أما بعد:
بعون الله وتوفيقه نستأنف دروسنا في الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال رحمه الله تعالى: [ ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165] الآية، وقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146] .. الآيات، والأكثرون يقرءون: (قاتل)، والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف هم الجماعات الكثيرة، قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم في رواية عنه والفراء: ألوف كثيرة. وقال ابن عباس في أخرى ومجاهد وقتادة: جماعات كثيرة، وقرئ بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة فالربيون الذين قاتلوا معه الذين ما وهنوا وما ضعفوا، وأما على قراءة أبي عمرو.. وغيره ففيها وجهان:
أحدهما: يوافق الأول، أي: الربيون يُقتلون، (فما وهنوا)، أي: ما وهن من بقي منهم لقتل كثير منهم، أي: ما ضعفوا لذلك ولا دخلهم خور ولا ذلوا لعدوهم، بل قاموا بأمر الله في القتال حتى أدالهم الله عليهم وصارت كلمة الله هي العليا ].
في هذه السطور لا يزال الشيخ يقرر مسألة التوكل على الله عز وجل، وهي من أعظم مباني العبودية، فهو رحمه الله من أول الكتاب يقرر مسألة العبودية والإلهية لله عز وجل، ولا يزال يقرر مسألة التوكل حتى في هذا المقام، وهو هنا يقرر أن الذين ما ضعفوا ولا استكانوا، ونصرهم الله عز وجل أو وعدهم بالنصر لقوة توكلهم، هم الخلص الذين كانوا مع الأنبياء؛ لأنهم حققوا التوكل الذي هو من أعظم مباني العبودية، مع أن الشيخ بعد قليل سيقرر في هذه المسألة معنى الربّيون وأقوال الناس فيها، وهي استطراد منه رحمه الله لاستكمال الموضوع.
قال رحمه الله تعالى: [ والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل معه ربيون كثير، فما وهن من بقي منهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يناسب صراخ الشيطان أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قُتل، لكن هذا لا يناسب لفظ الآية، فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة ما وهنوا، ولو أريد أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل ومعه ناس لم يخافوا لم يحتج إلى تكثيرهم، بل تقليلهم هو المناسب لها، فإذا كُثّروا لم يكن في مدحهم بذلك عبرة.
وأيضاً لم يكن فيه حجة على الصحابة، فإنهم يوم أحد قليلون والعدو أضعافهم، فيقولون: ولم يهنوا؛ لأنهم ألوف ونحن قليلون.
وأيضاً فقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ [آل عمران:146]يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يُعرف أن أنبياء كثيرين قُتلوا في الجهاد.
وأيضاً فيقتضي أن المقتولين مع كل واحد منهم ربيون كثير، وهذا لم يوجد، فإن من قبل موسى من الأنبياء لم يكونوا يقاتلون، وموسى وأنبياء بني إسرائيل لم يُقتلوا في الغزو، بل ولا يُعرف نبي قتل في جهاد، فكيف يكون هذا كثيراً ويكون جيشه كثيراً؟ ].
هذه فائدة نادرة من شيخ الإسلام ، والتي كثيراً ما يتكلم عنها عن علم واستقراء، فقوله: (ولا يُعرف نبي قُتل في جهاد) مبني على استقرائه رحمه الله، بمعنى: أنه لم يرد في النصوص الشرعية التي ذكرت قصص الأنبياء أن نبياً قد قتل في جهاد، فهذه من الدرر التي كثيراً ما يشير إليها شيخ الإسلام في كتاباته؛ لأن الله قد أعطاه علماً وإحاطة بكثير من المراجع، فكان إذا قرأ الكتاب استوعبه، ومع كثرة قراءته كانت كثيراً من استنتاجاته صائبة؛ لأنها مبنية على الاستقراء، ولذلك نجده في حواره مع الآخرين خاصة من أهل الفرق والمذاهب كان أعلم منهم بمذاهبهم، وقد اعترفوا له بذلك، وقد سُطّرت اعترافات كثير منهم ولا تزال موجودة في كتبهم، فاعترفوا له بأنه أعلم منهم بمذاهبهم؛ لأنه كان رحمه الله يقرأ كثيراً ويستوعب ما يقرأ.
ولذلك فمثل هذه الفائدة وغيرها كثير، ينبغي أن يحرص عليها طلاب العلم، وأتمنى لو أن أحد طلاب العلم انبرى لجمع مثل هذه الفوائد النادرة في مصنف واحد ليستفيد منها طلاب العلم، سواء في مفردات المسائل أو فيما يتعلق بالأصول والقواعد، أو ما يتعلق بالمناهج، أو ما يتعلق بالمواقف.. وغير ذلك مما هو لـشيخ الإسلام من استنتاجات مبنية على استقرائه، فقد كان رحمه الله أحياناً يجزم بناء على استقرائه، وأحياناً يغلّب الظن، لكن غالباً كان يجزم بناء على ما توصل إليه من خلال اطلاعه الواسع.
قال رحمه الله تعالى: [ والله سبحانه أنكر على من ينقلب، سواء كان النبي مقتولاً أو ميتاً، فلم يذمهم إذ مات أو قُتل على الخوف، بل على الانقلاب على الأعقاب ].
لأن هذا ينافي التوكل، وهذا استطراد منه رحمه الله -كما قلت- يستوفي فيه مسألة عارضة.
قال رحمه الله: [ ولهذا تلاها الصدّيق رضي الله عنه بعد موته صلى الله عليه وسلم، فكأن لم يسمعوها قبل ذلك.
ثم ذكر بعدها معنى آخر: وهو أن من كان قبلكم كانوا يقاتلون فيقتل منهم خلق كثير وهم لا يهنون، فيكون ذكر الكثرة مناسباً؛ لأن من قُتل مع الأنبياء كثير، وقتل الكثير من الجنس يقتضي الوهن، فما وهنوا وإن كانوا كثيرين، ولو وهنوا دل على ضعف إيمانهم ].
إن ضعف إيمانهم كان نتيجة لضعف التوكل كما قلت، وهنا ذكر أنهم ما وهنوا لقوة تألههم بالله عز وجل، وأنهم قد حققوا العبودية التي من أعظم مبانيها التوكل، فما وهنوا لقوة توكلهم على الله عز وجل.
قال رحمه الله: [ ولم يقل هنا: ولم ينقلبوا على أعقابهم، فلو كان المراد أن نبيهم قُتل لقال: فانقلبوا على أعقابهم؛ لأنه هو الذي أنكره إذا مات النبي أو قُتل، فأنكر سبحانه شيئين: الارتداد إذا مات أو قُتل، والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو، ولهذا قال: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ [آل عمران:146] .. إلى آخره، ولم يقل: فما وهنوا لقتل النبي، ولو قُتل وهم أحياء لذكر ما يناسب ذلك ولم يقل: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، ومعلوم أن ما يصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قتل نبي.
وأيضاً فكون النبي قاتل معه أو قُتل معه ربيون كثير لا يستلزم أن يكون النبي معهم في الغزاة، بل كل من اتبع النبي وقاتل على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من قُتل على دينه فقد قُتل معه، وهذا الذي فهم الصحابة، فإن أعظم قتالهم كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، حتى فتحوا البلاد شاماً، ومصراً، وعراقاً، ويمناً، وعرباً، وعجماً، وروماً، ومغرباً، ومشرقاً، وحينئذ فظهر كثرة من قُتل معه، فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون، ويكون في هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه وإن كان قد مات، والصحابة الذين يغزون في السرايا والنبي ليس معهم، كانوا معه يقاتلون، وهم داخلون في قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29].. الآية، وفي قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ [الأنفال:75].. الآية، ليس من شرط من يكون مع المطاع أن يكون مشاهداً للمطاع ناظراً إليه.
وقد قيل في: (ربيون) هنا: إنهم العلماء ].
هذا هو التفسير الثاني للربّيين، الأول بمعنى: الجماعات الكثيرة، فدخل فيه العلماء.. وغير العلماء، لكن هنا التفسير أخص، فقد فسّر الربيين بالعلماء.
قال رحمه الله تعالى: [ وقد قيل في (ربيون) هنا: إنهم العلماء، فلما جعل هؤلاء هذا كلفظ الرباني، وعن ابن زيد : هم الأتباع كأنه جعلهم المربوبين ].
هذا المعنى الثالث في الربيين: الأتباع، وفيه قرب من المعنى الأول.
يقصد الشيخ بالأول هنا: الأول القريب وليس الأول البعيد، يعني: أنهم العلماء -يدل عليه ما سيأتي- وهو أصح من وجوه.
قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أن الربانيين عين الأحبار، وهم الذين يربون الناس، وهم أئمتهم في دينهم، ولا يكون هؤلاء إلا قليلاً].
هذا فيه تضمين للمعاني السابقة، ولا يزال الشيخ في استصحاب قضية حقيقة العبودية، وأن أعظم مباني العبودية التوكل، فهو يميل إلى أن الربيين بمعنى العلماء؛ لأنهم أقوى الناس توكلاً وتحقيقاً للعبودية لله عز وجل، وقيمة هذا الاستطراد من الشيخ رحمه الله استكمال معنى العبودية والتوكل في الربيين، وأن أخص معانيها وأقواها أنهم العلماء والفقهاء، أعني: أهل الأمر المطاعين، والذين لهم اهتمام بتربية الأمة على عبودية الله عز وجل وإلهيته والتوكل عليه.
قال رحمه الله تعالى: [ الثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهم، وأصحاب الأنبياء لم يكونوا كلهم ربانيين، وإن كانوا قد أعطوا علماً ومعهم الخوف من الله عز وجل.
الثالث: أن استعمال لفظ الرباني في هذا ليس معروفاً في اللغة.
الرابع: أن استعمال لفظ الربي في هذا ليس معروفاً في اللغة، بل المعروف فيها هو الأول، والذين قالوه قالوا: هو نسبة للرب بلا نون والقراءة المشهورة: (ربي) بالكسر، وما قالوه إنما يتوجه على من قرأه بنصب الراء، وقد قُرئ بالضم، فعُلم أنها لغات ].
قوله: (بلا نون) يعني: يقال: ربي، ولا يقال: رباني.
قال رحمه الله تعالى: [ الخامس: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد، سواء كان من الربانيين أو لم يكن.
السادس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [المائدة:63].. الآية، وفي قوله: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] فهناك ذكرهم به مناسباً.
السابع: قيل: إن الرباني منسوب إلى الرب، فزيادة الألف والنون كاللحياني، وقيل: إلى تربيته الناس، وقيل: إلى ربان السفينة، وهذا أصح ].
قوله: (ربان السفينة)، أي: قائدها ومدبرها، الآمر والناهي فيها، وكأن الشيخ لا يزال يؤيد أن الربيين بمعنى: العلماء والفقهاء، فهم أهل الأمر والنهي، وأهل القدوة، ونلاحظ أن الشيخ كلما أتت دلالة اصطلاحية أو لغوية تؤيد هذا التفسير نجد أنه يميل إليه.
قال رحمه الله تعالى: [ لأن الأصل عدم الزيادة في النسبة، لأنهم منسوبون إلى التربية، وهذه تختص بهم، وأما نسبتهم إلى الرب فلا اختصاص لهم بذلك، بل كل عبد له فهو منسوب إليه، إما نسبة عموم أو خصوص، ولم يسم الله أولياءه المتقين ربانيين، ولا سمى به رسله وأنبياءه، فإن الرباني من يربي الناس كما يربي الرباني السفينة، ولهذا كان الربانيون يُذمون تارة ويُمدحون أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الرب لم يُذموا قط، وهذا هو الوجه.
الثامن: أنها إن جُعلت مدحاً فقد ذُموا في مواضع، وإن لم تكن مدحاً لم يكن لهم خاصة يمتازون بها من جهة المدح، وإذا كان منسوباً إلى رباني السفينة بطل قول من يجعل الرباني منسوباً إلى الرب، فنسبة الربيون إلى الرب أولى بالبطلان.
التاسع: أنه إذا قُدِّر أنهم منسوبون إلى الرب فلا تدل النسبة على أنهم علماء، نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله، وهذا يعم جميع المؤمنين، فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئاً فهو متأله عارف بالله، والصحابة كلهم كذلك، ولم يُسموا ربانيين ولا ربيون، وإنما جاء أن ابن الحنفية قال لما مات ابن عباس رضي الله عنهم: اليوم مات رباني هذه الأمة، وذلك لكونه يؤدبهم بما آتاه الله من العلم، والخلفاء أفضل منه ولم يُسموا ربانيين، وإن كانوا هم الربانيين.
وقال إبراهيم : كان علقمة من الربانيين.
ولهذا قال مجاهد : هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره. فهم أهل الأمر والنهي، والأخبار يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدث به وإن لم يأمر أو ينه. وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني، نُقل عن علي أنه قال: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء المعلمون.
قلت: أهل الأمر والنهي هم الفقهاء المعلمون. وقال قتادة وعطاء : هم الفقهاء العلماء الحكماء. وقال ابن قتيبة : واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون. قال أبو عبيد : أحسب الكلمة عبرانية أو سريانية، وذلك أن أبا عبيد زعم أن العرب لا تعرف الربانيين.
قلت: اللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة الذي ينزلها ويقوم لمصلحتها، ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون؛ لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل ].
نخرج من هذا الكلام بخلاصة تتكون من شقين:
الشق الأول: أن شيخ الإسلام يرى أن معنى الربانيين هنا: أهل العلم والفقه؛ لأنهم يربون الناس، وهم أهل القدوة والأمر والنهي في الأمة، لذا فهم قد سموا ربانيين من هذا الوجه، وبهذا نفهم سبب سياقه لهذه الآية وتفسيرها، حيث يرى أن العلماء هم الذين يربون الناس على تحقيق العبودية لله عز وجل، وهم الذين يكون عن فقههم حقيقة التوكل على الله عز وجل.
الشق الثاني: أن الشيخ يرى أن استعمال كلمة: (ربانيين) أو (رباني) لا أصل لها شرعاً، وكأنه يكرهها، لذلك قال: لم يسمى أحداً من الصحابة بهذا الوصف وبهذا الاسم مع أنهم أحق الناس، وعلى هذا نفهم من كلامه أنه يرى أن كلمة: (ربانيين) لا أصل لها، وكذلك: (رباني)، وأن الأولى عدم استعمالها.
قال الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون)، وكتاب الله يدل على ذلك في مواضع، مثل قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60] ].
الآية تشير إلى اليهود وإلى كل من سلك سبيلهم، كما هو معروف في غالب ألفاظ القرآن التي تأتي في وصف أعمال أحد من الناس أو تأتي لسبب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومثل هذه الآية لا شك أنها كانت تحكي أخلاق اليهود وأوصافهم، لكن فيها أيضاً إشارة إلى كل من سلك سبيلهم.
قال رحمه الله: [ وقوله: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90]، وقوله: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ [آل عمران:112]، وقال في النصارى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77] ] .
الذين ضلوا وأضلوا كما وردت الإشارة إليه في كثير من النصوص، وكما اتفق عليه السلف أو اشتهر عند جمهورهم: اليهود، ومن كان له أثر في تحريف ديانة النصارى، لكن أعظمهم اليهود، فهم أول من حرّف دين النصارى وسعى إلى تحريفه.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، وقال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:30-31]، وقال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80]، وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57].
ولما أمرنا الله سبحانه أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين، كان ذلك مما يبين أن العبد يُخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين، فقد وقع ذلك كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)وهو حديث صحيح.
وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه من اليهود، ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى ].
وهذا معلوم؛ لأن اليهود انحرفوا عن العلم، بمعنى: أنهم كانوا يعلمون أحكام الله عز وجل، وكانوا على بصيرة من أمرهم، لكنهم انحرفوا عناداً واستكباراً، وكذلك النصارى فقد انحرفوا جهلاً، وكان بسبب انحرافهم تفريطهم في الأخذ بما جاء عن الرسل، فهؤلاء غلوا في ترك ما جاء به الرسل، وأولئك غلوا في الانحراف عما جاء به الرسل.
فإذاً: كل من انحرف عن علم ففيه شبه من اليهود، وكل من انحرف عن جهل، بمعنى: أنه فرّط في أخذ ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ففيه شبه من النصارى؛ لأنه وقع في الجهل بتفريطه.
وكما يرى في منحرفة أهل العبادة والأحوال من الغلو في الأنبياء والصالحين، والابتداع في العبادات، من الرهبانية والصور والأصوات.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) ولهذا حقق الله له نعت العبودية في أرفع مقاماته حيث قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1] ].
هذا فيه تقرير بأن العبودية هي أعلى المقامات التي يمكن أن يصل إليها البشر، بعكس ما يتوهمه كثير من أهل التصوف والفلسفة، وأيضاً كثير من الجهلة الذين يتوهمون أن التعبد لله عز وجل فيه نوع من القيود والاستذلال للبشر، بل الأمر بعكس ذلك؛ لأن التذلل لله عز وجل بالعبودية هي الكمال الذي يطمع إليه البشر، ولذلك وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أعلى المقامات، وذلك عندما أسرى به إلى بيت المقدس، ووصفه بها عند المقام المحمود الذي وعده الله به يوم القيامة، ووصفه بها في مقام الوحي، ووصفه بها في مقام الصلاة والقيام لله عز وجل بالعبادة.
إذاً: فالعبودية لله هي أعلى مقام يسعى إليه البشر، وأعلى مقام يمكن أن يصل إليه بشر؛ لأن ذلك يعني الاستجابة لله عز وجل وتحقيق رضاه.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10].
وقال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، ولهذا يشرع في التشهد وفي سائر الخطب المشروعة، كخطب الجمع والأعياد، وخطب الحاجات عند النكاح وغيره أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ].
الشاهد هنا: الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية، وأنها من أعظم ما يمكن أن يحتسبه المسلم عند الله عز وجل؛ ولهذا شرع في التشهد وغيره أن يقول المسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فالشهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية تعتبر من أعظم ما يحتسبه المسلم ويدين الله به؛ لأن ذلك أعلى المقامات للبشر.
سيذكر الشيخ صوراً أربعاً من الصور العملية للعبودية التي يغفل عنها كثير من الناس، ويظنونها من باب الأحكام أو أنها من باب المنهيات .. أو نحو ذلك، في حين أنها من أعظم صور العبودية التي ينبغي أن تكون في أعمال الناس وفي أقوالهم، سواء كانت قولية أو فعلية.
قال رحمه الله: [ حتى قال له رجل: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده).
وقال أيضاً لأصحابه: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، بل قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد).
وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني).
وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)].
الصورة الأولى: قوله: (ما شاء الله)، ثم ذكر تبعاً لذلك صوراً من صور الإخلال بجوانب العبودية، وهو قوله: (وشئت)، فـ: (ما شاء الله) تحقيق للعبودية لله عز وجل، وعطف مشيئة النبي صلى الله عليه وسلم .. أو غيره على مشيئة الله تعتبر نوعاً من الإخلال بالعبودية؛ لأنه هنا لا مشيئة مع مشيئة الله عز وجل، ولأن العطف يقتضي المساواة، ولذلك ينبغي أن يقال: ما شاء الله وحده؛ لأن المشيئة لا عطف فيها.
الصورة الثانية: قوله: (ما شاء الله وشاء محمد)، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهو قول، لكن القول لا ينبع إلا عن اعتقاد، ولذلك صحح النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، وهو تصحيح للاعتقاد والقول.
الصورة الثالثة: متمثلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني).
فهذا نوع من تحقيق العبودية لله عز وجل، والإخلال به إخلال بالعبودية، وعلى هذا فلا يجوز اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، يعني: مكاناً للتقديس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لم يعد له تصريف أو تدبير أو نفع مباشر للبشر، وإنما نفعه صلى الله عليه وسلم كان في حياته، واتخاذ قبره عيداً هو نوع من البدعة التي تؤدي إلى تعظيمه وتقديسه فيما لا يجوز إلا لله عز وجل، وحتماً سيؤدي عند الجهلة إلى دعائه من دون الله عز وجل، وممارسة الأعمال التي تخل بتوحيد الإلهية أو تنقيص الربوبية.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)؛ لأنهم في بنائهم للمساجد على القبور قد فتحوا ذريعة لتقديس القبور، ودعاء أهلها من دون الله عز وجل، والتوجه إليها بالصلاة.. وغير ذلك، وقد وقع ما حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك القوم المبتدعة الذين بنوا وشيدوا المساجد على القبور، لذا فأهل البدع معلوم أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأن قلوبهم قد مرضت بالبدع، حتى إن عامة الناس الذين ابتليت بلادهم بوجود المساجد على القبور ظنوا أن لصاحب القبر من القدرة ومن الأحوال التي يتصرف فيها ما لم يكن قبل ذلك، وظنوا أن لصاحب القبر اعتباراً، بل وظن بعضهم أن ذلك يعني: التوجه إليه في الصلاة، وظن آخرون أن ذلك يعني الدعاء عنده أو عند قبره، وآخرون دعوا المقبور أو المدفون من دون الله عز وجل، واستعانوا واستغاثوا به من دون الله، فوقع الشرك والبدعة من خلال ذلك، فهذا إما مناف لتوحيد الألوهية كالشركيات، أو ينقص توحيد الإلهية كالبدع والتبرك.. وغير ذلك، والمساجد إنما هي بيوت الله للعبادة، وهي محترمة ومعظّمة، فإذا وجد القبر في المسجد فلا يعني ذلك إلا التوجه إلى صاحب القبر بشيء من هذه الأمور الشركية أو البدعية، وهذا كما تعلمون منقص لتوحيد الله.
قال رحمه الله تعالى: [ والغلو في الأمة وقع في طائفتين: طائفة من ضلّال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية، وطائفة من جُهّال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين، فمن توهم في نبينا.. أو غيره من الأنبياء شيئاً من الألوهية والربوبية، فهو من جنس النصارى ].
ثم قال في حق الله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح:9].
وقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:156-157].
وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31-32].
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
وذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
وقال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:51-52] فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، كما قال: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51].
وقال: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41].
وقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44].
وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10].
وقال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63].
وقال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، وقال له
فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم من الطاعة له، ومحبته، وتعزيره، وتوقيره، ونصره، وتحكيمه، والرضا بحكمه، والتسليم له، واتباعه والصلاة والتسليم عليه، وتقديمه على النفس والأهل والمال، ورد ما يتنازع فيه إليه.. وغير ذلك من الحقوق ].
في هذه الخلاصة الأخيرة بيّن الشيخ مجمل حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ عدها اثني عشر حقاً: الطاعة، المحبة، التعزير، التوقير، النصرة، التحكيم، أي: تحكيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ثم الرضا بحكمه، والتسليم له، والاتباع، والصلاة والسلام عليه، وتقديمه عليه الصلاة والسلام على النفس والأهل والمال، ورد ما يتنازع فيه إليه، أي: إلى سنته صلى الله عليه وسلم أو إلى حكمه.
فهذه الحقوق ذكرها شيخ الإسلام في مقام التمييز بين عبودية الله عز وجل وطاعته وبين حقوق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدم التفريق بينهما مزلة وقع فيها كثير من العبّاد، وكثير من الغلاة، كالمتصوفة والرافضة، فاختلط عليهم ما ينبغي للرسول صلى الله عليه وسلم من الحقوق، وما ينبغي ويجب لله من العبودية، فخلطوا بين هذا وذاك، ورفعوا حقوق النبي صلى الله عليه وسلم إلى التقديس، وإلى صرف ما لا يجوز إلا لله عز وجل، وهذا فيه إساءة في حق الله عز وجل سبحانه أولاً وقبل كل شيء، ثم أيضاً فيه إساءة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليعبّد الناس لله، والتحذير مما يوقع في تقديسه أو تعظيمه بأكثر مما ينبغي له، ولذلك فقد نهى أشد النهي عن أن يتخذ قبره عيداً، وأن يتخذ قبره مسجداً، وكل ذلك لسد ذريعة أن يتمادى الناس بحقوقه صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يجوز إلا لله سبحانه وتعالى.
والمهم أنه ذكر مجمل حقوق النبي صلى الله عليه وسلم هنا ليميّز بينها وبين ما يجب لله عز وجل من العبودية، وأن الذين غلوا فيه صلى الله عليه وسلم، سواء من الرافضة أو من شايعهم من أهل الغلو في الأشخاص، أو من الصوفية ومن شايعهم كذلك، إنما أتوا من قبل جهلهم في عدم التفريق بين العبودية لله عز وجل وبين حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [ وأخبر أن طاعته طاعته فقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].
ومبايعته مبايعته، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح:10].
وقرن بين اسمه واسمه في المحبة، فقال: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:24]، وفي الأذى فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:57].
وفي الطاعة والمعصية فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:13]، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:14].
وفي الرضا فقال: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة:62] فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.
وقد جمع بينهما في مواضع، كقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123].
وقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58].
وقوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
وكذلك التوكل كما قال: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم:12]، وقال: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38].
وقال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
والدعاء لله وحده، سواء كان دعاء العبادة، أو دعاء المسألة والاستعانة، كما قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا [الجن:18-20]، وقال تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14].
وقال: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ [الشعراء:213].
وقال: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52].
وذم الذين يدعون الملائكة والأنبياء.. وغيرهم فقال: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57]، روي عن ابن مسعود: أن قوماً كانوا يدعون الملائكة والمسيح وعزيراً، فقال الله: هؤلاء الذين تدعونهم يخافون الله ويرجونه، ويتقربون إليه كما تخافونه أنتم، وترجونه وتتقربون إليه، وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:67].
وقال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ [النمل:62].
وقال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68] ].
في هذا المقطع وقبله بدأ الشيخ في تعداد أنواع العبادة، أو في تعداد نماذج من أنواع العبادة، وأنواع العبادة في الحقيقة لا حصر لها، لكن يمكن أن توضع لأنواع العبادة أصولاً، وقد بدأها الشيخ أولاً بمسألة الاستعانة بالله عز وجل، ثم التوكل، ثم الدعاء، أعني: دعاء المسألة، أو دعاء العبادة، ثم بعد ذلك سيأتي بنماذج أخرى فيما بعد.
الجواب: لا أدري، إلا إذا كان قصد السائل أن شيخ الإسلام يذكر هذا غالباً عند ذكر الصوفية، فإن كان قصده ذلك فإن هناك طائفة منهم يتعبدون بالنظر إلى الصور الجميلة، ويقولون: هذه عبادة لله عز وجل، فدخل عليهم الشيطان من باب التلذذ بالمحرم من أجل أن يستهويهم، فجعلوا ذلك عبادة، وقلبوا الأمر حتى جعلوا الكبيرة حسنة، بل عبادة لله عز وجل، ولذلك وقعوا في الفواحش نسأل الله العافية، وكذلك التلذذ بالأصوات، فقد يتعمدون أحياناً أن تقرأ أورادهم البدعية بصوت جميل لا لمجرد ترقيق القلوب، وإنما للتلذذ الشهواني بالأصوات، ويزعمون أن ذلك من التعبد لله سبحانه، وهذا ما عليه طوائف كثيرة من أهل الطرق الصوفية، نسأل الله العافية.
الجواب: لا فرق في الحقيقة، وإنما الفرق في الشكليات، فكلهم يعتقدون في الأشخاص أنهم يعلمون الغيب أو بعض الغيب، كما يعتقدون أنهم يملكون الضر والنفع من دون الله عز وجل، أحياء وأمواتاً، ويعتقدون في الأشخاص أنهم يصرّفون مقاليد الكون أو شيئاً من مقاليد الكون، وأن بيدهم أمور العباد أو بعض أمور العباد، لكن مع ذلك فإن الأشكال والصور تختلف، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر