أولاً: آية الكرسي معروفة بدلالتها على أسماء الله عز وجل، قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] فهذه كلها أسماء.
وقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2] فهذه مع اسم الجلالة: (الله) قد أثبت اسم (الأحد) لله عز وجل، وكذلك: (الصمد).
وبعده: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2]، صرحت باسم (العليم)، وباسم (الحكيم)، وتضمن صفة (العلم)، وصفة (الحكمة).
وكذلك: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54]، تضمنت صفة (العلم) و(القدرة)، مع ثبوت الاسمين.
وكذلك: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، تضمنت أيضاً من الصفات: (السمع) و(البصر)، مع ثبوت الاسمين.
وكذلك: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم:4]، تضمنت صفة (العزة) و(الحكمة)، مع ثبوت الاسمين.
وكذلك: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107] كذلك تضمنت مع ثبوت الاسمين صفة (المغفرة) وصفة (الرحمة).
وكذلك: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14]، تضمنت صفة (المغفرة) وصفة (المودة).
وكذلك: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]، تضمنت الخبر عن الله عز وجل، وأنه ذو عرش، وكذلك اسم (المجيد) وصفة (المجد).
وكذلك: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، تضمنت معنى الفعل لله عز وجل، وكذلك الإرادة.
وقوله: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]، هذه أسماء لله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرح معانيها فقال: (الأَوَّلُ الذي ليس قبله شيء، وَالآخِرُ الذي ليس بعده شيء، وَالظَّاهِرُ الذي ليس فوقه شيء، وَالْبَاطِنُ الذي ليس دونه شيء)، فهذه أسماء تضمنت صفات وأخبار الأولية والآخرية والظهور والباطن، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، تضمنت أيضاً اسم (العليم) وصفة (العلم) لله عز وجل.
فقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)، تضمنت صفة (الخلق).
وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، تضمنت صفة (الاستواء).
وقوله: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا)، تضمنت عموم علم الله عز وجل.
وقوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ) تضمنت صفة (المعية) المقيدة بثبوت العلو كما هو معلوم، وليست معية الحلول والاتحاد والمخالطة ووحدة الوجود، وإنما المعية هنا: المعية في العلم.
وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، تضمنت صفة (البصر) لله عز وجل.
ثم قوله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]
فقوله: (مَا أَسْخَطَ اللَّهَ) تضمنت صفة لله عز وجل على ما يليق بجلاله.
وقوله: (وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ) تضمنت صفة لله عز وجل.
وقوله: (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) تضمنت فعلاً من أفعال الله.
وقوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، تضمنت صفة (المحبة) لله عز وجل.
وكذلك قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [المائدة:119]، تضمنت صفة الرضا لله عز وجل.
وكذلك قول الله عز وجل: لَمَقْتُ اللَّهِ [غافر:10]، هذا فعل من أفعال الله عز وجل، وقد يفهم منه صفة لله عز وجل، لكن مع اعتبار السياق، لأن سياقات النصوص معتبرة عند السلف، فلا تثبت هذه الصفات، مثل: المقت والسخط والغضب إلا على وجه الكمال لله سبحانه، وعلى اعتبار المفهوم من السياق؛ يعني: أن المفهوم من سياق كل آية -بحسب ما وردت- وكل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن صفة لله عز وجل -بحسب ما ورد- هذا أمر معلوم عند السلف، ولا بد أن يلتزموه، وهو من لوازم إقرارهم بالصفات.
وكذلك قوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة:210]، فصفة (الإتيان) تثبت لله عز وجل على نحو ما جاءت في السياق.
وكذلك قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29]، فالاستواء هنا ليس هو الاستواء على العرش -هذه من الأدلة العاضدة لأدلة الاستواء على العرش- وإنما الاستواء هنا يفسر بمعنى: العلو والارتفاع، ولا مانع أن يضاف إلى تفسير معنى الاستواء على العرش، لكن هذا النص وحده ليس هو الدليل على الاستواء على العرش، فالاستواء على العرش قد ورد في نصوص أخرى، فهنا استوى كما يليق بجلاله، والفعل: (استوى) إذا عدي بـ(إلى) ثم أشير إلى السماء فإنها تعني: العلو والارتفاع، وتعني المعاني الكاملة التي تقتضيها المعاني اللغوية.
وكذلك قوله عز وجل: فَقَالَ لَهَا [فصلت:11]، إثبات صفة (القول) لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وهي فرع عن صفة (الكلام).
وبعد ذلك: وَنَادَيْنَاهُ [مريم:52]، هذه من أفعال الله عز وجل.
وكذلك: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ [القصص:62]، هذه من أفعال الله عز وجل، وهي مرتبطة بالكلام والصوت.
وكذلك: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
فقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ) إثبات (الأمر) لله سبحانه.
وقوله: (إِذَا أَرَادَ) إثبات صفة (الإرادة).
وقوله: (أَنْ يَقُولَ) إثبات صفة (القول) لله سبحانه.
وكذلك آيات سورة الحشر كلها في أسماء الله وصفاته، وهكذا بقية النصوص.
هذا بداية الرد على الطوائف الأربع -الشيخ قد ذكر منها ثلاثاً، والرابعة قد تضمنها كلامه- وهذه الطوائف زاغت عن سبيل الحق، ووقعوا فيما نهى الله عنه من اتباع المتشابه، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، وحادوا في باب أسماء الله وصفاته، وهي:
الطائفة الأولى: الذين عطلوا غاية التعطيل، وهم غلاة المعطلة الذين يسلبون عن الله النقيضين.
الطائفة الثانية: الذين قاربوهم ممن وصف الله عز وجل بالسلبيات وبالنقيض، والسلوب هو: كل وصف لله فيه سلوب، وهؤلاء كلهم فلاسفة.
الطائفة الثالثة: الذين أثبتوا لله الأسماء ونفوا الصفات.
الطائفة الرابعة: الذين نفوا بعض الصفات وأثبتوا البعض، ولم يذكرهم الشيخ، لكنه عند الرد على الجميع سيشملهم، وهؤلاء كلهم يسمون مؤولة ومعطلة ونفاة، مع أنهم يتفاوتون، فمنهم من يعطل تعطيلاً صريحاً، ومنهم من يؤول.
وهذه الطوائف الأربع قد اجتمعت كلها في قدر مشترك، وهو نفي ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، والإلحاد في أسماء الله وصفاته إلحاداً كلياً أو جزئياً، والتأويل لما ثبت أو بعض ما ثبت، وعلى هذا فإن هذا الرد من الشيخ سيشمل من أنكر كل شيء، أو أنكر الأسماء دون الصفات، أو أنكر الأسماء مع الصفات، أو بعض الصفات دون بعض، أو أنكر وأول صفة واحدة، فكل هؤلاء يشملهم هذا الرد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات، كالحيوان والمعدن ].
هذا بداية التفصيل من المصنف لما أجمله من الأمور المتفق عليها عند جميع الطوائف، فبدأ بالبرهان الأول وهو: أننا نشاهد حدوث المحدثات، كالحيوان والمعدن وغيرهما.
ثم قال رحمه الله تعالى: [ والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد علم بالاضطرار، أن المحدث لا بد له من محدث، والممكن لابد له من موجد ].
هذا الاستدلال أو البرهان الثاني، وهو أن الحادث ممكن وليس بواجب ولا ممتنع، بمعنى: أنه قابل للوجود والعدم، فيفترض العقل أن هذا الوجود الذي يقبل العدم قد بدأ من لا شيء.
عند التأمل في البراهين القرآنية نجد أنها تتميز عن براهين الفلاسفة وغيرهم بالبساطة والقوة، والإيجاز والوضوح، وهذا إعجاز، فقاعدة: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، قد يكتب فيها الفلاسفة المجلدات، لكن لبعدهم عن الحق وقعوا في المتاهات والضلالات، مع أن هذه قاعدة فطرية يدركها البليد ومتوسط الذكاء والعبقري، بل والبسيط من أصحاب الفهم الذين لا يكون عندهم عادة قدرة وتمكن في التفكير، ومع ذلك يدركون هذه القاعدة الفطرية.
ولذا فإن الإنسان إذا تأمل هذه القاعدة، وجد أنه لا يمكن أن يحيد عقله السليم عن أنه لا يمكن أن يكون قد خلق الخلق من غير شيء، ثم تأتي درجة ثانية وهي: إذا كانوا خلقوا من غير شيء، فهل يعقل أنهم خلقوا أنفسهم؟! هذه القاعدة في ثلاث عبارات أو عبارتين سليمة من المقدمات المعقدة، ومن الافتراضات الفلسفية، وفي نفس الوقت هي فطرية وضرورية ولازمة، يعني: لا يستطيع أن ينفك عنها العاقل، فكل عاقل لا بد أن يقف عندها بوضوح، وعند ذلك يصل إلى نتيجة جازمة لا شك فيها ولا ريب، بأنهم لم يخلقوا من غير شيء ولم يخلقوا أنفسهم، وهذا يشمل كل المخلوقات.
هذا دليل بدهي في الرد على الذين أنكروا الأسماء والصفات، كالجهمية، أو أنكروا بعضها، كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم، فهؤلاء كلهم يرد عليهم بمثل هذه القاعدة العقلية البدهية، إذ إن شبهتهم في إنكار الأسماء أو الصفات أو بعضها: أن إثبات هذه الأسماء أو الصفات لله عز وجل يقتضي التشبيه، فالجهمية يقولون: إذا سمينا الله عز وجل بالعليم أو الحكيم فقد شبهناه بالمخلوق؛ لأن المخلوق قد يكون حكيماً، وكذلك الذين ينفون الصفة يقولون: الحكمة من صفات المخلوقين، فإذا وصفنا بها الخالق فقد شبهناه بالمخلوق، وبالتالي نفوا عنه الحكمة، وكذلك بقية الصفات، فكان الاشتباه عندهم هو في التشابه اللفظي، والشيخ قد بدأهم من حيث الأساس الذي ينطلقون منه جميعاً، فكلهم يثبتون الوجود لله، سواء الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والمؤولة لبعض الصفات أو لكثير منها، وكلهم يجتمعون على وصف الله باعتبار أنه موجود.
فيقول لهم: أنتم إذا عبرتم عن الله بأنه موجود، أليست كلمة (موجود) اسماً وصفة؟ سيقولون: بلى. يقول: إذا كان من أجل التشابه اللفظي تنكرون الأسماء والصفات، فكذلك كلمة: (وجود) فيها اشتباه لفظي؛ لأننا كما نصف الله بأنه موجود، والمخلوق موجود، نستطيع أن نقول: المخلوق إذاً غير موجود، لكن ما دام أنه موجود فإذاً هو حي ويرزق، وعليه فكما نفيتم يلزمكم أن تنفوا حتى الوجود، وأما إذا أثبتم الوجود -مع وجود الاشتباه اللفظي- فيلزمكم أن تثبتوا بقية الصفات لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وإن قلتم: نحن نثبت وجوداً يليق بجلال الله، فنحن نقول أيضاً: ونحن نثبت لله بقية الأسماء والصفات على ما يليق بجلاله، فما الفرق؟! وهذه قاعدة تطرد معنا في الدروس التي ستأتي بمشيئة الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود، وإن البعوض شيء موجود، إن هذا مثل هذا، لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود؛ لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه، بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كلياً هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل هذا موجود، وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما].
يمكن أن نضرب لهذا بأي مثال، كالحكمة والرحمة مثلاً، فالله عز وجل وصف نفسه بذلك، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وكلمة (حكمة) من الكلمات المطلقة مثل كلمة (وجود)، ومثلها كلمة: (رحمة) و(علم)، إذ لا يمكن أن تنطبق على المعين إلا إذا قرنت بمعين، ومع ذلك قبل أن تقترن بمعين فهي كلمة في الذهن، ولذلك قالوا: في الأذهان وليس في الأعيان، كما أنهم قالوا: إنها بمعنى الإطلاق، والاسم المطلق هو الاسم المجرد عن الموصوف، فنأتي باسم ولا ندري من نقصد به! مع أنه لا يوجد اشتراك بين المسميات إلا في اللفظ، حتى المخلوقات كلها تشترك في كثير من الصفات، لكن بعض الألفاظ المشتركة فيها تباين عظيم جداً، فوجود العرش غير وجود البعوضة -وهذا في المخلوقات نفسها- فالتفاوت بينها تفاوت لا يكاد يتصور من الفوارق العظيمة الهائلة، ولله المثل الأعلى، فكيف بإطلاق اللفظ على الله عز وجل إذا أطلق؟! فالألفاظ والمعاني والأسماء المجملات عند الإطلاق لا تعني شيئاً، وعند التقييد لا بد أن يلتزم فيها ما يليق بمن أطلقت له، ويبقى اللفظ مشتركاً، والاشتراك لا يعني التشابه والمماثلة إلا في اللفظ، والاشتراك اللفظي ليس اشتراكاً حقيقياً بين الخالق والمخلوق بالذات، بل لا يمكن أن يكون الاشتراك اللفظي بين الخالق والمخلوق اشتراكاً حقيقياً في الكيفيات، وإنما هو اشتراك لفظي فقط، وهذا الاشتراك اللفظي وإن وجد لا يوجب نفي الأسماء والصفات عن الله عز وجل؛ لأننا نعلم علم اليقين أن هذه الألفاظ المشتركة إذا أطلقت على الله عز وجل أطلقت عليه بما يليق بجلاله وعظمته، وأنه ليس كمثله شيء، وإذا أطلقت على المخلوقات فإنها تليق بالمخلوقات من حيث إنها ناقصة وزائلة وفانية، ويعتريها النقص من كل وجه، ففرق بين هذا وذاك.
ولابد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
وكذلك سمى الله نفسه عليمًا حليمًا، وسمى بعض عباده عليمًا فقال: وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28]، يعني: إسحق، وسمى آخر حليمًا، فقال: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101] يعني: إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم.
وسمى نفسه سميعًا بصيرًا، فقال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58]، وسمى بعض عباده سميعًا بصيرًا فقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2]، وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير.
وسمى نفسه بالرءوف الرحيم، فقال: إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة:143]، وسمى بعض عباده بالرءوف الرحيم، فقال: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، وليس الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم.
وسمى نفسه بالملك، فقال: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر:23]، وسمى بعض عباده بالملك، فقال: وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]، وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [يوسف:50]، وليس الملك كالملك.
وسمى نفسه بالمؤمن المهيمن، وسمى بعض عباده بالمؤمن، فقال: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]، وليس المؤمن كالمؤمن.
وسمى نفسه بالعزيز، فقال: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23]، وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ [يوسف:51]، وليس العزيز كالعزيز.
وسمى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر، فقال: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35] وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر، ونظائر هذا متعددة ].
إن كل النصوص السابقة تمثيل للقاعدة السابقة في أسماء الله عز وجل، وأن كون أسماء الله عز وجل مشتركة مع أسماء المخلوقين أو مع أسماء بعض المخلوقين، لا يقتضي الاشتراك في الكيفية، وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: لا يقتضي التشبيه، ولو قلنا: إنه تشبيه، معناه: أنه لابد أن نصادم النصوص، ويضطر من يقول ذلك بإلغاء النصوص وردها، وهذا كفر صريح، وكذلك العكس، فلو قال: أنها تقتضي التشبيه، فقد خالف النص القطعي وبداهة العقول من أن الله عز وجل ليس كمثله شيء.
إذاً: فالمسلم لا يجمع بين هذا وذاك، وكل ما سبق هو في تطبيق القاعدة في أسماء الله عز وجل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك، فقال: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، وقال: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، وقال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58]، وقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15]، وسمى صفة المخلوق علمًا وقوة، فقال: وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا [الإسراء:85]، وقال: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]، وقال: فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ [غافر:83]، وقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً [الروم:54]، وقال: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ [هود:52]، وقال: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] أي: بقوة ].
هنا يحسن التنبيه على خطأ يقع فيه كثير من المتعلمين أو المتأملين لهذه الآية، وذلك حينما يستشهدون بها على أنها دليل لإثبات اليد، وهذا خطأ، فالآية ليست دليلاً من أدلة إثبات اليد؛ لأن الأيد هنا القوة، وليس المقصود بالأيد هنا الجمع، وإنما المقصود به المفرد، وعليه فالأيد لفظ من ألفاظ ومعاني: القوة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ [ص:17] أي: ذا القوة، وليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة.
ووصف نفسه بالمشيئة، ووصف عبده بالمشيئة، فقال: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]، وقال: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:29-30].
وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:67].
ووصف نفسه بالمحبة، ووصف عبده بالمحبة فقال: فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، وقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ [آل عمران:31].
ووصف نفسه بالرضا، ووصف عبده بالرضا، فقال: رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [البينة:8].
ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه.
وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10]، وليس المقت مثل المقت.
وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، وقال:إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16]، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد.
ووصف نفسه بالعمل، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71]، ووصف عبده بالعمل فقال: جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] وليس العمل كالعمل.
ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة، فقال: وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52]، وقال: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ [القصص:62]، وقال: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا [الأعراف:22]، ووصف عباده بالمناداة والمناجاة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4]، وقال: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12]، وقال: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المجادلة:9]، وليس المناداة ولا المناجاة، كالمناجاة والمناداة.
ووصف نفسه بالتكليم في قوله وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وقوله: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، وقوله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ [البقرة:253]، ووصف عبده بالتكليم في قوله: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54]، وليس التكليم كالتكليم.
ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة، فقال: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم:3]. وليس الإنباء كالإنباء.
ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم، فقال: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4]، وقال: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ [المائدة:4]، وقال: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164]، وليس التعليم كالتعليم.
وهكذا وصف نفسه بالغضب، فقال: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ [الفتح:6]، ووصف عبده بالغضب في قوله وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [الأعراف:150]، وليس الغضب كالغضب.
ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبعة مواضع من كتابه أنه استوى على العرش، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره، في مثل قوله: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف:13]، وقوله: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون:27]، وقوله: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44] وليس الاستواء كالاستواء.
ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال: وَقَالَتِ اليهود يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة:64]، ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم، ونظائر هذا كثيرة.
ومن قال له علم كعلمي، أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضا كرضاي، أو يدان كيداي، أو استواء كاستوائي، كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات، بل لا بد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل.
ويتبين هذا بأصلين شريفين، ومثلين مضروبين -ولله المثل الأعلى- وبخاتمة جامعة ].
سيفصل الشيخ رحمه الله ما أجمله هنا، مع أنه قد فصل في الأمثلة، لكن أيضاً سيفرع على هذه القاعدة قواعد ثمينة ذهبية جيدة تدل على إحكام هذا المنهج الذي قامت عليه عقيدة السلف، وهو منهج -كما ترون- يعتمد على نصوص الكتاب والسنة، والشيخ هنا في معرض رده على أهل الأهواء والبدع الذي صاروا يثيرون الإشكالات والشبهات والمطاعن على منهج السلف لا يستدل عليهم إلا بالقرآن، فماذا سيقولون؟! ليس عندهم إلا ما عند أهل الأهواء من الزيغ والتلبيس والحيدة عن الحق، نسأل الله العافية والسلامة.
وفي الفصل الآتي سيبدأ بالأصول التي تبنى عليها قواعد الأسماء والصفات في الرد على المعطلة والمؤولة، وسترون أن الشيخ فعلاً في مستهل هذا الفصل سيبدأ بالأصلين اللذين يمثلان القاعدة في الرد على المعطلة وعلى المؤولة بجميع أصنافهم، سواء من أول صفة واحدة، أو من أول عدداً من الصفات، أو من أول جميع الصفات، فقد بنى قاعدة الرد عليهم على أصلين، أحدهما: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، والثاني: القول في الصفات كالقول في الذات.
ثم يستكمل بعد ذلك بقية القواعد على نحو ما سيأتي.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر