إسلام ويب

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [6]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أعظم مباني العبودية التوكل على الله تعالى والاستعانة به، ودعاؤه، وهذه هي صفة أتباع الأنبياء الذين وعدهم الله بالنصر لقوة توكلهم عليه، وقد حذر سبحانه وتعالى من التشبه باليهود والنصارى، وما هم عليه من الكفر والضلال الذي سببه الغلو في الدين.
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    بعون الله وتوفيقه نستأنف دروسنا في الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال رحمه الله تعالى: [ ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165] الآية، وقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146] .. الآيات، والأكثرون يقرءون: (قاتل)، والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف هم الجماعات الكثيرة، قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم في رواية عنه والفراء: ألوف كثيرة. وقال ابن عباس في أخرى ومجاهد وقتادة: جماعات كثيرة، وقرئ بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة فالربيون الذين قاتلوا معه الذين ما وهنوا وما ضعفوا، وأما على قراءة أبي عمرو.. وغيره ففيها وجهان:

    أحدهما: يوافق الأول، أي: الربيون يُقتلون، (فما وهنوا)، أي: ما وهن من بقي منهم لقتل كثير منهم، أي: ما ضعفوا لذلك ولا دخلهم خور ولا ذلوا لعدوهم، بل قاموا بأمر الله في القتال حتى أدالهم الله عليهم وصارت كلمة الله هي العليا ].

    في هذه السطور لا يزال الشيخ يقرر مسألة التوكل على الله عز وجل، وهي من أعظم مباني العبودية، فهو رحمه الله من أول الكتاب يقرر مسألة العبودية والإلهية لله عز وجل، ولا يزال يقرر مسألة التوكل حتى في هذا المقام، وهو هنا يقرر أن الذين ما ضعفوا ولا استكانوا، ونصرهم الله عز وجل أو وعدهم بالنصر لقوة توكلهم، هم الخلص الذين كانوا مع الأنبياء؛ لأنهم حققوا التوكل الذي هو من أعظم مباني العبودية، مع أن الشيخ بعد قليل سيقرر في هذه المسألة معنى الربّيون وأقوال الناس فيها، وهي استطراد منه رحمه الله لاستكمال الموضوع.

    قال رحمه الله تعالى: [ والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل معه ربيون كثير، فما وهن من بقي منهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يناسب صراخ الشيطان أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قُتل، لكن هذا لا يناسب لفظ الآية، فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة ما وهنوا، ولو أريد أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل ومعه ناس لم يخافوا لم يحتج إلى تكثيرهم، بل تقليلهم هو المناسب لها، فإذا كُثّروا لم يكن في مدحهم بذلك عبرة.

    وأيضاً لم يكن فيه حجة على الصحابة، فإنهم يوم أحد قليلون والعدو أضعافهم، فيقولون: ولم يهنوا؛ لأنهم ألوف ونحن قليلون.

    وأيضاً فقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ [آل عمران:146]يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يُعرف أن أنبياء كثيرين قُتلوا في الجهاد.

    وأيضاً فيقتضي أن المقتولين مع كل واحد منهم ربيون كثير، وهذا لم يوجد، فإن من قبل موسى من الأنبياء لم يكونوا يقاتلون، وموسى وأنبياء بني إسرائيل لم يُقتلوا في الغزو، بل ولا يُعرف نبي قتل في جهاد، فكيف يكون هذا كثيراً ويكون جيشه كثيراً؟ ].

    هذه فائدة نادرة من شيخ الإسلام ، والتي كثيراً ما يتكلم عنها عن علم واستقراء، فقوله: (ولا يُعرف نبي قُتل في جهاد) مبني على استقرائه رحمه الله، بمعنى: أنه لم يرد في النصوص الشرعية التي ذكرت قصص الأنبياء أن نبياً قد قتل في جهاد، فهذه من الدرر التي كثيراً ما يشير إليها شيخ الإسلام في كتاباته؛ لأن الله قد أعطاه علماً وإحاطة بكثير من المراجع، فكان إذا قرأ الكتاب استوعبه، ومع كثرة قراءته كانت كثيراً من استنتاجاته صائبة؛ لأنها مبنية على الاستقراء، ولذلك نجده في حواره مع الآخرين خاصة من أهل الفرق والمذاهب كان أعلم منهم بمذاهبهم، وقد اعترفوا له بذلك، وقد سُطّرت اعترافات كثير منهم ولا تزال موجودة في كتبهم، فاعترفوا له بأنه أعلم منهم بمذاهبهم؛ لأنه كان رحمه الله يقرأ كثيراً ويستوعب ما يقرأ.

    ولذلك فمثل هذه الفائدة وغيرها كثير، ينبغي أن يحرص عليها طلاب العلم، وأتمنى لو أن أحد طلاب العلم انبرى لجمع مثل هذه الفوائد النادرة في مصنف واحد ليستفيد منها طلاب العلم، سواء في مفردات المسائل أو فيما يتعلق بالأصول والقواعد، أو ما يتعلق بالمناهج، أو ما يتعلق بالمواقف.. وغير ذلك مما هو لـشيخ الإسلام من استنتاجات مبنية على استقرائه، فقد كان رحمه الله أحياناً يجزم بناء على استقرائه، وأحياناً يغلّب الظن، لكن غالباً كان يجزم بناء على ما توصل إليه من خلال اطلاعه الواسع.

    قال رحمه الله تعالى: [ والله سبحانه أنكر على من ينقلب، سواء كان النبي مقتولاً أو ميتاً، فلم يذمهم إذ مات أو قُتل على الخوف، بل على الانقلاب على الأعقاب ].

    لأن هذا ينافي التوكل، وهذا استطراد منه رحمه الله -كما قلت- يستوفي فيه مسألة عارضة.

    قال رحمه الله: [ ولهذا تلاها الصدّيق رضي الله عنه بعد موته صلى الله عليه وسلم، فكأن لم يسمعوها قبل ذلك.

    ثم ذكر بعدها معنى آخر: وهو أن من كان قبلكم كانوا يقاتلون فيقتل منهم خلق كثير وهم لا يهنون، فيكون ذكر الكثرة مناسباً؛ لأن من قُتل مع الأنبياء كثير، وقتل الكثير من الجنس يقتضي الوهن، فما وهنوا وإن كانوا كثيرين، ولو وهنوا دل على ضعف إيمانهم ].

    إن ضعف إيمانهم كان نتيجة لضعف التوكل كما قلت، وهنا ذكر أنهم ما وهنوا لقوة تألههم بالله عز وجل، وأنهم قد حققوا العبودية التي من أعظم مبانيها التوكل، فما وهنوا لقوة توكلهم على الله عز وجل.

    قال رحمه الله: [ ولم يقل هنا: ولم ينقلبوا على أعقابهم، فلو كان المراد أن نبيهم قُتل لقال: فانقلبوا على أعقابهم؛ لأنه هو الذي أنكره إذا مات النبي أو قُتل، فأنكر سبحانه شيئين: الارتداد إذا مات أو قُتل، والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو، ولهذا قال: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ [آل عمران:146] .. إلى آخره، ولم يقل: فما وهنوا لقتل النبي، ولو قُتل وهم أحياء لذكر ما يناسب ذلك ولم يقل: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، ومعلوم أن ما يصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قتل نبي.

    وأيضاً فكون النبي قاتل معه أو قُتل معه ربيون كثير لا يستلزم أن يكون النبي معهم في الغزاة، بل كل من اتبع النبي وقاتل على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من قُتل على دينه فقد قُتل معه، وهذا الذي فهم الصحابة، فإن أعظم قتالهم كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، حتى فتحوا البلاد شاماً، ومصراً، وعراقاً، ويمناً، وعرباً، وعجماً، وروماً، ومغرباً، ومشرقاً، وحينئذ فظهر كثرة من قُتل معه، فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون، ويكون في هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه وإن كان قد مات، والصحابة الذين يغزون في السرايا والنبي ليس معهم، كانوا معه يقاتلون، وهم داخلون في قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29].. الآية، وفي قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ [الأنفال:75].. الآية، ليس من شرط من يكون مع المطاع أن يكون مشاهداً للمطاع ناظراً إليه.

    وقد قيل في: (ربيون) هنا: إنهم العلماء ].

    هذا هو التفسير الثاني للربّيين، الأول بمعنى: الجماعات الكثيرة، فدخل فيه العلماء.. وغير العلماء، لكن هنا التفسير أخص، فقد فسّر الربيين بالعلماء.

    قال رحمه الله تعالى: [ وقد قيل في (ربيون) هنا: إنهم العلماء، فلما جعل هؤلاء هذا كلفظ الرباني، وعن ابن زيد : هم الأتباع كأنه جعلهم المربوبين ].

    هذا المعنى الثالث في الربيين: الأتباع، وفيه قرب من المعنى الأول.

    أوجه ترجيح شيخ الإسلام للمعنى المراد للربيين

    قال رحمه الله تعالى: [والأول أصح من وجوه ].

    يقصد الشيخ بالأول هنا: الأول القريب وليس الأول البعيد، يعني: أنهم العلماء -يدل عليه ما سيأتي- وهو أصح من وجوه.

    قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أن الربانيين عين الأحبار، وهم الذين يربون الناس، وهم أئمتهم في دينهم، ولا يكون هؤلاء إلا قليلاً].

    هذا فيه تضمين للمعاني السابقة، ولا يزال الشيخ في استصحاب قضية حقيقة العبودية، وأن أعظم مباني العبودية التوكل، فهو يميل إلى أن الربيين بمعنى العلماء؛ لأنهم أقوى الناس توكلاً وتحقيقاً للعبودية لله عز وجل، وقيمة هذا الاستطراد من الشيخ رحمه الله استكمال معنى العبودية والتوكل في الربيين، وأن أخص معانيها وأقواها أنهم العلماء والفقهاء، أعني: أهل الأمر المطاعين، والذين لهم اهتمام بتربية الأمة على عبودية الله عز وجل وإلهيته والتوكل عليه.

    قال رحمه الله تعالى: [ الثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهم، وأصحاب الأنبياء لم يكونوا كلهم ربانيين، وإن كانوا قد أعطوا علماً ومعهم الخوف من الله عز وجل.

    الثالث: أن استعمال لفظ الرباني في هذا ليس معروفاً في اللغة.

    الرابع: أن استعمال لفظ الربي في هذا ليس معروفاً في اللغة، بل المعروف فيها هو الأول، والذين قالوه قالوا: هو نسبة للرب بلا نون والقراءة المشهورة: (ربي) بالكسر، وما قالوه إنما يتوجه على من قرأه بنصب الراء، وقد قُرئ بالضم، فعُلم أنها لغات ].

    قوله: (بلا نون) يعني: يقال: ربي، ولا يقال: رباني.

    قال رحمه الله تعالى: [ الخامس: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد، سواء كان من الربانيين أو لم يكن.

    السادس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [المائدة:63].. الآية، وفي قوله: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] فهناك ذكرهم به مناسباً.

    السابع: قيل: إن الرباني منسوب إلى الرب، فزيادة الألف والنون كاللحياني، وقيل: إلى تربيته الناس، وقيل: إلى ربان السفينة، وهذا أصح ].

    قوله: (ربان السفينة)، أي: قائدها ومدبرها، الآمر والناهي فيها، وكأن الشيخ لا يزال يؤيد أن الربيين بمعنى: العلماء والفقهاء، فهم أهل الأمر والنهي، وأهل القدوة، ونلاحظ أن الشيخ كلما أتت دلالة اصطلاحية أو لغوية تؤيد هذا التفسير نجد أنه يميل إليه.

    قال رحمه الله تعالى: [ لأن الأصل عدم الزيادة في النسبة، لأنهم منسوبون إلى التربية، وهذه تختص بهم، وأما نسبتهم إلى الرب فلا اختصاص لهم بذلك، بل كل عبد له فهو منسوب إليه، إما نسبة عموم أو خصوص، ولم يسم الله أولياءه المتقين ربانيين، ولا سمى به رسله وأنبياءه، فإن الرباني من يربي الناس كما يربي الرباني السفينة، ولهذا كان الربانيون يُذمون تارة ويُمدحون أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الرب لم يُذموا قط، وهذا هو الوجه.

    الثامن: أنها إن جُعلت مدحاً فقد ذُموا في مواضع، وإن لم تكن مدحاً لم يكن لهم خاصة يمتازون بها من جهة المدح، وإذا كان منسوباً إلى رباني السفينة بطل قول من يجعل الرباني منسوباً إلى الرب، فنسبة الربيون إلى الرب أولى بالبطلان.

    التاسع: أنه إذا قُدِّر أنهم منسوبون إلى الرب فلا تدل النسبة على أنهم علماء، نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله، وهذا يعم جميع المؤمنين، فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئاً فهو متأله عارف بالله، والصحابة كلهم كذلك، ولم يُسموا ربانيين ولا ربيون، وإنما جاء أن ابن الحنفية قال لما مات ابن عباس رضي الله عنهم: اليوم مات رباني هذه الأمة، وذلك لكونه يؤدبهم بما آتاه الله من العلم، والخلفاء أفضل منه ولم يُسموا ربانيين، وإن كانوا هم الربانيين.

    وقال إبراهيم : كان علقمة من الربانيين.

    ولهذا قال مجاهد : هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره. فهم أهل الأمر والنهي، والأخبار يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدث به وإن لم يأمر أو ينه. وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني، نُقل عن علي أنه قال: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء المعلمون.

    قلت: أهل الأمر والنهي هم الفقهاء المعلمون. وقال قتادة وعطاء : هم الفقهاء العلماء الحكماء. وقال ابن قتيبة : واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون. قال أبو عبيد : أحسب الكلمة عبرانية أو سريانية، وذلك أن أبا عبيد زعم أن العرب لا تعرف الربانيين.

    قلت: اللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة الذي ينزلها ويقوم لمصلحتها، ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون؛ لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل ].

    نخرج من هذا الكلام بخلاصة تتكون من شقين:

    الشق الأول: أن شيخ الإسلام يرى أن معنى الربانيين هنا: أهل العلم والفقه؛ لأنهم يربون الناس، وهم أهل القدوة والأمر والنهي في الأمة، لذا فهم قد سموا ربانيين من هذا الوجه، وبهذا نفهم سبب سياقه لهذه الآية وتفسيرها، حيث يرى أن العلماء هم الذين يربون الناس على تحقيق العبودية لله عز وجل، وهم الذين يكون عن فقههم حقيقة التوكل على الله عز وجل.

    الشق الثاني: أن الشيخ يرى أن استعمال كلمة: (ربانيين) أو (رباني) لا أصل لها شرعاً، وكأنه يكرهها، لذلك قال: لم يسمى أحداً من الصحابة بهذا الوصف وبهذا الاسم مع أنهم أحق الناس، وعلى هذا نفهم من كلامه أنه يرى أن كلمة: (ربانيين) لا أصل لها، وكذلك: (رباني)، وأن الأولى عدم استعمالها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089104679

    عدد مرات الحفظ

    781720517