسلوب الرمزي أو بالتفسير الإشاري أو بالتفسير الباطني خالف منهج أهل السنة والجماعة، وهو يقرأ الكتاب والسنة ويستند إليهما، هذا مثال.

    مثال آخر: المواقف تجاه الأحداث الكبرى في الأمة، هذا منهج، مثل: موقف الصحابة مما شجر بينهم، موقف التابعين مما شجر بين الصحابة، هذا منهج وهو عقيدة.

    أيضاً: مناهج تلقي العلم تسمى مناهج، ومنها ما هو عقيدة، مثال ذلك: مقاييس تصحيح الأحاديث الضعيفة التي استقر عليها الدين، وبقي الصحيح صحيحاً معروفاً والضعيف ضعيفاً معروفاً واستقر عليه، فتصحيح البخاري ومسلم استقر عليه، وتصحيح ما صححه الأئمة، وتعديل الثقات، وتجريح المجروحين.. هذه مناهج وقام عليها الدين، ومن أخل بها أخل بالدين.

    أيضاً: منهج تلقي أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والقبول لها، تلقي الأوامر والنواهي.

    أيضاً: منهج أهل السنة والجماعة تجاه الأئمة والجماعة، هذا منهج وهو عقيدة في جملته.

    تبقى مسألة تطبيق المناهج على الحوادث والنوازل، هذه يرجع فيها إلى أهل العلم؛ ليعرف نهج تطبيقها على أسلوب أهل السنة والجماعة.

    إذاً: المناهج لا يفرق بينها وبين العقيدة؛ لأن العقيدة اعتقاد وعمل ومناهج.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952365