إسلام ويب

مجمل أصول أهل السنة - الإيمان بالغيبللشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يجب الإيمان بكل ما صح الدليل عليه من أمور الغيب، كالعرش والكرسي والجنة والنار، ونعيم القبر وعذابه، ومن تأول ذلك وخرج عن مفهوم أهل السنة ففي إيمانه نقص بحسب ما وقع فيه من خطأ.

    الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وآله، ورضي الله عن صحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    وبعد.

    يقول المؤلف حفظه الله تعالى: [ عاشراً: الإيمان بما صح الدليل عليه من الغيبيات، كالعرش والكرسي، والجنة والنار، ونعيم القبر وعذابه، والصراط والميزان وغيرها دون تأويل شيء من ذلك ].

    هذه قاعدة الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يدخل فيه: الإيمان بالله وملائكته؛ لأن الملائكة غيب، وكذلك اليوم الآخر وسائر المغيبات، أي: أن أركان الإيمان الستة تضمنت أصولاً عظيمة من أصول الغيب، لكن الإيمان بالغيب لا ينحصر في أركان الإيمان أو في بعض أركان الإيمان، بل الغيب يشمل كل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من الأمور المغيبة، والأمور المغيبة على نوعين:

    النوع الأول: أمور مغيبة تحدث في الدنيا.. من أمور مستقبلية أو حتى ماضية، لكن انقطعت أخبارها عن الخلق مثل ما جاء في قصص كثير من النبيين على الوجه السليم الصادق، لا على ما روي في التاريخ مما دخله من حكايات وكذب.

    إذاً: النوع الأول: هو الغيبيات التي غابت عنا في الدنيا من أخبار السالفين وأيضاً من الأخبار المستقبلية ومنها أشراط الساعة.

    النوع الثاني: الغيب الذي هو غائب عن الدنيا، أو لا يتعلق بحياة البشر، وهو على صنفين:

    الصنف الأول: ما يتعلق بالغيبيات الكونية الكبرى التي لا علاقة لها مباشرة بحياة الإنسان، مثل ما يتعلق بأخبار السماوات وأخبار العرش والكرسي، والأمور التي هي موجودة حالياً في الدنيا لكنها فوق مدارك البشر ولا تتعلق بحياة البشر المباشرة.

    الصنف الثاني: الغيبيات التي تتعلق باليوم الآخر، وهذه الأمور كلها تسمى الإيمان بالغيب؛ لأنها غائبة عن المدارك، بل حتى تفصيلاتها غائبة عن العقول، وعن جميع المدارك .. فالحواس الخمس وغير الحواس لا تدركها حتى الوسائل العلمية الحديثة، ولذلك وسأستعجل هذه المسألة لأهميتها، لذلك ظن بعض الناس أن ما أدركته العلوم والكشوف العلمية الحديثة مما هو غائب عن البشر أنه نوع من الاطلاع على الغيب، وهذا خلاف القاعدة الشرعية، فكل ما أدركه البشر وما سيدركونه في مداركهم العلمية التجريبية الحسية أو غير الحسية التي تنبني على قطعيات.. هذه أمور كلها مما لم يكن غيب في علم الله عز وجل، لكنه غائب عن بعض البشر، ولم يكن غائباً عن آخرين، غائب عمن سبقونا واكتشفه المعاصرون وربما تحدث كشوف أخرى كثيرة جداً لا تخرق الإيمان بالغيب، بل هي نوع مما أطلع الله عليه عباده، لكن الغيب الخالص لا يمكن الاطلاع عليه، ولذلك جاءت هذه القاعدة، وهي أنه يجب على المسلم أن يسلم ابتداء بأنه مؤمن ومصدق بكل ما صح به الدليل.

    والدليل نوعان:

    أولاً: القرآن.

    ثانياً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم منه ما يصح ومنه ما لا يصح، فما صح بأسانيد صحيحة صار من الدليل الذي يجب الإيمان بمدلوله.

    إذاً: ما صح به الدليل هو القرآن، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح من جميع الغيبيات المذكورة في السابق واللاحق في الدنيا والآخرة، في الأرض وفي ملكوت السماوات، وما أخبر الله به مما هو فوق ذلك؛ لأن الله عز وجل أخبر عن الغيبيات بما هو فوق السماوات كالكرسي والعرش وهي مخلوقة، ولذلك جاء ضرب المثل بالعرش، فالعرش أعظم المخلوقات التي جاء خبرها عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أعظم المخلوقات، وهو محيط بالمخلوقات، وهو عرش المخلوقات، والله عز وجل أشار إلى العرش بإشارات كثيرة، منها ما يتعلق بصفات الله عز وجل وهو قوله سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] واستواء الله يكون على ما يليق بجلاله، وينبغي ألا يفسر بلوازم المحدثات والمخلوقات، وقد خاض الناس في مسألة الاستواء بغير علم، واستواء الله عز وجل على عرشه على ما يليق بجلاله، فالعرش مخلوق، والله عز وجل ليس بحاجة إلى المخلوق، فاستواء الله على ما يليق بجلاله، والكرسي دون ذلك، وهو أيضاً محيط بالسماوات.

    وهذا بالنسبة للغيبيات التي هي عوالم من عوالم الكون ومخلوقات من مخلوقات الكون موجودة، وليست تتعلق بالمستقبليات، وهناك نوع آخر من الغيبيات المستقبلية ومنها الجنة والنار، ولها حالان:

    الحالة الأولى: وجودهما الآن، فلا شك أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن، لكن ليس على الهيئة الكاملة التي تكون عليها يوم القيامة، وبعد أن ينقسم الخلق إلى سعيد في الجنة نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم، وإلى شقي في النار، وقبل أن ينقسم الخلق فالنار والجنة موجودتان الآن وبعد الآن.

    وكذلك مما يمثل به على الغيبيات ما يتعلق بالحياة التي بين حياتين: حياة الإنسان إذا مات، وتسمى الحياة البرزخية وقبل أن يبعث، هذه تسمى الحياة البرزخية؛ لأن البرزخ هو الموقع الذي يكون بين شيئين كالجسر، والحياة البرزخية تتمثل بالقبر، والقبر فيه غيبيات كثيرة وأحوال عجيبة جداً ومشاهد مروعة ومن ذلك نعيم القبر نسأل الله أن يجعلنا من المنعّمين وجميع المسلمين، فالنعيم له أحوال ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب الإيمان بها كما وردت دون عرضها على مقاييس البشر ولا على مقررات العقول؛ لأن العقول لا تعقل إلا مدركاتها، وأحوال البرزخ خارجة عن مدركات العقول، فنعيم القبر جاء فيه تفاصيل يجب الإيمان بها، وعذاب القبر نسأل الله العافية كذلك جاء فيه تفاصيل، وكل ميت لا بد أن يخضع لإحدى هاتين الحالين اللهم إلا ما ورد في الشهداء، وهذا فيه خلاف: هل يعني ذلك أنهم لا يعيشون البرزخ في أنهم في حواصل طير في الجنة؟ أو أنهم يعيشون حياة البرزخ لكن لهم حال أعظم وأسعد من غيرهم، الله أعلم، وهذا أمر غيبي ما جاء فيه فيما أعلم ما يقطع به.

    إذاً: البشر كلهم خاضعون لهذه الاعتبارات وهذه الغيبيات، ثم بعد ذلك ما بعد القبر، وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر وهو النفخة الأولى والنفخة الثانية، والصعق والبعث، والنشور، والحساب، ويتخلل الحساب الصحف والميزان، ثم بعد ذلك الصراط وحوض نبينا صلى الله عليه وسلم نسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن يردونه، ونحو ذلك.

    كل ما ورد من غيبيات يجب الإيمان بها، ثم مما ينبغي معرفته أن هناك قواعد الإيمان بالغيبيات:

    القاعدة الأولى: أن نعلم أنها حقائق وليست مجرد أمثلة أو تخييلات أو مجرد تصوير أو تمثيل، وأن هذه الحقائق غائبة عن المدركات، ولا يمكن أن تقاس بغيرها من المدركات ولا يقاس بها غيرها، ولذلك فإن الذين استعملوا القياس في الغيبيات هلكوا، وهم صنف من الخرّاصين الذين ذكرهم الله عز وجل وتوعدهم بقوله: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:10-11] بل القول في الغيبيات بغير ما ثبت به الدليل هو قول على الله بغير علم، والله عز وجل نهى عن ذلك، وأرشدنا بقوله سبحانه: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]، بل يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما تجادل بعض الصحابة في بعض الآيات التي تتعلق بالغيب والقدر، قال: (أبهذا بعثتم؟ أبهذا أمرتم؟ تضربون آيات الله بعضها ببعض، قال: فما علمتم منه -أي: الدين- فاعملوا به، وما لم تعلموا فردوه إلى عالمه وقولوا: الله أعلم) ولذلك ميّز الله المؤمنين بالغيب؛ لأنهم سلّموا تسليم المذعن لله المسلّم الموقن والمصدّق بخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم تسليم المبصر لا تسليم الأعمى؛ لأن الذي يسلم التسليم الأعمى هو الذي يقلد الآخرين من المخلوقين، أما الذي يسلّم لله عز وجل فهذه هي البصيرة، وبعض المفتونين أو من عندهم شبهات يظنون أن التسليم للغيبيات نوع من الحجر على العقل، وأنه نوع من التقليد والتسليم غير الرشيد، وهذا كله وهم، والتسليم للمخلوقين فيما لا علم لهم به نوع من التقليد الأعمى المذموم، لكن التسليم لله عز وجل والتسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في خبره، هذا هو الإيمان الذي امتدح الله به، بل هو الإيمان بالغيب الذي امتدح الله به المؤمنين، وميّزهم عن غيرهم، فالمؤمنون بالغيب مُيّزوا عن غيرهم ومن أعظم ما مُيّزوا به الإيمان بالغيب، ثم بعد ذلك فإن هذه الأمور يجب الإيمان بها دون تأويل ولا تحريف، والتأويل هو البحث عن معانٍ يصرفها عن حقائقها، ومن مقتضى التصديق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أن نعلم أن كلام الله حق، وأن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، وأن هذه الغيبيات حق على حقيقتها على حسب علم الله عز وجل فيها، وكيفياتها مما لا يعلمه إلا الله، فهي حق، وإذا كانت حقاً فهي لا تقبل التأويل؛ لأن التأويل هو صرف لمعاني الألفاظ والكلمات من حقيقتها المباشرة إلى حقائق أخرى متوهمة أو متصورة أو يلجأ إليها عندما يصطدم الإنسان بحقائق الواقع، بينما أمور الغيب لا تصطدم بحقائق الواقع، فلا يحتاج فيها إلى تأويل، إذاً: (لا تأوّل) أي: لا تصرف معانيها إلى معانٍ مظنونة محتملة كما يفعل أهل التأويل، فمثلاً: الله عز وجل أخبر عن نفسه سبحانه بأنه على العرش استوى، ونحن نؤمن بهذا وأنه حق على ما يليق بجلال الله عز وجل ولا نزيد عما ورد في الشرع، فلا يجوز للواحد أن يتوهم أن الاستواء نظراً لأنه متعلق بالعرش والعرش مخلوق إذاً لابد أن نؤوّله بأن نقول: الاستواء هو الاستيلاء وهو الهيمنة أو السلطان! نعم، هذه المعاني من لوازم الاستواء، ولا شك أن الله عز وجل مهيمن ورب ومالك سبحانه، لكن لا بد أن نؤمن أن الاستواء لله عز وجل على عرشه حقيقة تليق بجلاله وكماله وليست كاستواء المخلوق، ومن هنا نؤمن بالحق كما ورد ونخلص من أنظار التأويل التي هي نوع من القول على الله بغير علم، بل نوع من الوقوع فيما نهى الله عنه من القول على الله بغير علم إلى آخره مما هو من اللوازم الباطلة للتأويل.

    أيضاً: كما أن الغيبيات حق على حقائقها فلا يعني ذلك أننا لا نؤمن بلوازمها، وبعض الناس يظن أن السلف وأهل السنة إذا قالوا بحقائق صفات الله عز وجل وأسمائه كما يليق بجلال الله وحقائق الغيبيات أنهم يجمدون على النص، ولا يؤمنون باللوازم والمعاني التي تدل عليها السياقات والتي جاء إثباتها من كل ورود النص! لا، يؤمنون بهذا وذاك، ويثبتون حقيقة الغيبيات وما يلزم ذلك من اللوازم الضرورية التي تلزم من الإيمان بهذه الأمور.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089181079

    عدد مرات الحفظ

    782503246