[ وآدم عليه السلام كان في الجنة الباقية المخلوقة فأخرج منها بعدما عصى الله عز وجل ].
قوله: (المخلوقة) فيه إشارة إلى خلاف بعض الفرق الذين زعموا أن الجنة التي خرج منها آدم ليست هي الجنة التي وعد الله المتقين، وهناك من زعم أن جنة الآخرة لم تخلق ولم توجد بعد، وهذه كلها مذاهب خاطئة، فالجنة هي الجنة الأولى والباقية اليوم وإلى ما شاء الله، وهي أيضاً جنة الآخرة الأبدية، فالجنة واحدة، ومخلوقة وموجودة، وهي في السماء، عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.
يقصد بالقائم المهدي الذي وردت به الآثار، وهو أيضاً من آل محمد صلى الله عليه وسلم، يصلحه الله في ليلة كما ورد في الآثار، وتكون على يده آخر الملاحم، ثم ينزل عيسى عليه السلام عليه وعلى المؤمنين، ويقيم بينهم حتى يتوفاه الله عز وجل، ثم يدفن عيسى عليه السلام، بل كل المؤمنين يحصل لهم بعد عيسى بقليل حياة ليست طويلة، ثم يقبض الله أرواحهم بريح طيبة، فلا يبقى في الأرض آخر الزمان إلا شرار الخلق نسأل الله العافية.
ونزول عيسى من علامات الساعة الكبرى، ويكون من الأشياء التي تصاحب عيسى آخر مراحل الدجال ؛ لأن عيسى ينزل والمسلمون يقاتلون الدجال ، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح الماء؛ لأنه عرف اليقين الذي وعد الله به، فيقتله عيسى عليه السلام، ثم أيضاً يحدث في وقت عيسى من الآيات الكبرى يأجوج ومأجوج، فهم يخرجون وعيسى في ظهراني المسلمين.
ويحدث أيضاً من العلامات الريح التي تقبض أرواح المؤمنين، لكن قيل إنها بعد وفاة عيسى، وهو الراجح.
يبدو لي أن هذا من باب تنويع العبارة لتأكيدها قوله: (الإيمان بأن الإيمان قول) المقصود به قول القلب وقول اللسان، فاللسان معبر عن القلب.
(وعمل) يعني: عمل القلب وعمل الجوارح لا عمل الجوارح فقط؛ فعمل القلب هو المتمثل بالمحبة والرجاء والخوف واليقين والإنابة والتوكل..، هذه كلها تسمى أعمال القلوب، فدخلت في العمل، وهي تزيد وتنقص، وكذلك عمل الجوارح يسمى عملاً، وأعمال الجوارح تزيد وتنقص، فيبدو لي أن التقديم والتأخير هنا لإحكام المسألة.
ثم قال بعد ذلك: و(نية) والمقصود بالنية الإخلاص، لأن النية هنا موجهة إلى العمل المطلوب، والصحيح أن: (لكل امرئ ما نوى)، فمن نوى وجه الله عز وجل فله ذلك، ومن نوى غير وجه الله خسر دينه وإن كسب ما ينويه من أمور الدنيا، لكن المقصود هنا النية الخالصة، وذلك أن الإيمان لا يصح إلا بالإخلاص، فكما أنه قول وعمل فهو كذلك إخلاص لله عز وجل.
قوله: (وإصابة) أي: موافقة للسنة، وهي أيضاً من شرائط صحة الإيمان.
ثم قال: (يزيد وينقص) أي: كل ذلك يزيد وينقص قول القلب عمل القلب وعمل الجوارح، فالزيادة والنقصان تشمل جميع هذه الأقوال.
كذلك النية، النية قد تكون خالصة وقد تكون مشوبة، فالنية الخالصة يزيد بها الإيمان والنية المشوبة ينقص بها الإيمان، وكذلك الإصابة الكاملة يكمل بها الإيمان، والإصابة المشوبة التي فيها شيء من الجهل أو نحو ذلك، أو الإصابة التي تكون خاطئة لكنها عن اجتهاد قد ينقص بها الإيمان، وليس كمالها ككمال الإصابة الكاملة.
إذاً: كل هذه الأمور تعتبر من الإيمان، وكل ذلك يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه شيء، فيزيد بقدر ما يسدد الله العبد من أعمال الآخرة والنيات والصدق والإخلاص في الأعمال الظاهرة.
قوله: (وينقص) أي: الإيمان (حتى لا يبقى منه شيء) أي: في حالة ما إذا خرج الإنسان من الإيمان بالكلية نسأل الله العافية، وهي الردة أو النفاق الخالص أو الشرك، فهذه لا يبقى معها من الإيمان شيء.
وكذلك قد لا يبقى من أثر الإيمان شيء في لحظات كما فسره بعض السلف في حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، قال بعضهم: لا يبقى عنده من الإيمان شيء إلا الأصل، لكن ثمرة الإيمان تنمحي في ذلك الوقت من المؤمن.
النصوص في ترتيب أفضلية الصحابة وردت متدرجة في ذكر أفضلية الصحابة في نوعها وفي حجمها، فأكثر الفضائل فضائل أبي بكر رضي الله عنه، ثم ذكر فضائل أبي بكر مع عمر في الدرجة الثانية، ثم الدرجة الثالثة: ذكر الثلاثة، وكثيراً ما ترد نصوص فيها الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان ، ثم الدرجة الرابعة في الأربعة بإضافة علي رضي الله عنه، وهذه أقلها.
ولذلك يذكر بعض السلف الثلاثة ولا يذكر علياً ، لا استنقاصاً لـعلي رضي الله عنه؛ لكن لبيان أن الثلاثة ورد ذكرهم منفردين في نصوص كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة كذلك، ولأن الثلاثة من الخلفاء الراشدين لم يختلف عليهم الناس، واختلفوا على علي رضي الله عنه ولا يعني هذا أن الاختلاف عليه سائغ؛ لكنه وقع من قبل أهل الأهواء أو المجتهدين الذين ما أصابوا في اجتهادهم، وإلا فالأولى عند ترتيب مقامات الصحابة أن يذكر الأربعة بما فيهم علي رضي الله عنه دفعاً للبس، ومع ذلك وردت أحاديث مستفيضة في ذكر أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ووردت بعدها في الدرجة الرابعة ذكر علي مع هؤلاء الثلاثة فيكونون أربعة.
ولذلك كثيراً ما ينص عليهم بأنهم الأربعة الخلفاء، وأن أفضل الصحابة الأربعة، وهكذا.
هنا عد بقية العشرة المبشرين بالجنة، فمنهم الأربعة الخلفاء الراشدون ثم طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة ، هؤلاء الستة مع الأربعة هم المبشرون بالجنة، وقد ورد إفرادهم في حديث ذكره الشيخ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، القرن الأول الذي بعث فيهم المهاجرون الأولون والأنصار، وهم من صلى إلى القبلتين، ثم أفضل الناس بعد هؤلاء من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أو شهراً أو سنة أو أقل من ذلك أو أكثر ].
بمعنى أن كل من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من الصحابة ولو يوماً، والأولى أن يقال: من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو شهراً أو يوماً.
الشيخ: هذا الحديث صحيح، وأوضح منه الحديث الذي رواه عدد من أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، هذا الحديث صحيح صححه الألباني وغيره.
أما الحديث التالي الذي سيذكره فهو موضوع.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال سفيان بن عيينة : (من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) ].
هذا الحديث لا أصل له والله أعلم.
مسألة السمع والطاعة والولاية وما يستتبعها من أصول وقواعد، السمع والطاعة للأئمة طبعاً بالمعروف، لذلك قال: (فيما يحب الله ويرضى) وسيقرر هذا في قاعدة مستقلة فيما بعد.
قوله: (السمع والطاعة للأئمة) يعني: من ولاه الله أمر المسلمين.
الصورة المثلى لقيام الخلافة أو الولاية، هي أن تكون الخلافة بإجماع الناس، وإجماع الناس يتحقق بصور شتى، فغالباً ما يكون باتفاق أهل الحل والعقد؛ لأن الناس في شعائر الدين الكبرى مثل الحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي مصالح الدنيا العظمى مثل البيعة والسمع والطاعة وغيرها، لا يتم أمرهم إلا بأهل الحل والعقد منهم، ومن سوى أهل الحل والعقد تبع لأهل الحل والعقد بالضرورة؛ لأن الدهماء والعامة والغوغاء والسواد الأعظم لا يمكن تحقيق رغبتهم جميعاً أو التعرف على آرائهم بطريق سليم، ولا يمكن أيضاً أن يكون عندهم من الفقه والرشد ما يجعلهم يعرفون المصالح العظمى للأمة كما يريد الله عز وجل، وكما هو على قواعد الشرع.
فعلى هذا فالإجماع ينعقد في مسألة الولاية والخلافة ببيعة أهل الحل والعقد، وهذه صورة من صور الولاية تتبعها أو تأتي دونها صور أخرى كالتغلب، فهو صورة من صور إقامة الإمامة في الدين، أما إمامة الناس في دينهم ودنياهم وهي الإمارة التي لها السمع والطاعة فقد تكون بالغلبة أيضاً، حتى لو لم يكن الأمر برضا أهل الحل والعقد، وبين الصورتين صور كثيرة.
ثم قال: [ ولا يحل لأحد أن يبيت ليلة ولا يرى أن ليس عليه إمام ].
بمعنى أنه لا يحل لمسلم أن يبقى ليلة ليس في عنقه بيعة ما دام أمر المسلمين قائماً، سواء كانت الولاية على الشروط الشرعية أو تخلفت فيها الشروط الشرعية، فيجب أن يكون في عنق المسلم بيعة للإمام الواقع أو للإمامة الحاصلة في وقته، سواء كان هذا الإمام متوفرة فيه شروط الإمامة أو لا تتوفر، فيجب على كل مسلم أن يكون في عنقه بيعة وألا يبيت ليلة إلا وعليه إمام براً كان أو فاجراً كما ذكر أهل العلم، بناء على الأحاديث الواردة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أولاً: أهل الحل والعقد هم العلماء أهل الفقه في الدين الذين يهمهم أمر المسلمين، كما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أئمة الصحابة، فهم أدركوا أن أهل الحل والعقد الجديرين بأن يكونوا هم أهل اختيار الولاية هم الذين تميزوا بالعلم الراسخ والفقه في دين الله عز وجل مع الرأي والمشورة، أي: تميزوا بصفات القيادة الشرعية والدنيوية، وهم أهل الشورى من الصحابة، وهذا هو الأمثل على مدار التاريخ.
فأول أهل الحل والعقد هم أهل العلم الذين يتوفر فيهم الفقه والرأي، ثم يليهم من دونهم ممن لهم اعتبار في الحل والعقد.
أحياناً أهل الحل والعقد يكون منهم الفاسق والفاجر لكنه مطاع في قومه، ولا يستتب أمر المسلمين إلا باعتباره، كرؤساء العشائر وقواد الجيوش وأمراء الأقاليم ونحو ذلك ممن له اعتبار في مصائر الناس بحيث يطاع وله رأي رشيد، فيدخل في عموم أهل الحل والعقد بحسب حال المسلمين.
وهذه الصور تكررت على مدار تاريخ الإسلام في القرون الأولى الفاضلة، فقد كان يعتبر من أهل الرأي من كان له اعتبار حتى لو لم يكن معروفاً بالفضل والاستقامة ما دام مطاعاً في قومه أو صاحب رأي سديد، وما دام له كيان كما نعبر في أسلوبنا المعاصر.
الصورة الأولى: انتخابات أهل الحل والعقد الذين تتوافر فيهم الشروط الشرعية والشروط الاعتبارية، فهذه واردة؛ لأن الصحابة كانوا يعملون ذلك، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه استعمل هذه الطريقة لكن مع النخبة من فقهاء الصحابة، فلما أعلن ترشيح عثمان قال: إني أرى الناس لا يعدلون بـعثمان ، ومعناه أنه استقرأ رأي أهل الحل ، حتى كان يطرق الأبواب يستشيرهم.
فهذه صورة من الصور الشرعية الصحيحة التي هي اعتبار التصويت والانتخابات في نخبة ممن تتوافر فيهم الشروط الشرعية.
الصورة الثانية: اعتبار التصويت لعموم الناس، وهذا يؤدي في الغالب إلى الغوغائية والفتنة ويؤدي إلى الخروج من مقتضى الدين؛ لأنه إذا استفتى عامة الناس والغوغاء وغير أهل الحل والعقد أو غير أهل الاعتبار والاستقامة، وأخذ تصويتهم في قضايا الأمة في دينها ودنياها، ففي الغالب أنهم يختارون ما يحقق أهواءهم بصرف النظر عن المصالح الشرعية، حتى وإن كانوا من المتدينين ما داموا لا يفقهون.
فهذا باب خطير يؤدي إلى الإعراض عن دين الله عز وجل، وهو من مسالك الجاهلية والأمم الضالة، ومن مسالك العلمنة، ولا اعتبار لهذا التصويت، فلو استفتي الناس اليوم في بعض المعاصي لاختاروها رغم أننا في مجتمع يعتبر من أفضل المجتمعات؛ قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
هاتان قضيتان منفصلتان، أما المسألة الأولى فهي قوله: (الحج والغزو مع الإمام وصلاة الجمعة خلفهم جائزة) وهذا حق، فمن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يرون وجوب الحج مع إمام المسلمين أو من ينيبه، ولا يجوز للناس أن يخالفوه سواء كان براً أو فاجراً.
وكذلك الغزو مع إمام المسلمين أو قواد الجيوش الذين يوليهم، وهو من شعائر الدين الظاهرة.
وكذلك صلاة الجمعة خلف إمام المسلمين أو من يعينهم من أئمة المساجد، ولا يجوز لأحد أن يسوغ لنفسه الشذوذ عن الناس في الحج، أو الشذوذ عن الناس في الغزو، أو الشذوذ عن الناس في الجمعة؛ لأن هذه شعائر الدين.
والشيخ ضرب مثلاً بأمرين: الحج؛ لأنه يمثل شعائر الدين التي هي من الشعائر الظاهرة التي يجتمع عليها الناس، فالناس في شعائر الدين يجب أن يجتمعوا على أئمتهم.
والغزو من مصالح الأمة العظمى، ويدخل فيه قتال الدفاع عن البلد، فهذا من مصالح الأمة العظمى التي يجب أن يجتمع فيها المسلمون على أئمتهم مهما كان هناك شيء من الجور والظلم أو الاختلاف في الرأي، فيجب أن تجمع الكلمة على شعائر الدين العظمى وعلى مصالح الأمة العظمى.
الإمام أحمد رحمه الله لم يأت بشيء من عنده كما هو معروف، فهذه السنة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وربما أتى بها الشيخ هنا؛ لأنه كان في وقته من خالف السنة.
وصلاة النافلة بعد صلاة الجمعة لها عدة صور بعضها واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن كان الصحابة يفعلونها دون أن ينكر بعضهم على بعض، فصلاة الركعتين بعد صلاة الجمعة وردت في السنة، وصلاة أربع وردت في السنة، وثبتت كلها في البخاري ومسلم وغيرهما.
وكذلك صلاة ست ركعات في البخاري ومسلم وغيرهما، سواء صلى ركعتين ركعتين أو صلى ركعتين ثم أربعاً كما ورد في بعض ألفاظ الحديث، فكل هذه الصور جائزة، ولو لم يصل فقد ورد عن بعض الصحابة أنهم كانوا لا يصلون بعد الجمعة، وقد ذكر كثير من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أثرت عنه جميع هذه الأحوال، فليس على أحد حرج أن يفعل هذا أو ذاك.
وهذه من المسائل الخلافية التي لا ينبغي أن تدخل في مسائل الاعتقاد إلا من باب التنبيه على أنها من السنن النوافل.
مداخلة: شيخ، هل كان السلف يفرقون في الصلاة خلف الفاجر في صلاة الجمعة عن غيرها من الصلوات؟
الشيخ: يفرق في الصلاة خلف البر أو الفاجر في صلاة الجمعة عن غيرها؛ لأن صلاة الجمعة آكد، ولا يسع أحداً تركها؛ هذا أمر.
الأمر الآخر أن الذي يتولى صلاة الجمعة غالباً هم الولاة، أما الصلاة العادية فتنعقد بين المسلمين حتى ممن لم يوله الأمير صلاة الجماعة، والغالب أن أمراء الأمة في تاريخ الإسلام لا يهتمون بتعيين كل إمام في الفرائض، لكنهم يعنون بأئمة الجمعة؛ لأن الجمعة أظهر شعاراً؛ ولأن الجمعة كان يتولاها الولاة كما في القرن الأول والثاني والثالث وما بعدها، فكان اجتماع الكلمة عليهم على هذه الصورة هو المقصود هنا.
أما إمامة المساجد فيتولاها الأمراء وغير الأمراء، ويتولاها من ولي ومن لم يول ممن يصلح للإمامة، فمن هنا كان الأمر فيها أخف، أما الجمعة فالأمر فيها أشد.
هذه المسألة أيضاً فيها خلاف، وقد ورد في الأحاديث: (الأئمة من قريش)، وكان جمهور السلف يرون أن هذا شرط من شروط الإمامة إذا أمكن، أما إذا لم يمكن فإنهم يجيزون التحول عن شرط الكمال إلى شرط الإجزاء، والدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو عبداً حبشياً)، وغيره من الأحاديث التي أمرت بطاعة الوالي مطلقاً قرشياً وغير قرشي.
فإذاً هذه المسألة تقرر على عدة صور:
الصورة الأولى: إذا كان المجال مجال الاختيار المحض فيجب أن يكون قرشياً إن وجد، يعني: إن وجد قرشي فيه كفاءة؛ لأنه ورد في بعض الأحاديث أن قريشاً تضمحل في آخر الزمان، فقد لا يجد الناس في فئة من الفئات أو في مكان من الأمكنة الكفء من قريش فيولون من تتوفر فيه الصفات ولو لم يكن قرشياً.
إذاً: هذا في الغالب أنه شرط كمال.
الأمر الثاني: هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، من باب الأمر أو من باب الخبر؟ هذه مسألة لا تزال محل خلاف، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، قد يكون من باب الخبر؛ لأن أغلب الخلافة الكبرى التي قامت على مدى تاريخ الإسلام الطويل كانت في بني أمية وبني العباس، ثم إن الولايات التي قامت في تاريخ الإسلام أغلبها من قريش حتى افترقت الأمة الإسلامية وصارت دويلات متفرقة متمزقة، فمن هنا قد لا تتحقق القرشية في بعض البلاد فتكون الولاية فيمن تتوفر فيه شروط الولاية أو تتحقق له الإمامة ولو بالغلبة بمقتضى الأحاديث الأخرى.
فعلى هذا فالظاهر أنه يمكن أن يحمل الحديث على أنه من باب الخبر، أو أنه من باب الأمر لكن من باب الأمر فيما إذا تمكن المسلمون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وفيما إذا وجد القرشي الكفء الذي يختاره أهل الحل والعقد، ولا تحدث بسببه فتنة، وهي الصورة الثانية.
هناك صورة ثالثة للخلافة: وهي فيما إذا كان الإمام أو الوالي غالباً على الناس، فتجب طاعته بصرف النظر عن كونه قرشياً أو غير قرشي، وقد حدث هذا في طيلة تاريخ التاريخ الإسلامي، بل حدثت دول كبرى في تاريخ الإسلام ليس الإمام فيها قرشياً، فلا يعني ذلك أنه يتحقق ذلك في كل الأزمان وكل الأمكنة بل ربما لا يتحقق.
وهذه أيضاً مسألة مهمة يجهلها كثير من الناس، فالمعروف عن أئمة السلف قديماً وحديثاً أنهم يطلقون كلمة الخوارج على الإطلاق الأول، وهي الفرقة المعروفة بالحرورية ومن جاء بعدها على منهجها، هذا الإطلاق الأول.
الإطلاق الثاني: كان السلف بل والأحاديث أيضاً تشير إلى إطلاق كلمة (الخوارج) على كل من نازع ولاة المسلمين وخرج عن الطاعة، فيسمى خارجياً حتى لو لم يكن على مذهب الخوارج في الأصول الأخرى، ولذلك كان السلف يطلقون على جميع أهل البدع كالمعتزلة والشيعة خوارج؛ لأنهم لا يرون لأئمة المسلمين بيعة.
فإذاً: الخوارج تطلق على الإطلاقين:
الإطلاق الأول: الفرق التي تتمثل فيها أصول الخوارج وعقائد الخوارج والإطلاق الثاني: كل من خرج على أئمة المسلمين أو على إمام من أئمة المسلمين له بيعة، فهذا يسمى خارجياً حتى لو كان يظهر السنة.
وهذه قاعدة عظيمة وهو قوله: (ليس في السنة قتال السلطان)، والمستقرئ لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم لمنهج السلف الذي استقر عليه الأمر بعد الفتن التي حصلت في آخر الخلافة الراشدة إلى وقت فتنة ابن الأشعث وما وقع بين هذين العهدين من فتن بعد ذلك كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين، استقر مذهب السلف على أنه ليس في السنة قتال السلطان وإن جار.
والمقصود هنا السلطان المسلم؛ لأنه لا يتصور السلف أن يكون على المسلمين وال كافر، ولو حدث ذلك فلأهل الحل والعقد أن ينظروا في الأمر على قواعد الشرع.
فلو ابتلي المسلمون بسلطان كافر فليس معنى ذلك أن كل إنسان يعلن الخروج، فإن هذا معلق بدرء المفاسد وجلب المصالح ودرأ الفتنة التي تؤدي إلى ما هو أعظم، لكن ليس للكافر على المسلم ولاية، لا على قلبه ولا على أعماله إلا فيما يحقق المصالح المشتركة بين الناس.
الإنسان يحترم النظام حتى في ولاية الكافر؛ لأن احترام النظام إقامة لدين الناس ودنياهم، لكن ليس في قلب المسلم ولاء ولا اعتقاد بولاية الكافر أما السلطان المسلم حتى وإن كان ظالماً جائراً أو عنده شيء من الأثرة ونحو هذا فيجب ألا يقاتل.
قد يقول قائل: حدثت صور من قتال الأمراء والسلاطين من بعض المسلمين.
والجواب: أن هذه الصور قد قرر العلماء أنها زلات من أناس اجتهدوا ممن ينتسبون للسنة، ينتسبون بالسنة كما حدث من أهل الحرة، وكما حدث من الذين قاتلوا الحجاج ، وكما حدث من فعل الشيعة مع الحسين واستنهاضهم له ضد الخلافة.
كل هذه الصور تعتبر اجتهاداً من أناس خالفهم غيرهم مخالفة صريحة واضحة من أئمة الدين الذين هم أكبر وأعلم وأفقه، فغاية ما يقال فيها إنها اجتهادات خاطئة من أناس إما لم تبلغهم النصوص وهو الغالب، أو تأولوا، ويغفر الله لنا ولهم، وليس هذا هو المنهج، ولذلك ذكر شيح الإسلام ابن تيمية أنه بعد فتنة ابن الأشعث وخروجه على الحجاج وتورط بعض الفقهاء معه ندموا كلهم وأعلنوا أنهم كانوا مخطئين، مثل الشعبي وسعيد بن جبير .
لكن نفترض أن هذا أمر حدث من هؤلاء الأئمة فأقول: إنه قد استقر عند السلف أنه خطأ، وأن الذين شاركوا فيه من أهل الفقه شاركوا عن تأول وأدركوا أنهم أخطئوا، ولعله من فضل الله ونعمته على أهل السنة أن أغلب الفقهاء الذين شاركوا في قتال الحجاج مع ابن الأشعث أعلن أنه كان مخطئاً في اجتهاده، فحسمت القضية على هذا الوجه.
واعلم رحمك الله أنه لا طاعة لبشر في معصية الله عز وجل ].
وهذه مسألة ربما يقف عندها بعض الناس من غير تبصر، وهي أن هناك أشياء قد يأمر بها الوالي المسلم فتكون معصية عند المأمور، لكن هي محل خلاف عند الآخرين، فهذه القضية يرجع فيها إلى أهل العلم، لأنك قد تؤمر بأمر تظن أنه معصية فتعصي الوالي فيترتب على هذا فتنة، في حين أن هذا الأمر قد يكون جائزاً عند آخرين من أهل العلم، فيجب في مثل هذه القضايا أن يرجع إلى أهل العلم ولا يجتهد فيها الفرد برأيه.
أما المعاصي المجمع عليها كما لو قال لك: اسرق أو كل الربا، فلا يجوز أن يطاع الوالي في معصية الله عز وجل، هذا أمر.
وأيضاً إذا قوتل لا يعامل معاملة الكفار، فلا يطلب إذا هرب، ولا يقتل إذا استسلم، ولا يجهز على الجريح إلى آخر الأحكام المعروفة، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر