نحتاج إلى أن نبيّن وجه القاعدة حتى نعرف ما بعدها.
فهو يقول رحمه الله: إن النفاة، سواء النفاة المعطّلة الخُلّص، أو من دونهم الذين ينفون شيئاً ويثبتون شيئاً كالمعتزلة، أو أهل الكلام الخُلّص من متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فهؤلاء يخلطون خلطاً يجعل الإنسان الجاهل غير المتمكن في العقيدة يشتبه عليه الأمر، فيخلطون بين النقص الخالص وبين ما يُشعر بالنقص من وجه عند السامع دون إضافة اللفظ، فإذا أُضيف اللفظ إلى الموصوف زال الإشكال، أو كان السياق يدل على الكمال.
وهناك ألفاظ هي نقص بحت، مثل: الحزن والبكاء، والأكل والشرب، فهذه تنفى عن الله عز وجل؛ لأنه ليس له وجه من الحق، ولا تحتمل معنى من المعاني الذي يكون فيه كمال، بعكس ما أثبته الله لنفسه من بعض الأمور التي لو أُفردت لكان فيها وجه نقص، لكن ما جاء في سياق يدل على الكمال كانت كمالاً، مثل: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، فجاءت في مقابل المجازاة، فليست بنقص، فهو مكر بمعنى المجازاة لهم بحق على عملهم الذي استحقوه، وهو من باب العدل، لكن هم جعلوا هذا مثل ذاك، فجعلوا النقص الخالص مثل العبارة التي قد تُشعر بالنقص إذا جاءت في سياق، لكنها في سياق آخر لا تدل على النقص، وإنما تدل على الكمال، فهم خلطوا بين هذا وذاك.
ولذلك إلى الآن غير هؤلاء المتكلمين، وخاصة هؤلاء الذين بدءوا يرفعون رأس التصوف، أو راية التصوف، ومن رءوس البدع الجدد بدءوا الآن يوهمون الناس أن أهل السنة والجماعة مجسّمة ومشبّهة، ويقولون: إنهم أخذوا التجسيم والتشبيه عن اليهود، وصدرت في هذا كتب، ويزعمون أن عقيدة أهل السنة والجماعة هي امتداد لعقيدة اليهود، ويقولون: إن أهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل اليد والعين والحزن والبكاء، وهذا قد قالوه قبل مائتي سنة، وذلك حين حشدوا جيوشهم ضد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وسلّطوا ألسنتهم وأقلامهم فقالوا هذا الكلام، ونسبوا إلى السنة ما لا يقولون به؛ لأنهم لما قيل لعقلائهم: لماذا قلتم هذا؟! قالوا: من باب الإلزام، فما دمت تثبت اليد والوجه فيلزمك أن تثبت ما عداها من الأعضاء والجوارح! بينما أهل السنة لم يقولوا بذلك، ولما قيل لهم: لماذا اتهمتم أهل السنة بذلك؟ قالوا: لأنهم يثبتون اليد، واليد جارحة وعضو، وهذا يشتبه على كثير من السامعين الذين ليس لديهم فقه في العقيدة، والذين لم يتشربوا العقيدة، فيظنون أن شبهتهم صحيحة، مع أنهم لو عرفوا العقيدة لفرقوا بين هذا وذاك، إذ إن إثبات ما أثبته الله لنفسه على وجه الكمال، لا يعني إثبات ما قرروه هم بهذه الأشياء المثبتة، فهم جعلوا مع إثبات الوجه واليد إثبات جوارح أخرى لم يثبتها السلف ولم يقولوا بها، وإنما قالوا ذلك باللازم، ولازم المذهب ليس بلازم، ومثل ذلك الكلام عن الحزن والبكاء، فلما نفوا الحزن والبكاء -وهو لا يليق بالله عز وجل- نفوا ما يرون أنه مثله من الرحمة أو الغضب .. وغير ذلك من الصفات التي يظنون أنها من شاكلة الحزن والبكاء، فخلطوا بين الحق والباطل، ولبّسوا الحق بالباطل، فأراد الشيخ هنا أن يبيّن وجه الخطأ عندهم، ووجه الباطل الذي التزموه، أو أرادوا أن يلزموا به أهل الحق بغير حق.
قال رحمه الله تعالى: [ فإن كثيراً من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم والتحيز .. ونحو ذلك، ويقولون: لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسماً أو متحيزاً، وذلك ممتنع.
وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم هؤلاء الملاحدة، نفاة الأسماء والصفات، فإن هذه الطريقة لا يحصل بها المقصود لوجوه ].
يقول: إن أهل الكلام الذين لم ينفوا الأسماء وأثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضها، إذا استعملوا هذه الطريقة ألزمهم الذين هم أشد غلواً في النفي، وهم الملاحدة من الجهمية وغلاة المعتزلة الذين ينفون الأسماء والصفات أو ينفون الصفات، فسماهم ملاحدة، لا لأنهم ملاحدة بأعيانهم، لكن لأن منهجهم هو منهج الملاحدة؛ لأن الملاحدة هم الذين ينفون النفي المطلق، فيقول: استظهروا عليهم، بمعنى: انتصروا عليهم، وقالوا: أنتم إذا كنتم تقولون هذا فمعنى ذلك: أن الأسماء والصفات التي تصفون بها الله ينطبق عليها هذا الكلام، فأهل الكلام عندما قالوا: ننفي اليد والوجه والاستواء والنزول؛ لأنها لا تليق بجلال الله عز وجل، لكن نثبت السمع والبصر، قال لهم المعتزلة نفاة الصفات: ما أثبتم فيما أثبتموه مثل ما نفيتموه، فوجه التجسيم والتشيبه كما أنه موجود في اليد والعين موجود في السمع والبصر، وعليه فيلزمكم أن تنفوا الجميع، ثم جاءت الجهمية للمعتزلة فقالوا: ما دمتم أنكم تثبتون الأسماء فمعنى هذا: أنكم أثبتم التجسيم؛ لأن الأسماء لا بد لها من موصوف له ذات، وإذا وجد له ذات فهذا التجسيم، فإذاً أنتم أيها المعتزلة مجسّمة، ثم صار كل واحد ينتصر على الآخر بمبدأ، ولذلك أهل السنة والجماعة أخذوا بأصل القرآن والسنة بالإحكام، يعني: أنهم لا يجيزون أن ينفذ على قاعدة الإثبات ولا مقدار دبّوس؛ لأن هذا يخرم القاعدة كلها، فلم يتساهلوا في التأويل، والسلف الصالح لا يجيزون أي نوع من أنواع التأويل؛ لأنهم قالوا: إذا أوّلنا الصفات أو تساهلنا مع مؤول استظهر عليه من يؤول أكثر من صفة، فالذين لا يثبتون إلا سبع صفات يقول لهم الذين ينفون الصفات كلها: ما نفيتموه موجود فيما أثبتموه، ثم يأتي المعطّلة الخُلّص ويقولون: إن العلّة التي نفيتم بها الصفات موجودة في الأسماء التي تثبتونها، وهكذا، فهذا هو معنى استظهار، وهو مما جعل بعضهم يرد على بعض، ولذلك أهل السنة والجماعة -بحمد الله- كفوا في كثير من الردود على هؤلاء برد بعضهم على بعض، يعني: رد الجهمية على المعتزلة ينتصر به أهل السنة، ورد المعتزلة على الأشاعرة ينتصر به أهل السنة، ورد الأشاعرة والماتريدية على المعتزلة فيه نصر للسنة من وجه يجعل أهل السنة يقولون للأشاعرة: ما رددتم به على المعتزلة نرد به عليكم، ويقال لهؤلاء كلهم: ما رددتم به على الجهمية نرد به عليكم، وفعلاً أقوى سلاح عقلي -لمن ولجوا في هذه الأبواب، مثل: شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم صاحب كتاب: (الصواعق المرسلة)- على المتكلمة الذين زعموا أنهم ردوا على الجهمية والمعتزلة هو سلاحهم الذي رد به أهل السنة عليهم، فقالوا: مسألة التجسيم مسألة ليس لها ضابط، فما دمتم أثبتم السمع والبصر فخصمكم يقول: إن فيها تجسيماً، ولذلك إن صح التعبير: فإن الخُلّص المعتزلة قالوا للأشاعرة -وبالفعل قالوها في عدة مقامات، وكتبوها بشكل واضح-: إن السلف أصدق منكم اعتقاداً وإن كنا نخالفهم؛ لأنهم لا يتناقضون، فمبدؤهم واحد، لكن أنتم ليس عندكم مبدأ، لذا فتثبتون الرؤية ثم تقولون: إلى غير جهة، وهذا غير معقول، فإما أن تثبتوا الرؤية مثل أهل الحديث، أو تنفوها، لكن تُثبتون شيئاً وتنفون شيئاً من الصفات فهذا لا يستقيم! ولذا فكل فريق يستطيع من خلاله أهل السنة والجماعة أن يستفيد في رده عليه بما رد به على الآخر.
أحدها: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهر فساداً في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم ].
فمثلاً: الأكل والشرب والحزن والبكاء هذه يردها العاقل بدون أن نقول: إنه تجسيم، ولا ننفيها عن الله لمجرد أنها تجسيم، بل ننفيها عن الله لأنها غير لائقة أصلاً بحد ذاتها، لذا ليس هناك داع لأن نضيفها إلى مبدأ آخر، ونتكلف ونجر أذهان الناس إلى شيء مشتبه، وأكثر الناس قد لا يفهم؛ لأننا لو قلنا: إن الكثير من الناس غير متخصصين، أننا ننفي هذا؛ لأنه تجسيم، لم يفهم ما معنى تجسيم، لكن لو قلنا: ننفي هذه النقائص لأنها غير لائقة بالله، سيفهم كل إنسان ذلك؛ لأنه يشعر بأن هذه غير لائقة بالله، لا لأنها تجسيم، وإن كانت تشعر بالتجسيم، مع أن كلمة (التجسيم) كلمة مشتبهة.
إذاً: ليس السبب في نفيها هو مجرد أنها تشعر بالتجسيم فقط، بل تنفى هذه النقائص عن الله عز وجل لأنها نقائص خالصة لا تُشعر بكمال مطلقاً.
قال رحمه الله تعالى: [ فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك، وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام ].
يعني: أن الذي يمثّل الله بالخلق تمثيلاً جزئياً أو كلياً، أو يمثل الخلق بالله تمثيلاً جزئياً أو كلياً، فهو كافر بالإجماع.
قال رحمه الله تعالى: [ والدليل معرِّف للمدلول ومبيّن له، فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفى، كما لا يُفعل مثل ذلك في الحدود ].
ولذلك التكلّف في إثبات البدهيات يسبب الشك والاضطراب في القلوب والعقول، ولذا من البدهي أن الله عز وجل لا يليق به أن يوصف بهذه الصفات؛ لأنها صفات نقص، فلا يحتاج أن نذهب لنأتي بأدلة ملتوية لنثبت أنها نقص؛ لأنها بالفطرة معروفة، وكذلك إثبات الكمال لله عز وجل لا يحتاج إلى تكلف كبير؛ لأنه فطري وبدهي، ولذلك لما تكلم السلف في هذه الأمور، وتكلموا في المسلك الكلامي في إثبات الحقائق، قال السلف: إن المسلك الكلامي في إثبات الحقائق يؤدي إلى الشك قبل أن يؤدي إلى اليقين، فيوقع الناس في ريب؛ لأن ثبوت الحقائق مبني على العقل السليم والفطرة المستقيمة، وأننا كلما تكلفنا في أدلة خارجية لإثبات البدهيات أوجد الشك أكثر مما يوجد اليقين، ولذلك لما قال أحد تلاميذ الرازي لما سألته امرأة عن هذا من هو؟ قال: هذا فلان بن فلان، ووضع عليه من الصفات والتبجيل الشيء الكثير، ثم قال لها: هذا شيخنا الرازي الذي يملك ألف دليل على وجود الله، فضحكت وقالت: تعس والله وخسر، أفي الله شك؟! إذاً: عنده ألف شك؛ لأننا لا نحتاج إلى أن نأتي بألف دليل على وجود الله، ولذلك التكلف في هذه الأمور يوجب الريب والشك، فعلى سبيل المثال: لو أنك في الصحراء مع مجموعة من الناس، والشمس طالعة، ثم قلت لهم: أرى الشمس طالعة، فيردون عليك: نعم لا شك أنها طالعة، لكن لو قلت لهم: أثبتوا لي أنها طالعة، فكيف سيكون الموقف؟! لاشك أنهم سيقولون لك: إن في عقلك خللاً، وإن كان هزلاً؛ لأن هذا ليس فيه مجال حتى ولو للهزل، فالأمر لا يحتاج إلى أن نبرهن على أن الشمس طالعة؛ لأن وجودها يبهر العيون.
يعني: أن نفي صفات الكمال هذه أيضاً متفاوتة بينهم، فالجهمية ينفون كل صفات الكمال بدعوى أنها تقتضي التجسيم، والمعتزلة ينفون الصفات بدعوى أنها تقتضي التجسيم، فالذي عنده نفي جزئي، أو نفي كلي.. كلهم قاعدتهم واحدة وتهدم أصولهم وعقائدهم؛ لأنهم ينفون صفات الكمال بدعوى أنها تجسيم، وكل واحد منهم يقول للآخر: أنت جسمت فيما أثبت، حتى لا يبقى إثبات؛ لأن كلمة (التجسيم) كلمة وهمية.
إذاً: كيف يقولون: إن إثبات صفات الكمال في حق الله تجسيم؟! الله عز وجل ليس كمثله شيء، لكن توهمهم بمختلف طبقاتهم أن الإثبات تجسيم، سواء من ينفي نفياً جزئياً، أو ينفي نفياً كلياً، مع أن التجسيم ما هو إلا وهم وخيال في رءوسهم لا حقيقة له، ومن هنا وقعوا في هذه المعضلات.
إن أهل السنة -بحمد الله- يلزمونهم جميعاً بالحق.
هؤلاء متكلمة الأشاعرة والماتريدية الذين يثبتون هذه الصفات، بل وبعضهم قد يزيد، وهذا دليل الخذلان في مثل هذه الأمور، أعني: خذلان المنهج لا الأفراد، فالأفراد قد يكون فيهم من عنده اجتهاد يؤجر عليه، لكنه أخطأ، لكن خذلان المنهج يعني: اضطراب المنهج، ففي الوقت الذي يثبتون فيه هذه السبع الصفات مثل: الماتريدية وينفون ما ثبت من الصفات الأخرى في القرآن والسنة، أتوا بصفة من عندهم اسمها (التكوين)، فصارت ثماني صفات، فنقول لهم: من أين أتيتم بهذه الصفة؟! فأنتم الآن نفيتم ما ثبت لله عز وجل، وأتيتم لنا بصفة لا أصل لها، ولذلك الماتريدية يثبتون ثماني صفات، والأشاعرة يثبتون سبع صفات، وهي الحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر، والإرادة، وقد جاء في بعض المقابلات التلفزيونية التي أشكلت على كثير من طلاب العلم في الآونة الأخيرة، من أن بعض المشايخ يقول: إن الأشاعرة يثبتون عشرين صفة أو أكثر، وحتى الماتريدية يتفاوتون، فمنهم من يثبت أكثر من ثمان، فيثبت ثلاث عشرة صفة، أو عشرين، أو اثنتين وعشرين، ومنهم من يثبت عموم الصفات وهو من الأشاعرة الماتريدية، لكن يتأول بعضها، وخاصة الصفات الفعلية، لذا فالكلام إنما هو على المنهج العام لا على حال الأفراد أو بعض المدارس أو الاتجاهات، فليس كل الأشاعرة لا يثبتون إلا هذه الصفات، وليس كل الماتريدية لا يثبتون إلا هذه الصفات.
قال رحمه الله تعالى: [ فمثبتة الصفات كالحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر، إذا قالت لهم النفاة كالمعتزلة: هذا تجسيم؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بالجسم، أو لأنا لا نعرف موصوفاً بالصفات إلا جسماً. قالت لهم المثبتة: وأنتم قد قلتم: إنه حي عليم قدير، وقلتم: ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجوداً حياً عالماً قادراً إلا جسماً، فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن. وقالوا لهم: أنتم أثبتم حياً عالماً قادراً، بلا حياة ولا علم ولا قدرة، وهذا تناقض يعلم بضرورة العقل ].
إن غالب من يقعون في هذه الأمور المعضلة هم أناس يظنون أن هذا من تعظيم الله عز وجل وتنزيهه، فعوّلوا على عقولهم وتشرّبوا مذاهب الفلاسفة، وظنوا أن فيها شيئاً من أصول التنزيه، واغتروا بذكائهم فوقعوا فيما وقعوا فيه، ولو سلّموا لله عز وجل، وسلّموا لكتابه، ولما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، والتزموا سبيل المؤمنين، وفوّضوا علم ما لم يعلموه إلى عالمه سبحانه، وهذا ما يجب أن يكون عند الوقوع في مثل هذه المعضلات، لكان خيراً لهم، لذا فكيف يجرؤ إنسان أن يقول: إن الله حي بلا حياة، أو عليم بلا علم، أو سميع بلا سمع، أو قدير بلا قدرة؟! فهو كمن بنى ثم هدم ما بنى، ولذلك الشيخ يناقشهم أحياناً بالبدهيات فيقول: هذا تناقض يُعلم بضرورة العقل، فلا يُعقل أن يكون عليماً بلا علم، لكن الحاصل أنهم التزموها لأنهم إذا أثبتوا العلم أثبتوا تعدد الصفات، وإثبات الصفة وتعدد الصفات لابد أن يكون دليلاً على موصوف له وجود حقيقي ذاتي، لكنهم يهربون من الوجود الحقيقي الذاتي، فيثبتون معاني فقط، لكن إذا انتقلت هذه المعاني إلى صفات، فلابد أن تكون الصفات دليلاً على موصوف، والأفعال لا بد أن تكون خارجة من فاعل، وهذا يدل على ثبوت وجود حقيقي ذاتي لله عز وجل، لكن ما ذكرت فهم يهربون من ذلك، وسبق أن ذكرت أن معضلة هؤلاء كلهم ابتداء من الفلاسفة، ثم من دونهم من المتكلمين، ثم من دونهم ممن وقع في التأويل: أنهم لا يثبتون لله وجوداً حقيقياً ذاتياً، فيرون وجود الله وجوداً معنوياً اعتبارياً، ولذلك قالوا: الاستواء هو الاستيلاء، والنزول هو نزول الرحمة، وفي سائر الصفات وخاصة الفعلية اضطروا للتأويل، فقالوا: العلو علو القدر؛ لأنهم إذا قالوا: علو ذاتي، لزمهم أن يثبتوا الاستواء، ولزمهم أن يثبتوا لله وجوداً يستحق به العلو الذاتي، فهم لا يريدون أن يثبتوا لله في أذهانهم ولا في عقائدهم، وهذا نزعة فلسفية، فالفلاسفة كلهم على مختلف مناهجهم يمكن أن نجمع مذهبهم وفلسفتهم في وجود الله على أن وجود الله مجرد وجود معنوي، أو وجود قوة تسيّر الكون، وهذه القوة قوة معنوية ليست ذاتية، فلذلك صرفوا عنه الأسماء والصفات، أو صرفوا عنه الصفات، أو صرفوا عنه الصفات الفعلية، وكل أخذ من هذا الباطل بقدر، ولذلك الذي لا يعتقد لله وجوداً ذاتياً لا يستطيع أن يثبت الاستواء ولا العلو ولا النزول ولا المجيء، ولا أن يثبت بقية الصفات الفعلية؛ كالكلام .. وغيره؛ لأنه لا يرى أن لله وجوداً ذاتياً، ومن هنا نجد كما ذكر علماء السلف، بل ووجدنا هذا في الدروس المعاصرة، أن الذين تشرّبوا هذه العقيدة وفقهوها -وهم قلة- لا يطيق سماع الأحاديث التي تُثبت الصفات، بل قد يخرج من الدرس ويكاد أن يمزّق ثيابه؛ لأنه يظن أن هذا تجسيم، لذا فهؤلاء خلطوا بين هذا وذاك، ونحن نقول: الله عز وجل له وجود يليق بجلاله، وليس وجوده الذاتي يعني ضرورة التجسيم أو التشبيه أو التمثيل، فكل هذه أوهام وتخرصات.
قال رحمه الله تعالى: [ ثم هؤلاء المثبتون إذا قالوا لمن أثبت: أنه يرضى ويغضب، ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول، والإتيان والمجيء، أو بالوجه واليد .. ونحو ذلك، إذا قالوا: هذا يقتضي التجسيم، لأنا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم ].
فعلاً هم يقولون: لا نعرف، ومن قال: إن أمر الغيب مرتبط بمعرفتهم؟! أيضاً نقول لهم: لو دمتم ومشيتم على هذه القاعدة لوصفتم الملائكة بأوصاف المشاهدات؛ لأنه لا نعرف ذوي أجنحة إلا يكون كذا وكذا، في حين أن الملائكة غيب بحت، مع أنها مخلوق، فلا يستطيعون أن يضعوا للملائكة أي تصور تمثيلي أو تشبيهي، لأن ذلك غيب خالص -ولله المثل الأعلى- فكيف بالله عز وجل؟ إذاً: قولهم: إنا لا نعرف ما يوصف بكذا إلا كذا، فقد شبّهوا، ولذلك بعض الناس يظن -وقد كتب بعض الكُتّاب في هذه المسألة- أن شيخ الإسلام وغيره ممن قال: بأن أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة مشبّهة، وأنهم ما وقعوا في التعطيل إلا عندما مروا بالتشبيه، فبعض الناس يظن أن هذه مبالغة، وهي ليست مبالغة أبداً؛ لأنهم ما وقعوا في التعطيل والتأويل إلا حينما اعتقدوا التشبيه، فأرادوا أن يفروا من اعتقادهم إلى التعطيل، فوقعوا في عقيدتين متناقضتين؛ لأنهم ما أولوا ولا عطّلوا إلا حينما شبّهوا، فصار هذا التعطيل مرتبطاً باعتقادهم بالتشبيه، ومعلوم أنهم نفوا التشبيه، لكن بعد أن اعتقدوه، ولذلك قالوا: لا نعرف ما يوصف بهذه الصفات من اليد والوجه والاستواء والنزول والمجيء إلا ما هو جسم، فرد عليهم السلف فقالوا: إن هناك أشياء فيكم أنتم، كالروح التي تعرج وتصعد وتنزل، فهل هي جنس؟ هذه المعضلات لا يستطيعون أن يردوا عليها، فبعضهم ادعى أن الروح جسم، فما معنى أن كونها جسماً؟ وهل مجرد الوجود يسمى جسمية؟ لا، فهي موجودة، لكن هل هي جسم؟ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] فإذا كانت الروح لا نجزم فيها بشيء وهي مخلوقة، ونعلم أنها تتصف بصفات ما نشاهدها، لكنها ليست كما نشاهدها؛ لأن الله عز وجل نفى العلم بها، ولو كانت الروح مثل ما نشاهده من الأجسام لما نفى العلم بها، يعني: بحقيقتها وبكيفيتها.
قال رحمه الله تعالى: [ قالت لهم المثبتة: فأنتم قد وصفتموه بالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، وهذا هكذا، فإذا كان هذا لا يوصف به إلا الجسم فالآخر كذلك، وإن أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك، فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين.
ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقاً فاسداً، لم يسلكه أحد من السلف والأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً، ولا بالجوهر والتحيز .. ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقاً ولا تبطل باطلاً، ولهذا لم يذكر الله تعالى في كتابه فيما أنكره على اليهود .. وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة ].
على أي حال مما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن من الحقائق التي لا مرية فيها: أن لله وجوداً واقعياً لا نحتاج إلى أن نتكلف فيه، والذين احتجوا بنفي الصفات بمثل هذه الأمور، من التجسيم أو التشبيه أو المماثلة أو النقائص .. أو غيرها لا يتفقون على تحديد هذه المصطلحات، فالقائلون بالجسمية لا يتفقون على معنى الجسمية، وعليه فكيف يتفقون على النفي وهم ما اتفقوا على العلّة التي نفوا بها، لكن الشيطان سول لهم، وكذلك المعاني التي بها هدموا العقيدة لا يتفقون عليها، فليس عندهم اتفاق، بل خاصة أن كبراءهم يعتدي بعضهم على بعض، ويسب بعضهم بعضاً، ويوالون ويعادون على مفاهيمهم الخاصة حول هذه المصطلحات، وهذا ناقض مهم جداً، ونرجو ألا يتعرض طالب العلم في هذا اليوم لمثل هذه الأمور، لكن نظراً لأن الدرس متخصص نحب أن ننبه على الأساسيات: أن هذه الأمور التي نقضوا بها العقيدة هم لا يتفقون عليها، فنقول: اذهبوا واتفقوا أولاً على هذه المعاني لتكون لكم مرجعاً، ثم بعد ذلك نجد -إن شاء الله- من القواعد الشرعية والعقلية ما يهدمها، لكن يكفي أنها تنهدم بمجرد أنكم لا تتفقون عليها كمصطلحات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر