الإسلام هو دين الفطرة التي هي دين إبراهيم ودين جميع الأنبياء عليهم السلام، وهي تعني إخلاص العبادة لله تعالى دون من سواه، ومن خرج عن الفطرة وتنكب الصراط المستقيم فقد عرض نفسه للعذاب، وليأتين يوم يذاد فيه عن الحوض أقوام بدلوا وغيروا، وارتدوا على أدبارهم، فيقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: سحقاً سحقاً لمن غير وبدل.
والدين القيّم هو الدين المستقيم، دين الله عز وجل، وهو ما جاء به جميع الأنبياء بمقتضى هذه الفطرة، سواء في جانب الاعتقاد أو في أصول التشريع، إنما الاختلاف في فروع الشريعة وفي الأحكام التفصيلية، أما في مجملات الدين الذي يتمثل في العقيدة وفي أصول الأحكام وتحقيق الغاية الكبرى من الخلق وهو عبادة الله عز وجل، ثم أيضاً تحقيق الأصول الكبرى مثل العدل والفضيلة والصدق والوفاء والأمانة ونحو ذلك.. هذا كله مقتضى الفطرة وكله جاء به جميع الأنبياء، وهو ملة إبراهيم ومن قبله ومن بعده.
معاني الإسلام
ثم ذكر أن ذلك وصية إبراهيم وهو الإسلام في كل زمان بحسبه؛ لأن الإسلام مسمى لهذا الدين الذي أنزله الله عز وجل في كل أمة حسب وقتها وما أرسل الله إليها، ووصية إبراهيم وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[البقرة:132] وهذه الوصية تعني التزام الإسلام كما هو آخر الآية فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ والإسلام هو دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، ثم إن الإسلام يعني جميع ما جاءت به الرسل في أوقاتهم، ومن هنا فإن الإسلام بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ينطبق على معنيين: المعنى الأول: الإسلام العام الذي هو العقيدة والأصول التي جاء بها جميع النبيين، وهذا أمر لا يختلف فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عما جاء به غيره من لدن نوح إلى خاتم النبيين كله واحد.
والمعنى الثاني: الإسلام بالمعنى الخاص وهو ما يضاف إلى ذلك من الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي هي مهيمنة وناسخة للشرائع السابقة.
إذاً: فالإسلام بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعني هذا المعنى وهو: الإسلام الخاص، ولا يعني ذلك أن نخرج الأمم من مسمى الإسلام، فآدم وذريته مسلمون إلا من انحرف فيما بعد عن الإسلام، ونوح وأتباعه مسلمون، وإبراهيم وأتباعه مسلمون، وبنوه الذين بعثهم الله وجعل النبوة في ذريته ذرية يعقوب وذرية إسحاق وذرية إسماعيل، وأغلب أنبياء بني إسرائيل من ذرية إسحاق، لكن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل، فهم فيهم النبوة، وكلهم جاءوا بالإسلام، وكلهم وأتباعهم مسلمون، لكن بعدما اندثرت الشرائع وطالها التحريف ووقع أتباعها في الجهل والفرقة والتحريف والتبديل نسخ الله ذلك كله وأبدله بهذا الدين وبهذا الإسلام، فصار الإسلام يعني هذا الإسلام الخاص الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يسع أحد من الناس بأن يدّعي أنه مسلم بمجرد أن ينتسب إلى نبي كما هي الدعوى الحاصلة الآن من رافعي لواء التقريب بين الديانات الكتابية أو ما يسمى بالديانات الإبراهيمية، فإنهم زعموا أن هؤلاء كلهم على الإسلام؛ لأنهم أتباع الأنبياء، وهذا خطأ، بل ضلال مبين، ومن أعظم الضلال والتلبيس، فإنا كما نؤمن بموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كلهم أوصوا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، فلا يجوز أن نتبع غيره ولا أن نعترف بالإسلام أو بأن من حاد عن هذا الدين على الحق، لا نعترف لأحد بالإسلام إلا من كان على هذا الدين، ولا أنه على الحق إلا من كان على هذا الدين، وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (والله لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار).
ويعني هذا أن دعوى بني إسرائيل بأنهم هم أولياء إبراهيم هذه دعوى باطلة، وكذلك دعوى أصحاب القوميات والنزعات القومية العرقية الذين يدعون أن اجتماع العرب واجتماع الأمم ينبغي أن يكون على مثل هذه السلالة، وأن الأخوة بين البشر ينبغي أن تنبني على مثل ذلك، حتى ادعوا أن بني إسرائيل المعاصرين من اليهود إخوة للمسلمين؛ لأنهم كلهم يرجعون إلى إبراهيم عليه السلام، وهذا خطأ، لأن الله عز وجل إنما أشار إلى أن الولاية للذين اتبعوه إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ[آل عمران:68] لا الذين انتسبوا إليه بالنسب، ومع أننا نلتقي مع بني إسرائيل الذين هم اليهود نسباً بإبراهيم عليه السلام، لكن لا يعني ذلك أن هذا هو طريق الولاية، فالولاية لا تكون إلا بالإيمان والتقوى، ولا تكون إلا باتباع ملة إبراهيم التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ جميعاً، أي: الذين اتبعوا إبراهيم على هذا النهج، وكذلك اتبعوا هذا النبي الذي هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية من الآيات المحكمة في تقرير الولاية وتقرير الولاء للمسلم، فلا يجوز للمسلم أن يوالي إلا على الدين، ولا يوالي على دين إلا على دين الإسلام، وأن الذين ينحرفون عن هذا الدين الذي هو الإسلام ليسوا أولياء لا لإبراهيم ولا لغيره من النبيين، بل النبيون براء منهم، والمؤمنون يجب أن يتبرءوا منهم، ويجب أن يكون هذا الحد من الأمور الواضحة عند كل مسلم، فلا يوالي إلا على الدين، ولا يوالي إلا على النهج السليم الذي هو مقتضى السنة، ولذلك لا تحصل للمسلم ولا لغيره الولاية لله عز وجل إلا بالإيمان، ولا يمكن لأحد أن يدّعي دعوى صحيحة أنه من أتباع إبراهيم ولا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا التزم هذا الدين، وهذا يقتضي بالضرورة البراءة من عكس ذلك.. والبراءة ممن لم ينتسب لهذا الدين الحق.
وهذا يفيد أن المعوّل في الحكم بالصلاح والاستقامة وتحقيق رضا الله عز وجل وتقواه هو التقوى والعمل الصالح، وليس المظاهر ولا الأموال، فالأموال والأجسام والصور يعطيها الله عز وجل جميع العباد.. المسلم والكافر، إذاً: المعوّل على ما في القلوب والأعمال من الإيمان بالله عز وجل والتقوى والإحسان والاستقامة وسائر الأعمال القلبية التي يتحقق بها الإيمان الحقيقي الذي أراده الله عز وجل، وأيضاً الأعمال لا تصح إلا على مقتضى دين الله عز وجل.
فإذاً: الولاية لله لا تكون إلا بذلك؛ لأن معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم) بمعنى أن الله عز وجل لا يبالي بغير ذلك، ولا تنال ولاية الله إلا بالتقوى والعمل.
فهذا الحديث ونحوه من الأحاديث المشابهة تعتبر من النصوص التي تشتبه معانيها، ولا بد من ردها إلى نصوص أخرى، والاشتباه آتٍ من أن أهل الأهواء استدلوا بمثل هذا الحديث على أن الصحابة ارتدوا، وهذا استدلال خاطئ ومبني على أن أهل الأهواء لا يردون النصوص إلى النصوص الأخرى، ولا يفسّرون النص بنص آخر، أو يردون النصوص إلى القواعد الشرعية التي تفسرها وتبينها، فإن هذا الحديث وأمثاله جاء على عدة ألفاظ وعلى عدة معانٍ تقتضي أن نفسّر هذا الحديث بغيره، وهذا الحديث لا بد أن يخصص هذه الفئة الذين يرتدون، والمخصص هو الأحاديث الأخرى التي فيها تزكية الصحابة رضي الله عنهم وأن الله رضي عنهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي عنهم وقد زكاهم وأمر بعدم سبهم، وعلى ذلك فإنا لا بد أن نفسّر الحديث بمقتضى نصوص أخرى كما سيأتي.
إذاً: الحديث من يعني من فئة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟
بعض أهل العلم قال: إن هذا فيه إشارة إلى المنافقين ممن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتظاهرون بأنهم أصحابه، وهؤلاء لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وبعضهم قال: إن هذا لا يعني الردة، وهو الراجح، وإن وردت في بعض ألفاظه: (ارتدوا) وارتدوا بمعنى تراجعوا أو تركوا بعض الحق لا ارتدوا عن الإسلام، فيحمل الحديث على معنى آخر، وهو أن المقصود به الذين وقعوا في أخطاء عن اجتهاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ممن كانوا في وقته لكنهم يذادون عن الحوض فقط، ولا يعني ذلك عدم دخولهم الجنة، فهم يعاقبون بذنوب كسائر الذنوب التي يقع فيها المؤمنون، فهم قد يكونون ممن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا احتمال بعيد، لكن ليسوا من أصحاب الردة أو البدع أو الأهواء والافتراء، إنما ممن وقعوا في معاصٍ أو مخالفات للسنة، فيذادون عن الحوض ولا يشربون لكنهم يدخلون الجنة، وهذا يؤيده القول الراجح في أن الحوض بعد الصراط، ونحن نعلم أن من تجاوز الصراط لا بد أن يدخل الجنة، لكن قد يحصل له قبل دخول الجنة أمور، منها: أن توصد أبواب الجنة أمام الكثيرين من المؤمنين، وأيضاً بعض المؤمنين قد لا يشربون من الحوض عقوبة لهم على ذنوب عملوها، لكنهم نجوا بغيرها فعوقبوا عقوبة جزئية لا تحرمهم من الجنة، لكن تحرمهم من بعض النعيم قبل دخول الجنة، وهذا على احتمال أن المقصود به أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الاحتمال الراجح والذي يفسره النصوص أن المقصود بـ (أصحاب) هنا الأتباع وليس المقصود بالأصحاب الصحابة، لأن أمة النبي صلى الله عليه وسلم كلهم أصحابه وإن كان فسّر ذلك في حديث آخر حينما قال: (أنتم أصحابي) فنقول: إن المقصود هنا بالأصحاب المعنى الخاص، والأصحاب هناك يقصد المعنى العام، ولا شك أن الصحبة لها معنى خاص ومعنى عام، فالأصحاب قد تطلق على الأتباع حتى على مقتضى اللغة العربية، وجاءت بعض الألفاظ الشرعية تدل على أن الأصحاب هم الأتباع الذين هم الأمة، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم جملة أمته، وصحابته الذين عاشوا في عصره لهم صحبة أخص؛ فإذاً: المقصود بالأصحاب هنا المعنى اللغوي العام، وهو أنهم من أمته.
ثم قال: (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)، هذا يدل على أنه ليس المقصود بهم الصحابة؛ لأن الصحابة جملتهم ناجون بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فقد شهد لطوائف بالجملة لهم المبشرون بالجنة، أهل بيعة الرضوان، الذين حضروا الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم.. فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لجماعات من الصحابة وفئات، ثم إنه زكاهم ونهى عن سبهم، والله عز وجل رضي عنهم، فهذا دليل على أن المقصود بالذين يذادون ويردون عن الحوض هم أهل البدع والأهواء والافتراق، والمعاصي المغلّظة الذين ابتدعوا بعد الصحابة، أو في عهد الصحابة ممن ليسوا من الصحابة كأصحاب الافتراق الأول من الشيعة والخوارج، فقوله: (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم) فيه دلالة على أن الذين ينجون قلة، وهذا ليس من أصل الصحابة، فالصحابة ناجون، أما من بعدهم فلا ينجو إلا القليل، والهمل هي الفرد من الإبل أو الغنم أو بهيمة الأنعام، وإن كان المقصود به غالباً الإبل؛ لأنها تسمى هملاً وهي التي تند عن مجموعة الإبل وتشذ، فتهمل فلا تكون تحت رعاية صاحبها، والناس يسمون هذا النوع هملاً، وهو البعيد عن مجموع الإبل والمنفرد في الصحراء، وهي ضالة الإبل.
فهذه الضالة غالباً تكون نادرة إما واحدة أو اثنتين من بين مئات من الإبل وهذا الوصف لا ينطبق على الصحابة.
إذاً: مثل هذه النصوص تفسر النصوص السابقة في أن الذين يذادون عن الحوض هم أهل التبديل والتغيير من أهل البدع والأهواء والافتراق والمعاصي المغلظة وأهل الفساد الذين يشذون عن الجماعة، فهذا الصنف هم الذين يذادون عن الحوض، وهذه الأمة المسلمة كلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهناك تفسير جيد لبعض أهل العلم أنه فرق بين الصحبة في الدنيا والصحبة في الآخرة، فالصحابة في الدنيا هم الجيل الذين عاشوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على التعريف المعروف عند أهل العلم، أما الصحابة في الآخرة فكل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أمة الإجابة كلهم صحابته يوم القيامة؛ لأنهم في صحبته وتحت لوائه، فهذا ربما يفسر النص في المعنى الذي فسره جمهور أهل العلم، وهو أن المقصود به أهل الأهواء والبدع والافتراق.